منذ وطئت أقدام بني آدم هذه الأرض وهم في كفاح واصطراع وكدح مستمر للوفاء بحاجاتهم وضروراتهم الحياتية، ولم تخل الأرض في تاريخها كلها من مصاعب وفواجع وكوراث وزلازل بعضها بما كسبت أيدي الناس، وبعضها رسائل إلهية من الحكيم الخبير لتقويم المعوج، وإرجاع الضال، وتثبيت المستقيم.

ومن تلك الكوارث التي لا تنقضي ولن تنقضي الزلازل والبراكين، والجفاف وجدب الأرض، والأوبئة والطواعين، التي لم يسلم منها صقع في البر أو جزيرة في البحر، فلم يحصل في تاريخ الأرض أن استمرأ قوم حياتهم دون منغصات، فمن حر خانق، أو برد  قارص، أو هجوم وحوش، ومجاورة هوام ومفترسات، أو ثورات بركين، أو زلزلة أرض، أو فيضان مباغت، أو رياح سوداء وعواصف مدمرة، أو جدب وفقر ومسغبة، أو حروب منهكة، أو موتان عام.

لم يطرح الإنسان من قبل هذا هذه الأسئلة الجديدة الحادة التي يركبها الإلحاد المعاصر في جدوى وقوع الشر من رب رحيم عادل، وكان أقصى ما يفعله الإنسان المؤمن السابق العودة والإنابة والتسليم وبدأ دورة جديدة من الحياة، أو تقديم القرابين للآلهة الغاضبة في المجتمعات الوثنية، ثم المضي والاستئناف في البناء والعمران، والانكفاف عن مثل هذا اللجج المعاصر في الإيمان.

يحدثنا تاريخ الأرض عن آلاف المصائب النازلة بأهل الأرض، ومنها ديار الإسلام التي لم يخل عامرها ولا غامرها من ذلك، فأرض الشام وما جاورها من الشمال معروفة بزلازلها المؤرخ لها منذ بدأ التدوين، والمطالع لكتاب البداية والنهاية لابن كثير يقف على عشرات الشواهد عن الزلازل التي محت مدنا عديدة، ونكتفي بثلاثة منها:

  • في سنة (280هـ ): “وفيها ‌زلزلت أردبيل ست مرات، فتهدمت دورها ولم يبق منها مائة دار، ومات تحت الردم مائة ألف وخمسون ألفا “، وهي أرقام ضخمة بحسب ديمغرافيا ذلك الزمان.
  • في سنة (460هـ ): ” خسفت الرملة جميعا حتى لم يسلم منها إلا داران فقط، وهلك منها خمس عشرة ألف نسمة، وانشقت الصخرة التي ببيت المقدس، ثم عادت فالتأمت بقدرة الله تعالى، وغار البحر مسيرة يوم وساخ في الأرض، وظهر في مكان الماء أشياء من جواهر وغيرها ودخل الناس في أرضه يلتقطون، فرجع عليهم فأهلك خلقا كثيرا منهم.
  • وفي سنة (597هـ ): “انفرق البحر إلى قبرص وحذف بالمراكب إلى ساحله، وتعدى إلى ناحية الشرق، فسقط بسببها دور كثيرة، ومات أمم لا يحصون حتى قال صاحب ” مرآة الزمان “: إنه مات في هذه السنة بسبب ‌الزلزلة نحو من ألف ألف ومائة ألف إنسان.” وهي أرقام مفجعة كما يظهر.

