موقف الإسلام من قضية الزيادة السكانية وتحديد النسـل

لما كانت الأمة الإسلامية هي صاحبة الرسالة الخالدة، كان عليها أن تنظر إلى نصوص كتابها وسنة نبيها، حيث الدعوة إلى التكاثر والتناسل، لتدوم وتستمر وتظل قادرة على القيام برسالتها حتى قيام الساعة، فدعوة الإسلام إلى التكاثر وزيادة النسل أمر طبيعي يتناسب مع الدعوة لنشر رسالته وتعمير الأرض.

والقوى البشرية تَعد واحدة من أهم عناصر الإنتاج والتقدم والازدهار، ولذا فإن كل الحضارات التي أرادت لنفسها المكانة والقوة والعزة بين الأمم الأخرى؛ كان أول اهتماماتها زيادة نسلها واستغلال هذه الثروة وهذا العنصر الإنتاجي أفضل استغلال، ومن هنا يرى المؤرخ العالمي ” توينبي ” أن القوى البشرية من أهم التحديات التي يتوقف عليها تقدم أي حضارة إنسانية. كما يقول المفكر السياسي ” أورجانسكي ” : إن أحسن أقطار العالم وأكثرها رفاهية؛ هو القطر الذي فيه زيادة السكان، وأنه أرفه ما يكون أيام يتجه عدد سكانه إلى الزيادة المطردة.”([1])

ولقد أدرك الغرب كيف أن زيادة النسل عنصر من أهم عناصر القوة التي تعتمد عليها الحضارات، وكانت حملته الشعواء على عالمنا الإسلامي من أجل إضعاف هذا العنصر وتحديد نطاقه ووقف مده على قدر المستطاع، ” فالدعوة لتحديد النسل ترتفع في الدول الإسلامية، وعلى العكس منها ترتفع دعوى زيادة النسل وفتح أبواب الهجرة أمام العقول والأيدي العاملة الماهرة في كثير من الدول المتقدمة.”([2])

ففي الوقت الذي تدعونا وتدفعنا هذه الدول الغربية إلى تحديد نسلنا، نجدها تحث شعوبها على التكاثر، بل وتمنح من يُقّدِم على الإنجاب مزيداً من المكافآت والمعونات، وفي دول أخرى مثل أمريكا وكندا واستراليا.. نرى كيف أنها تستجلب إليها سنوياً عن طريق إعلانات الهجرة المغرية آلاف البشر لزيادة سكانها وتكثير شعبها واستخدامه لمزيد من التنمية والقوة والنفوذ والتوسع.

وقد ذُكر في كتاب نُشِر مؤخراً بعنون ” الانخفاض في عدد سكان أوروبا ” (Population Decline in Europe) أن جميع الدول الأوروبية تهتم برفع نسبة المواليد عندها وتستخدم الوسائل الأربع التالية لهذا الغرض:

علاوة الأمومة.

التخفيف من الضرائب بعد إنجاب الأطفال.

بَدَل الأطفال.

العلاوات الأخرى.”([3])

” ومن بين الدول المتقدمة فإن الحكومة الفرنسية هي الأكثر نشاطاً في تشجيع الإنجاب، حتى أنها تنشر إعلانات تحمل صورة طفل كتب تحتها ” فرنسا تحتاج إلى أطفال “. ([4])

أما بلادنا فقد أصبحت مرتعاً خصباً لكل المؤامرات والمخططات التي تهدف إلى تقويض أركانها وحصار نموها وقتل نسلها، فما أن تسير في أحد شوارعها، أو تفتح قناة من قنواتها الإعلامية، إلا وتجد الدعوة إلى تحديد النسل والتحذير من القنبلة السكانية والانفجار السكاني !!

ولم يتوقف الأمر على هذا؛ بل جاءت هذه الدول الغربية بمؤامراتها ومؤتمراتها لإرغام بلادنا على تحديد النسل وتقنينه وتشريعه، وجعله مساراً إلزامياً لنا، لعلها بذلك تحد من خطر قلة نسلها على حساب أمتنا ونسلنا وقوتنا البشرية.

