شرعت القرعة لحسم النزاع بين الطرفين أو الأطراف وإبراز العدل، ولم يرد في القرعة إلا بضعة أحاديث فحسب، ومن ذلك ما ورد في الحث على السعي والتنافس والمشاحة في الصف الأول في الصلاة فينتهى اختيار الفائز المبارك بالقرعة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية هذا الصف وعظم أجره ومكانته العظمى وأفضليته الكبرى على بقية صفوف الصلاة.

يقول عليه الصلاة والسلام:” لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا”[1] وفي رواية لمسلم:” لو تعلمون أو يعلمون ما في الصف المقدم، لكانت القرعة” وفي صحيح البخاري أن النبي – عليه الصلاة والسلام – قال عن الرجلين إذا دخلا المسجد فوجدا فرجه في الصف الأول قال: ” فليستهما عليها[2]

تفيد هذه النصوص النبوية أنه ينبغى للمسلم احراز فضيلة الصف الأول ولو بضرب القرعة خوفا من فوات الأجر والخير المترتب عليه، وأنه لا إيثار في القربى هنا.

ما المقصود بالصف الأول؟

يقول الإمام النووي:” واعلم أن الصف الأول الممدوح الذي وردت الأحاديث بفضله والحث عليه، هو الصف الذي يلي الإمام، وسواء جاء صاحبُه متقدِّمًا أو مُتأخِّرًا، وسواء تخلَّله مقصورة ونحوها أم لا، هذا هو الصحيح الذي يقتضيه ظواهر الأحاديث، وصرَّح به المحققون”[3]

ما خصائص الصف الأول في الصلاة ؟

للصف الأول مزية خاصة لا توجد في بقية صفوف الصلاة، و هذه خصائص وفضائل أشار إليها ابن رجب في كتاب فتح الباري:

-أنه على مثل صف الملائكة

من المعلوم أن للملائكة صفات العبودية الكاملة بلا كلل ولا ملل، ومنها اللإلتزام بالصفوف لا سيما الصف الأول وهم القائلون: {وإنَّا لنحن الصَّافون} [الصافات: 165]

ولذا حث النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة رضوان الله عليهم على الاقتداء بهم في الاصطفاف والحرص على المبادرة إلى الصف الأول في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم:” ألا تصفّون ما تصفّ الملائكة عند ربها” ؟

قالوا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟

قال:” يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف”[4]

وقال أيضا عليه الصلاة والسلام:” وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو تعلمون فضيلته لابتدرتموه”[5]

يقول الشيخ أحمد البنا في شرح قوله عليه الصلاة والسلام “على مثل صف الملائكة” أي في القرب من الله عز وجل ونزول الرحمة وإتمامه واعتداله [6]

أنه خير صفوف الرجال

لقوله عليه الصلاة والسلام” خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها” [7]

وتحصل الخيرية للصف الأول من مفهوم الحديث:

  1. لقربه من الإمام، لأنه كلما يحصل الدنو من الإمام فإنه يعين على التركيز والخشوع وعلى المتابعة التامة لحال الإمام.
  2. ولبعد الصف الأول عن صفوف النساء وخاصة عند اتصال الصفوف بعضها بالبعض، ولذا تبقى الخيرية للصفوف الأولى من صفوف النساء في حالة انفرادهن بالصلاة أو وجود الحائل بين صفوف الرجال والنساء.

-أن الله وملائكته يصلون عليه

كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول ” وفي روية:” على الصفوف المتقدمة[8]

ومعنى صلاة الله عز وجل: ثناؤه على عبده الذى في الصف الأول في الملأ الأعلى أو رحمته له.

ومعنى صلاة الملائكة عليه: الدعاء والاستتغار وطلب بركة له بسبب صلاته في الصف الأول.

وأورد البخاري تعليقا عن أبي العالية – في شأن صلاة الله وملائكته على النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: ” صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء “[9]

ورُوِيَ عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم قالوا: صلاة الرب: الرحمة، وصلاة الملائكة: الاستغفار[10]

فتأمل أيها الموفق، هذه الغنائم الجليلة التى ينالها المبكر والحريص على الصف الأول، وهل هناك شيء أعظم من صلاة الله عز وجل وملائكته على العبد؟

أنه استغفر له ثلاثا دون ما بعده.

ولا تخفى أهمية الاستغفار ومنزلته في حياة المسلم وشدة حاجته إليه، إذ به تكفر الذنوب وتكشف الهموم والغموم والكروب وتزكى به النفوس ويقوى الإيمان، وكيف إذا كان الذى يتولى طلب الاستغفار لمسلم هو النبي عليه الصلاة والسلام من أجل حرصه على الصف الأول.

