هناك تلازم بين الرياضة والصحة النفسية فهي تقوى العزم والمثابرة، وتحول أنسجة الجسد إلى قوة، لكنها أيضا تمنح من عطاياها إلى الروح والنفس، فتقوي العزائم، وتجعل الشخص يعيش بحلم، ويسعى لتحقيقه، لذا ترى العدائين يثابرون على الجري في الطرق الطويلة وربما المهجورة لساعات طويلة، لا يعنيهم طبيعة الجو، ولا يؤثر في عزيمتهم أن الآخرين قابعون بين جدران بيوتهم بلا حراك، فالرياضة لا تُنشيء جسدا قويا فقط، ولكنها تنشيء روحا قوية، وعزيمة صلبة، ونفسا قادرة على تحمل الصدمات والألم، وتبث في وجدان أبطالها “أنك إذ رضيت بالقليل ستحصل على القليل”.

منذ سنوات طويلة رفع العداء “بول كامينجز”  Paul Cummings شعار “اركض بقلبك” Run With Your Heart كأسلوب لتحقيق السلام الداخلي والنفسي، أما “دين كارنازيس” Dean Karnazes أسطورة المارثون الأمريكي فكتب في مذكراته “اعترافات عداء طوال الليل“[i] أن الركض كان علاجا نفسيا وروحيا، أخرجه من الكآبة نحو آفاق جيدة للحياة، وقال: “أركض لأنني إذا لم أفعل، فسأكون بطيئًا وكئيبًا، وأقضي الكثير من الوقت على الأريكة، أركض لأتنفس الهواء النقي، أركض لأستكشف، أركض للهروب من المألوف، أركض  لتذوق الرحلة على طول الطريق، لتصبح الحياة أكثر حيوية”، وجادل الذين عارضوه في استغراقه وقتا طويلا في التدريب، قائلا: “الألم هو طريقة الجسم لتخليص نفسه من الضعف.. يعتقد الناس أنني مجنون لأن أعرض نفسي لمثل هذا التعذيب، يبدو أننا قد خلطنا الراحة بالسعادة،  كان دوستويفسكي محقًا عندما قال:”المعاناة هي الأصل الوحيد للوعي”.

الرياضة علاج نفسي

للرياضة أهمية في العلاح النفسي، وفي الوقاية من الأمراض النفسية، وللنشاط البدني تأثير إيجابي على الصحة العقلية، فهو يحسن من القوة النفسية، ويحمي من التوتر والقلق والاكتئاب، وله دور في النمو النفسي والاجتماعي للشخصية، كما أنه عقبة في كثير من الأحيان أمام إدمان المخدرات والمسكرات، ويمنح النفس صلابة في مواجهة تقلبات الحياة والاخفاقات ويُحسن من المزاج، ويُخفض درجات التوتر، ويُحسن النوم، ويُنمي احترام الذات.

مقاومة الاكتئاب من أهم الآثار النفسية الإيجابية للرياضة، وأثبتت دراسة أمريكية أجريت عام 2021 على 70 ألف طالب في المرحلة الثانوية أن الرياضات الجماعية قد تكون أكثر دعمًا للصحة العقلية من الرياضات الفردية، وخلصت دراسات أخرى أن النشاط البدني له فعالية أدوية مضادات الاكتئاب، وأن تأثير التمرينات الرياضة استمر لفترة أطول من تأثير مضادات الاكتئاب، ومن ثم تساهم الرياضة في درء اكتئاب المراهقين، كما أنها تقلل من القلق وأعراضه، وأكدت أبحاث ميدانية أن الطلاب الجامعين الذين يمارسون الرياضة كانوا أكثر حماسة وشغفا من نظرائهم الأقل نشاطا، وأنهم كانوا أقل عرضة بنسبة 25% للإصابة باضطرابات القلق، وأن التمارين المنتظمة يمكن أن تساعد الأشخاص على التعافي من اضطراب تعاطي المخدرات، وأن ممارسة ألعاب القوى في مرحلة المراهقة قد يكون مكافأة صحية جيدة للدماغ.

تشير دراسات أمريكية أن الرياضة قد تساهم في تقليل الانتحار بين الشباب، والمعروف أن الانتحار هو السبب الثالث في الانتحار بين الذكور في تلك المرحلة من 24:15 عاما، وأكدت الدراسة أن الرياضة توفر قدرا من الاندماج الاجتماعي لهؤلاء الشباب، كما أنها تُخفض الفجوة بين المثالية والواقع، وهذا كفيل بتقليلمستويات الاحباط، كما أنها تمنح الشاب فرصة لتطوير ذاته وتنمية مهاراته، وهذا يربطه أكثر بالحياة، وهو ما يخفض حدة الضغوط النفسية والاجتماعية ويسمح بإبعاد شبح الانتحار.