يقول الدكتور عبد الرب نواب الدين:” وفي مضمار الحضارة والمعترك الحضاري المعاصر فإن الدول الصناعية صاحبة الحضارة المادية المعاصرة وصاحبة القرار في توجيه الأحداث وتصريف الأمور بحسب ما يخدم مصالحها، تحرص كل الحرص على تكثير النسل في شعوبها ومجتمعاتها، وتعمل جاهدة بكل ما أوتيت من خبرة وحيلة على توسيع دائرة الموارد البشرية، حتى تظل محافظة على مكانتها القيادية ومكتسباتها الريادية، وفي الوقت نفسه تعمل جاهدة لإضعاف الصف الإسلامي بإضعاف النسل في المجتمعات الإسلامية، ووسمها بالمجتمعات النامية أو مجتمعات العالم الثالث عن طريق حملات تنظيم النسل وتنظيم الأسرة، وتحبيذ الاكتفاء بطفل واحد، ونشر موانع الحمل وتوفيرها بأزهد الأثمان.. فالنسل في كثرته ونموه وقوته أحد الأسس الكبرى والركائز الأمهات لنهضة المسلمين في ظروفهم الراهنة، ولا يقل هذا الأساس الاجتماعي الأصيل أهمية عن أساس العقيدة القائم على تحقيق مبدأ التوحيد في العبودية لله رب العالمين.”([5])

وقبل تناول موضوع قضية المشكلة السكانية وتحديد النسل من جوانبه المختلفة؛ أود أن أبين أن مقررات مؤتمرات المرأة والسكان العالمية، وكذلك تلك الحملات التي نراها في بلادنا والتي تدعو إلى تنظيم النسل، لا تقصد تنظيم النسل كتنظيم أسري للإنجاب، بل تقصد تقليله وتحديده كما سبق بيانه عند تناول بنود مؤتمرات المرأة والسكان بالمقال السابق، أي المطالبة بأن تتقيد الأسرة بعدد محدد من الأطفال لا تزيد عنه، وليكن طفلاً واحداً أو اثنين لكل أسرة.

فهناك فرق كبير بين تحديد النسل وتنظيم النسل، فالتنظيم أمر محمود لا ترفضه الشريعة الإسلامية بل تُرَغِّب فيه، أما تحديد النسل فأمر مذموم يتعارض مع مبادئ الإسلام، حيث الدعوة إلى التكاثر وزيادة النسل، ولذلك نرى هذه الحملات تلبس على الناس وتخدعهم باستخدام لفظ التنظيم، وهي في الحقيقة تدعو إلى تحجيم نسل الأمة ووقف نمو سكانها المتصاعد.

يقول الإمام أبو زهرة رحمه الله:” وتنظيم النسل أو ضبط النسل أو تحديد النسل ألفاظ مترادفة مؤداها تقليل النسل كما يقصد الكُتَّاب فيها، وكما يقصد الذين يقومون بالعمل في تنفيذها بوزارة الشئون الاجتماعية ووزارة الصحة في مصر، فإن الذين يفعلون ذلك والذين يروجون له يرددون أن النسل يتزايد ويتكاثر، وقد ضاقت الموارد الطبيعية وأصبح ما تنتجه تلك الموارد لا يتكافأ مع زيادة السكان المستمرة بنسبة عالية، فلابد من وقف ذلك النمو المتزايد، وذلك بجعل النسل يكون على قدر ما يجيء من الموارد الطبيعية، ذلك قولهم بأفواههم ومقالاتهم بأقلامهم، ولاشك أن كلمة تحديد النسل تكون أدل على المراد، ولكنهم بدلوا بها غيرها، ليخففوا على المسلمين المتدينين وقعها، ولكن تغيير اللفظ لا يجعل الحلال حراماً، ولا الممنوع مطلوباً.”([6])

لذا وجب على الأمة الإسلامية الانتباه لمثل هذه الأساليب الخبيثة الماكرة التي تُوقِعهم فريسة سهلة وأدوات طيعة لهذه المؤامرات والمخططات التي تستهدف حصار تمدد الأمة ووقف نموها والقضاء على عنصر من أهم عناصر قوتها وإنتاجها.

وفيما يلي بيان وتحرير لمعاني أهم الألفاظ والمصطلحات المستخدمة في هذا المجال، والفرق بينها:-

أ – تنظيم النسل: هو التوقف المؤقت عن الحمل بوسيلة أو بأخرى لأسباب معتبرة شرعاً، كالمباعدة بين المواليد بقصد إتمام الرضاعة الطبيعية للطفل، وليتمكن والداه من توفير الرعاية المطلوبة له خلال هذه الفترة، أو مراعاة لصحة المرأة في الحالات التي يضر بها الحمل المتكرر المتقارب وفق رأي الثقة من أهل الطب، أو لاعتبارات أسرية تراعي القدرة على تربية الأولاد في ظروف معينة تستدعي ذلك، وتكون فيها المباعدة بين الولادات مناسبة للتمكن من العناية بهم وتوفير الرعاية اللازمة لهم.. ثم العودة للإنجاب بعد زوال السبب الذي توقف الحمل بسببه.

