إن ما تتميز به الشريعة الإسلامية هو إقامة الاعتبار والوزن الثقيل للمصالح المعنوية خاصة. فالمصالح المادية لا تحتاج إلى كثير كلام ولا بيان ولا دفاع.

المصالح المادية تفرض نفسها بشكل قوي على الإنسان وغريزته وأعرافه. فالناس يطلبون ما يقيم حياتهم وصحتهم وما يدفع جوعهم وآلامهم وأمراضهم، ويبحثون تلقائيا عن المتع والمصالح المادية فى المباني والأثاث والمأكولات والمراكب والحلي وما إلى ذلك…

ما يحتاج إلى عناية ورعاية هي المصالح المعنوية، والجوانب المعنوية في التكاليف الشرعية. الجوانب المعنوية عادة يصيبها الضمور ويصيبها الإغفال والإهمال، ولذلك وجب التنبيه عليها والاحتفاء بها، حتى لا تضيع وتنبذ.

الله تعالى حينما ذكر الزكاة قال: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [1])

في هذه الآية الكريمة، الله تعالى علل الزكاة، لكن لم يعللها لا بتعليل اقتصادي ولا اجتماعي، ولا بالفقراء وسد الحاجات، وما إلى ذلك مما هو صحيح ومقصود، ولكنه علل بالعلل التي يغفل عنها الناس، المقاصد المعنوية والتربوية للزكاة (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم[2]).

لم يقل خذ صدقة لإغناء الفقراء وسد الإحتياجات وإحداث التوازنات، رغم أن هذا كله صحيح ومقصود. لكن الشرع ذكر هذا باعتبار أنه هو الأهم، وهو ما يغفل الناس عنه أو لا يدركونه أصلا.

ولذلك قال أيضا: (أَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.. [3]).

فإذاً الصلاة لها مقاصد ومصالح اجتماعية ظاهرة؛ تنهى عن الفحشاء والمنكر، تعلم النظام والانتظام، تقوي العلاقات الجماعية…

لكن الله تعالى قال: (ولذكر الله أكبر)، فذكرُ الله الذي في الصلاة هو أكبر وأهم، سواء في ذاته أو بآثاره…

كذلك الله تعالى حينما ذكر تحريم الخمر ونهى عنها قال معللا ذلك: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ.. [4]).

نحن الآن نقول، وحتى الفقهاء يقولون: الخمر حرمت لأنها تسكر وتفسد العقل، وتضر الجسم، وهذا كله صحيح، ولكن القرآن ركز على شيء آخر: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء… ويصدكم… [5])، يعني الفساد الأخلاقي وفساد ذات البين. ثم الفساد المتمثل في صرف الناس عن ذكر الله وعن الصلاة. وهذه كلها مفاسد معنوية ومفاسد أخلاقية وتعبدية.

إذن فهذه هي المصلحة الشرعية بكل معانيها وأبعادها ومعالمها. فليست المصلحة هي جمع الأموال كيفما كانت، واتباع الشهوات من أين جاءت.

وحتى لايغيب المعنى الحقيقي الكامل للمصالح الشرعية، نجد – مثلا – ابن تيمية ينتقد من يركزون على المصالح المادية والمصالح الظاهرة التي تضمنها الدين، ويغفلون المصالح والمفاسد المعنوية الباطنة.

يقول رحمه الله: «وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله من مصالح القلوب والنفوس ومفاسدها، وما ينفعها من حقائق الإيمان وما يضرها من الغفلة والشهوة، كما قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً[6])؛ (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا[7])؛ وقال تعالى: (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ… [8]).

فتجد كثيرا من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن. وغاية كثير منهم إذا تعدى ذلك أن ينظر إلى سياسة النفس وتهذيب الأخلاق بمبلغهم من العلم، كما يذكر ذلك المتفلسفة والقرامطة من أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم[9]».

 


[1]- (التوبة-​103).

[2]- (التوبة-​103).

[3]- (العنكبوت-​45).

[4]- (المائدة-​91).

[5]- (المائدة-​91).

[6]- (الكهف-​28).

[7]- (الكهف-​28).

[8]- (النجم-​30).

[9]مجموع الفتاوى( 32 – 233 ).