لعل البحث عن البدايات، متى ظهرت الحياة على سطح الأرض، من أين جئنا، هل نحن نتاج تطور أعمى من خلية بسيطة تراقصت جزيئاتها في بركة مائية ساخنة، أم إننا مخلوقات طينية نُفِخَت فيها الروح بالأعلى وهبط ابوينا الأرض بعد أن ازلهما الشيطان؟.

لطالما داعبت هذه الأسئلة أدمغة الكثيرين منا، و شكلت لغزاً عميقاً وجزءاً رئيساً من التاريخ البشري. الإجابة على هذه الأسئلة يعتمد في الغالب على الإنتماء والتوجه (العَقَدي) وليس القيم الموضوعية التي نختارها لتعريف “الحياة”.

في الحقيقة، لايوجد في كتب الأحياء تعريف واضح للحياة، وكيف بدأت مغامرة الكائن الحي على الكوكب الأزرق. في الوقت الذي نرى فيه أغلب علماء الأحياء يدافعون عن مفهوم التطور والإرتقاء لتفسير التنوع الحاصل بين الكائنات، نجدهم في نفس الوقت يغضون الطرف عن المشهد الأول لولادة الحياة. نشر الكيميائي الروسي الكسندر أوبارين عام 1924 كتابه أصل الحياة The Origin of Life، الذي طرح فيه تصوره عن البدايات وبَين أنه لا يوجد أي فرق جوهري بين الكائن الحي والمادة غير الحية، وأن الخصائص والمميزات المعقدة للحياة قد نشأت كجزء من عملية تطور المادة غير الحية.

اقترح أوبارين أنَّ مناخ الأرض في بدايته كان مزيج من عِدة غازات مثل، الميثان والأمونيا والهيدروجين وبخار الماء وهي المواد الخام لتطور الحياة. لم يتمكن أوبارين من القيام بتجارب أو أبحاث لإثبات صحة هذه الأفكار، ورغم ذلك فقد تبنى الإتحاد السوفيتي هذه النظرة كونها تدعم التفسيرات المادية للظواهر العميقة والحساسة للحياة.

وبعبارة آخرى ” تم قبول هذه الأفكار لأنها لم تكن بحاجة لخالق“. سيطرت فرضية أوبارين و هالدين على خيال الكثير من الباحثين لكنها بقيت مجرد فرضية لم تُختبر حتى عام 1953 عندما قام ستانلي ميلر والمشرف على رسالته للدكتوراه هارولد يوري (الحائز على جائزة نوبل للكيمياء عام 1934) بإنتاج بعض الوحدات البنائية، إثنين من الأحماض الأمينية (الجلايسين وألانين: وهما أبسط حمضين أمينين موجودين في البروتين) من خلال توزيع أربع مواد كيمياوية (الهيدروجين والأمونيا والميثان والماء المغلي) في سلسلة من القوارير الزجاجية وتمرير تيار كهربائي متقطع، لمحاكاة الصواعق التي يُعتقد أنها أوقدت شرارة التفاعلات الكيمياوية في الأرض البدائية.

أثارت هذه التجربة شغف المجتمع العلمي وتم نشر نتائج التجربة في مجلة prestigious journal Science عام 1953. لكنها اليوم لاتمثل حقيقة أصل الحياة، وبشهادة عدد كبير من علماء الكيمياء والجيولوجيا إتضح أن الغلاف الجوي المبكر للأرض كان مزيجاً مختلفاً من الغازات التي اقترحها ميلر ويوري في تجربتهما. ومنذ ذلك الوقت، أدرك العلماء أن تفسير الشكل الأولى للحياة أكثر تعقيداً من إعتقاد أي شخص. وبتقدم التكنولوجيا إتضح أن الخلايا الحية ليست مجرد” بالون بسيط ممتليء بمادة هلامية” كما وصفها عالم الأحياء الألماني (إرنست هيكل).