لم تطرح الأسئلة الوجودية حول جدوى هذه الكوارث التي أهلكت أمما، وأتت على مدن عامرة، وكان أقصى ما يفعله الناس هو المسارعة بالتوبة، وتفويض الأمور إلى الخالق الحكيم، وانصرم الأمر على ذلك حتى جاءت الفلسفة الحديثة التي انحرفت في بعض أوجهها تجاه تأليه الإنسان ونسيان الإله، ثم تطرفت فبدأت تهاجم مسلمات الإيمان،  وتشكّك في ما  فُطر عليه الناس من الإيمان بالله الخالق لكل شيء والقيوم على كل شيء، وظاهرها انتصارات العلم الحديث، وتمكنه من القضاء على عديد مسببات الأمراض والأوبئة، وبراعته في إبقاء الأعمار طويلة، والقفزة المذهلة في أعداد ساكنة البسيطة، ففي قرن واحد قفز البشر من مليار إلى قرابة السبعة ملايير نسمة، مما جعل الحداثة الغربية تعلن انتصار الإنسان، وأن فردوسه الأعلى هو هذه الأرض، فنشأت فلسفات مادية عديدة استعلت على الأديان، وحاولت دك حصونها وإعلان مواتها،  وشبت نيران الإلحاد تقرض وتسلق بألسنة حداد كل الموروث الديني للإنسان على هذه الغبراء.

ومن جملة ما تدوي به شبههم في نقض وجود الخالق دعوى صدور هذه المحن من الزلازل والبراكين وغيرها، وكيف لذلك أن يصدر من رب رحيم عادل، فالخير لا يصدر عنه إلا الخير، وهي شبة تتردد كلما أحاق بالبشرية وباء نازل أو كارثة مدمرة كالذي حصل هذه الأيام في بلاد الشام وتركيا، أو كالذي نزل بالناس في أيام كورنا، والأمر غير منقضي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وجملة الرد على هذه الشبه المتهاوية المتهالكة التي أجاب عنها علماء الإسلام منذ القديم ما يأتي:

أ- الملك لله وحده: من المسلمات الدينية أن المالك الأوحد هو الله تعالى وأنه الفعال لما يريد، وأن المقادير بيده، وأن الآجال والأرزاق طوع قدرته وإرادته، وبغير اليقين بهذا سيبقى الإنسان متحيرا في سر الأقدار، وستضل الوساوس تعتلج في النفوس، ولأمر ما كان للتسليم الأثر الأبرز في شفاء النفوس، وكم من حكمة خفية ظهرت بعد انجلاء الكروب، وقد روي أن الشيخ عفيف الدين يوسف بن البقال قال: كنت بمصر، فبلغني ما وقع من القتل الذريع ببغداد في فتنة التتار، فأنكرت في قلبي وقلت: يا رب، كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له؟ فرأيت في المنام رجلا وفي يده كتاب، فأخذته فقرأته، فإذا فيه هذه الأبيات، فيها الإنكار علي:

دع ‌الاعتراض فما الأمر لك ولا الحكم في حركات الفلك ولا تسأل الله عن فعلــــــه فمن خاض لجـــــة بحر هلك إليه تصير أمور العبـــــــاد دع ‌الاعتـراض فـمــا أجـهـلك

ب- حكمة الابتلاء: فمن مقاصد الخلق المتواردة في النصوص أن الابتلاء القدري الخفي أو التكليفي الجلي  لصيق بالإنسان حتى يتميز الخبيث من الطيب، وينماز الصالح من الطالح، و هذا الابتلاء القدري بالزلازل والبراكين والكوارث يحيق بالمؤمن وغير المؤمن،  ففي حق الأول نقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ  الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة، 150-151)، وينزل بالكافر الجاحد: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (العنكبوت، 40). فالكوارث تنزل بالجميع إما ابتلاء وإما جزاء، والعالم الأوحد بذلك هو الله تعالى.

ج- عجز الإنسان: من حكمة الكوارث العامة أو البلايا الخاصة تذكير الإنسان بعجزه، وأنه مربوب مقهور في قبضة الله تعالى، فعليه أن يعي هذا في كل حين، وأن يستذكر الكلمة الخالدة “الله أكبر“، فكلما ذهل عن هذه الحقيقة، وظن بأنه استمكن من ناصية الأرض طغى وتجبر كما قال تعالى:﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى  أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق، 6،7)، وكما قال تعالى أيضا: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ (الشورى، 27)

ولأجل هذا تأتي هذه المصائب مذكرة بالحقيقة الخالدة، حقيقة عجز الإنسان واستحالة استغنائه عن ربه: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (يونس، 24).