عن العرباض بن سارية ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للصف المقدم ثلاثا، وللثاني مرة.[11]

قال المناوي في شرح الحديث “أي يطلب من الله الغفر ، أي الستر ، لذنوب أهل الصف الأول في الصلاة ، وهو الذي يلي الإمام ، ويكرره (ثلاثا) من المرات ، اعتناء بشأنهم (وللثاني مرة) أي : ويستغفر للصف الثاني مرة واحدة ، إشارة إلى أنهم دون الأول في الفضل ، وسكت عما دون ذلك من الصفوف ، فكأنه كان لا يخصهم بالاستغفار، تأديبا لهم على تقصيرهم وتهاونهم في حيازة فضل ذينك الصفين” [12]

أنه أحصن الصفوف من الشيطان

يمثل الصف الأول أشد الصفوف حصنا حصينا من مداخل الشيطان ومطردا لوساوسه التى يراد بها المصلين.

وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه:” أي شجرة أبعد من الخارف والخاذف؟ قالوا: فرعها. قال: فكذلك الصف المقدم، هو أحصنها من الشيطان.[13]

. أن الصلاة فيه تقتضي التقدم إلى الله، فإن التأخر عنه يقتضي التأخر

الصلاة في الصف الأول تقتضى المسارعة والمسابقة إلى رضوان الله ورحمته وإلى الخيرات، وأما التعود على التأخر عنه والتكاسل في هذا الموطن فإنه قد يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.

ولذا لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخرا، فقال:” تقدموا، فائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله”[14]

يحمل ظاهر هذا الحديث معنى الترهيب والوعيد الشديد في شأن التهاون وعدم المبالات في تقدم للصف الأول، مما يستدعى العزم والحرص الأكيد على ملازمة الصفوف الأول رغبة ومحبة في نيل الحسنات، وخوفا من عادة الإهمال كي لا يؤدى للهلاك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:” من جاء أول الناس وصف في غير الأول، فقد خالف الشريعة [15]

وقال الإمام العيني:” قوله: «حتى يؤخرهم الله في النار» أي: يوقعهم فيها، وهذا تغليظ في حق من يتكاسل عن المبادرة إلى الصف الأول، ويجيء في أخريات الناس وتعود بذلك”[16]

نبذة من نماذج حياة السلف مع الصف الأول

علمائنا السابقون أهل العلم والعمل والبر، رووا لنا أحاديث الصلاة ثم ترجموها ترجمة عملية واضحة، فعاشوها عيشة شريفة، وكان لهم أخبارا مشهورة ومنقولة في باب الصلاة وفي الصف الأول على وجه الخصوص.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ” كلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل”[17]

وهذا بشر بن الحسن المحدث الثفة العابد، وكان يسمى صفيا نسبة إلى الصف، لملازمته الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة.[18]

قال سعيد بن المسيب:” ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل غير الإِمام منذ خمسين سنة [19]

وقال وكيع بن الجراح:” كان الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى”[20]

وقال محمد بن سماعة القاضي:” مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوما واحدا ماتت فيه أمي، ففاتتني صلاة واحدة في جماعة”[21] وغير ذلك مما حوته كتب التراث من سيرهم العطرة.

والحاصل أنه ينبغى أن تكون هذه النصوص والآثار السابق الذكر كافية وباعثة ومحفزة على تعظيم الصف الأول والمحافظة على صلاة الجماعة كما حافظ عليها أولئك البررة حتى نهاية العمر.


[1] متفق عليه

[2] رواه البخاري(2674)

[3] شرح النووي لصحيح لمسلم 4 /381

[4] رواه مسلم (430)

[5] رواه أحمد (21266)

[6] الفتح الرباني 5/171

[7] رواه مسلم (440)

[8] رواه أحمد (18643)

[9] رواه البخاري 6/120

[10] جامع الترمذي (485)

[11] رواه أحمد (17141)

[12] فيض القدير 5/ 219

[13] ينظر في فتح البارى لابن رجب 6/274 وتكلم ابن رجب في رفعه.

[14] رواه مسلم (438)

[15] مجموع الفتاوى 22/261

[16] شرح أبي داود للعيني 3/233

[17] التدمرية ص: 192

[18] ينظر: تهذيب التهذيب 1/ 391

[19] سير أعلام النبلاء 4/ 30

[20] مسند ابن الجعد (755)

[21] تهذيب التهذيب) (9 / 204).