وبشكلٍ مفاجئ، خَفَت صوت الباحثون عن أصل الحياة وتبيَن أن إمكانية صنع خلية حية أصبح مشروعاً محفوفاً بالمخاطر. لكن العقدين الأخيرين شهد محاولات جريئة لعلماء الأحياء التركيبية، تهدف الى إنشاء خلايا اصطناعية، عبر تجميع بعض الجزيئات حيوية المنشأ وبناءها معاً في منظومة تحاكي ملامح الحياة البدائية والحالية، والتي تشترك بصفاتها البيولوجية في النمو، الإنقسام، الأيض و إدارة المعلومات الخلوية.

المثير للدهشة، أن هذه الأبحاث دائماً ماتُمَول بمبالغ طائلة، ويتم نشر نتائجها في أفضل الدوريات العالمية حتى وإن كانت مجرد تكهنات غير منطقية (1,2,3). في عام 2017، منح برنامج Dutch Gravitation (21,3 مليون دولار) لفريق بحثي هولندي للقيام بمشروع “بناء خلية اصطناعية”، يُشار إليها اختصارًا BaSyC))، وهي مجموعة تهدف إلى بناء “نظام يشبه الخلية، ينمو وينقسم” على آمل أن يكتمل خلال العقد القادم. كما أعلنت المؤسسة الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة (NSF) عام 2018 عن أول برامج  للخلايا الاصطناعية، بتمويل يصل إلى 10( ملايين دولار) (4).على الرغم من الهواجس الأخلاقية والفلسفية حول “ماهية الخلية المُصنَعَة” هل يمكن أن نرى خلية صناعية بمواصفات الخلية الحية في عام 2030؟ التحدي لايزال قائماً، والتعقيد الموجود في الخلية لايزال محيراَ.

لذلك فإن ” تجربة الفكر” Gedanken experiment التي أود أن أطرحها هي ماذا لو توفرت المواد الأولية لصناعة خلية حية (بروتينات، كربوهيدرات، دهون، أحماض نووية) بنقاوتها ونسبتها المئوية المطلوبة. هل يستطيع العلم بمختبراته المتقدمة من إعادة ترتيبها وصنع خلية متكاملة التركيب والوظيفة من غشائها الخلوي الذي يحتوي 40,000 حمض دهني الى قلب نواتها التي تحمل اصغر كروموسوم (Y). الجواب هو ” بالتأكيد لا”.

من خلال تجربتي في زراعة الخلايا السرطانية، بمجرد إضافة الإنزيمات المحللة تبدأ محتويات الخلية بالتفكك، ويمكن لأي باحث أن يجمع محتويات الخلية بإنبوبة إختبار بسيطة، لكن من المستحيل أن يُرجع تركيبها الأصلي. لذلك، مالذي يجعلنا نعتقد أن بضعة أحماض أمينية بسيطة في بركة مائية نائية  أنتجت لنا خلية حية. الخلاصة، نحن بعيدون عن فهم أصل الحياة، مهما حاول بعض “العلماء ذوي التمويل المفتوح” من تصويرها وتقديمها على شكل فرضيات كارتونية. تُمثل هذه الطروحات أحد أشكال التعصب العلمي المادي الذي يحاول أن يبني الحياة من مادة لاحياة فيها. لابدَّ لكل باحث عن حقيقة الأصل أن يسير في الأرض وينظر كيف بدأ الخلق، يكتب بصدق ويناقش بعمق.


المصادر :

  1. Dodd, M. S., Papineau, D., Grenne, T., Slack, J. F., Rittner, M., Pirajno, F., & Little, C. T. (2017). Evidence for early life in Earth’s oldest hydrothermal vent precipitates. Nature, 543(7643), 60.

  2. Szostak, J. (2018). How Did Life Begin?. Nature, 557(7706), S13

  3. Wainwright, M. (2014). Astrobiology: Prescient words on comets and life. Nature, 516(7531), 329.

  4. Kendall Powell. (2018). How biologists are creating life-like cells from scratch. Nature, NEWS FEATURE