مع التأكيد مرة أخرى على أن حملات تنظيم النسل التي تتبناها حكومات بلادنا العربية والإسلامية تحت ضغط ومطالب مؤتمرات المرأة والسكان؛ إنما تعني التحديد لا التنظيم، بحيث تتقيد الأسرة بعدد محدد من الأطفال لا يزيد عن طفل أو طفلين أو ثلاثة على أكثر تقدير، سواء كانت ظروف المرأة الصحية مناسبة، أو كان دخل الأسرة كبير، أو كانت الإمكانات متوفرة لرعاية عدد أكبر من الأولاد.

ب – تحديد النسل: هو قطع النسل والتوقف عن الإنجاب عند وصول الأولاد لعدد محدد، وذلك عن طريق استخدام أساليب طبيعية كاستدامة العزل، أو تجنب الجماع طوال فترات الإخصاب للمرأة، أو باستخدام الحقن والعقاقير الطبية، أو استعمال أي وسيلة من وسائل منع الحمل، أو عن طريق التدخل الجراحي كعمليات الإجهاض، أو التعقيم، أو ربط المبايض، أو استئصال الرحم، أو استخدام أي طريقة أخرى تؤدي إلى إحداث العقم ومنع الحمل.

وباختصار وكما يقول الشيخ عطية سالم، فإن التحديد ” هو وضع حد ينتهي إليه المحدود، كتحديد الأرض ونحوها، وتحديد النسل وضع حد ينتهي إليه عدد الأولاد لا يتجاوزه الأبوان بالإنجاب ولا الدولة بالتعداد.” ([7])

جـ – منع الحمل: هو الحيلولة دون وصول الحيوان المنوي للرجل إلى بويضات المرأة بهدف منع الإخصاب، ويتم ذلك بوسائل عديدة، منها وسائل طبيعية كالعزل – وهو قذف ماء الرجل خارج فرج المرأة عند الإنزال – أو تجنب الجماع في فترات إخصاب بويضة المرأة، ومنها وسائل طبية، كاستخدام بعض العقاقير، أو الحقن، أو أقراص منع الحمل، أو اللبوس، أو اللولب، أو استخدام العازل المطاطي الذكري، أو غير ذلك من الوسائل الطبية الأخرى.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن معنى منع الحمل يتداخل بمقاصده ووسائله مع النوعين السابقين – تنظيم النسل، وتحديد النسل – فقد يكون الباعث على استخدام وسائل منع الحمل هو تنظيم النسل بالتوقف المؤقت عن الحمل، ثم تركها والعودة للإنجاب بعد انتهاء أسباب التوقف كما بينا، وقد يكون الباعث والمقصد من استخدامها بصفة مستمرة هو تحديد النسل والمنع الدائم للحمل عند الوصول لعدد معين من الأطفال.

ومما سبق يتبين لنا أن هناك فرقاً شاسعاً بين معنى تنظيم النسل الذي تقبله وتسمح به الشريعة الإسلامية وفق الاعتبارات السابق ذكرها، وبين تحديد النسل أو المنع الدائم للحمل الذي يتعارض مع نصوص ومبادئ الدين الإسلامي، وهذا ما سنتناوله بشيء من التفصيل في المقالات التالية – بإذن الله – من خلال تناول نصوص الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء، والرد على حجج وأدلة المنادين والمجيزين لتحديد النسل، ومدى شرعية تبني الحكومات لحملات تنظيم النسل الجماعية ودفع الناس إليها وإجبارهم عليها، كما سنتناول جوانب هذه القضية من خلال أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.

 

 


([1]) حركة تحديد النسل – أبو الأعلى المودودي – ص179.

([2]) سمات المجتمع المسلم – محب المحجري – ص 82.

 ([3]) التدابير الواقية من الزنا في الفقه الإسلامي – د. فضل إلهي – ص 71.

 ([4]) المرأة والأسرة المسلمة من منظور غربي – د. عماد الدين خليل – ص 23.

 ([5]) تأخر سن الزواج.. أسبابه وأخطاره وطرق علاجه على ضوء القرآن العظيم والسنة المطهرة – د. عبد الرب نواب الدين آل نواب –  ص213 – 214 – باختصار.

([6]) تنظيم الأسرة وتنظيم النسل – الإمام محمد أبو زهرة – ص 93.

([7]) تعدد الزوجات وتحديد النسل – الشيخ عطية محمد سالم –  ص 132.