الدراسات النفسية تؤكد أن الروابط الاجتماعية القوية تقلل من الانحراف الفردي، والرياضة تعزز من تطوير الروابط الاجتماعية خلال فترة المراهقة، وتوفر التعرف على أشخاص مؤثرين وفاعلين، مثل المدربيين والرياضيين، وهذا يجعل الشاب يتمسك بالحياة ويرفض فكرة الانتحار، فالرياضة تساهم في بناء الشخصية، من خلال الصداقات وتنمية المهارات الاجتماعية والتواصلية، كما أنها تُكسب الشخص الكثير من القيم الإيجابية، وهذا يزيد من قدرته على الاندماج الاجتماعي، كما أنها تقلل من فرص الاكتئاب، الذي يعد المدخل الرئيسي للانتحار، وفي المجتمع الأمريكي-مثلا- فإن بعض الرياضات القوية، كالبسيبول وكرة السلة أعادت إنتاج قيم ثقافية تتعلق بالرجولة وقوة التحمل والصبر، وأنتجت شعارات إيجابية بين الشباب، وأكدت دراسة نشرت في مجلة “الطب النفسي” الأمريكية عام 2018 أن الانخراط في نشاط بدني بأي شكل لمدة ساعة واحدة على الأقل كل أسبوع، يمكن أن يمنع 12 % من حالات الاكتئاب.

كتاب مذكرات عداء طوال الليل
كتاب “مذكرات عداء طوال الليل”

كيف تؤثر الرياضة؟

انشغل علماء النفس بكيفية تأثير الرياضة في تحسين الصحة النفسية والعقلية، وظهرت تفسيرات متعددة، منها أن ممارسة الرياضة تؤدي إلى زيادة ضربات القلب، وهذا يؤثر في كيمياء الدماغ، فيزيد الجسم من إفراز المواد الكيميائية المضادة للقلق،  وهذا  بدوره يحسن من الصحة النفسية، وهناك الفرضية الحرارية Thermogenic Hypothesis وترى أن الحرارة الناتجة عن الرياضة تحفز أجزاء من الدماغ للشعور على الاسترخاء وتقليل التوتر العضلى، وهناك فرضية الإندورفين وتذهب أن التمرينات تساهم في زيادة إطلاق الإندورفين، وهو هرمون يرتبط بالمزاج الإيجابي، وهناك فرضة الإلهاء Distraction Hypothesis وتفترض أن النشاط البدني يعمل على إلهاء القلق والأفكار المحبطة، وتشير دراسات أن الأنشطة المشتتة للانتباه قد تستعمل كوسيلة للتعامل مع الاكتئاب، ولها تأثيرات إيجابية كبيرة في السيطرة على الاكتئاب أكثر من الأنشطة التي تركز على الذات مثل القراءة، وهناك فرضة الكفاءة الذاتية Self-Efficacy Hypothesis وتشير أن الشخص الذي يمتلك المهارات أو يستطيع امتلاكها من خلال التدريب، قد يتعزز لديه الثقة بالذات، ويصبح قادرا على كبح الشعور بالاكتئاب.

لكن الأهم في الرياضة هو أنها تعزز النوم، وتحسن جودته، وهو ما يحافظ على الصحة النفسية والعقلية، لذا يوصي الأطباء النفسيين بوجود نمط حياة يتضمن تمرينًا رياضيا معتدلًا كوسيلة فعالة لتحسين النوم، وتشير دراسات  أن الرياضة قد تُمارس من أجل النوم، لأنها تساعد في الحصول على نوم جيد وسريع، وهو ما يحسن فرصة الدماغ لتجديد خلاياه، وتقود إلى استقرار الحالة المزاجية للشخص، وتخفيف الضغط على العقل، وهو ما يثبت صحة مقولة “اعرف جسدك ..تعرف نفسك” فالرياضة تشتت الأفكار المحبطة التي تتقاطر على الشخص مع اقتراب نومه، وهو ما يعزز النوم العميق، لذا وجدت أبحاث أن الرياضة يمكن أن تساهم في معالجة بعض اضطرابات النوم، مثل: الأرق، و “متلازمة تململ الساق (RLS) “. [ii]


[i]  Ultramarathon Man: Confessions of an All-Night Runner

[ii]  متلازمة تململ الساق  Restless legs syndrome اضطراب في الجهاز العصبي ويؤثر على الساقين ويدفع إلى تحريكهما ويحصل بشكل أساسي عند وقت النوم ولذلك يعتبر من اضطرابات النوم