د- بضدها تتميز الأشياء: إن الإدراك الحقيقي لمعنى الشر لا يكون إلا بإدراك نقيضه، وهو الخير، ولا يوجد عند البشر معيار واحد أو مقياس مفرد للخير والشر، فما كان محبوبا مستساغا عند قوم رده آخرون، وما كان سليما عاليا عن النقد في زمن صار مرذولا مستهجنا في وقت آخر، وهكذا الناس على مر الأعصر تتفاوت مداركهم، وتختلف مقاييسهم للحسن والقبح والخير والشر، وشاهد ذلك تنافر المعايير وتغير القوانين وتبدل الأعراف، ولأجل ما سبق فلا بد من وجود مصدر آخر أعلى يكون ثابتا  ومرجعا للأحكام الخلقية والمعايير القانونية، وهو ما لا يتأتى إلا بخبر النبوة وأحكام الرسالة، وهو ما عجزت الحداثة الغربية عن الإجابة عنه لحد الساعة بعدما ولدت هذه الأسئلة من رحمها عندما فشلت في ضمان الأمن ومحو الألم عن الإنسان، وهي التي زجت به في أتون حربين عالميتين ذهب من ضحاياها قرابة المائة مليون مما لم يحدث في تاريخ البشرية كلها.

ه- نسبية الشر: ظل الفلاسفة منذ العهد الدابر مختلفين في حقيقة الشر، بل في وجوده من عدمه، وحقيقته وكيفيته، فهل ما نراه من آلام  متفاوتة للبشر تعتبر شرا، بل إن البعض يقول إن الشر ليس موجودا إلا في نظر المصاب، وهو خير في حق شخص آخر، وشاهد ذلك عالم الممالك الحيوانية التي يسود فيها قانون الغاب، وهو قانون جائر لو طبقه بنو الإنسان، ولكن ما يجري هناك من عدوان بعض على بعض، وافتراس بعض لبعض، كحشرات تأكل غيرها، وطيور  تجرح أخرى، وقس على ذلك عوالم البحار والمحيطات وما فيها، كل ذلك بحسب العلم ضروري للتوازن البيئي وحفظ الحياة، ولو انتقلنا إلى عالم الإناسي وأخذنا أكبر مصيبة يخافها العباد وهي الموت، فهي شر نسبي، ولكنها خير محض للجميع، بل قد يتمانها المهيض الحق، والمهموم الفؤاد، والموجوع البدن، بل لو لم تكن الموت  واقعا لضاقت الأرض بأهلها، ولعلا أهلها، وأكل بعضهم بعضا: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ (الواقعة، 60).

و- خفاء الحكمة: ستظل الحيرة الإنسانية قائمة بغير التسليم بوجود حكمة سارية في الكون نابعة من  العناية الإلهية به، فكما أن العبد يلمس المظاهر الجلية للطف والرعاية والتسخير في كثير من شؤنه، فإنه يشهد بعض المنغصات بل والمهلكات في حياته، ولكن التفسير الإنساني لذلك يظل قاصرا، وربما ينكشف بعد حين، وينكسف السؤال والاعتراض على ما نراه شرورا في حقنا مثل الكوارث والزلازل،  ولأجل ما سبق يظل التسليم لله تعالى القنطرة الأبرد لقطع مفاوز الحياة، فالتسليم بلسم وشفاء، وأيضا فإن منطق الإيمان لا يقصر الحياة على هذه الدنيا، فأمام العباد حياة أخرى لا شقاء فيها للمؤمنين، وعزاء العبد المؤمن الراضي التسلي بأخبار الأولين: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة، 214).

هذه بعض الحكم القليلة التي نسوقها لمعاشر المؤمنين في التصبر على هذه اللواء والبأساء والضراء التي نالت إخواننا في بلاد الشام وتركيا، نسأل الله الكريم أن يفرج كربتم، ويجبر كسرهم، ويتقبل موتاهم في الشهداء تصديقا بما ورد في الحديث:”‌الشهداء ‌خمسة: ‌المطعون، ‌والمبطون، ‌والغريق، ‌وصاحب ‌الهدم، ‌والشهيد ‌في ‌سبيل ‌الله” (البخاري، 624).