في الجغرافيا هناك دول يُطلق عليها مصطلح “الدولة الحبيسة” وهي التي تحيط بها اليابسة من كل جانب، ولا يوجد لها أية منافذ بحرية، وفي عالم الإفكار، هناك عقول حبيسة، لا تتصل بأية أفكار مغايرة، تمنحها التجدد والفاعلية، فقديما تحدثوا عن “الدوجمائية” وهي حالة الجمود الفكري، و”الجـزمية” التي ترى أفكارها جازمة، وكذلك “المعصومية” الذي ترى أفكارها معصومة من الخطأ والنقاش والمراجعة، و”الدمغية” التي ترى أفكارها غير قابلة للشك.

يقول حكيم الإسلام الشيخ “طنطاوي جوهري” في كتابه “أين الإنسان”: “كتب عليكم أن تُسجنوا في الأجسام، وأن لا تفروا من الأرض، فزدتم القيد قيودًا، ذلك أنكم حبستم أنفسكم في سجن الجهالات، وفاسد الحكومات، جهلتم قدر أنفسكم فحبستموها، وبهذا السجن عذبتموها، وكم لكم من قدرة تركتموها، ومن حكمة دفنتموها”.

الحقيقة أن الجمود على الإفكار من السلبيات الكبرى التي تصيب العقل، وتجعله متحجرا، وذا قدرة كليلة في الإدارك والفهم، وهي أمراض حذر منها القرآن الكريم، داعيا الإنسان إلى إعمال عقله، وتجديد أفكار باستمرار، فالجمود العقلي آفة، لذا تكرر ذكر العقل والتفكر في القرآن مرات كثيرة.

كان أبو علي الجبائي -شيخ المعتزلة- المتوفى (304هـ=916م) يقول ” إن الواجب الأول على الإنسان هو النظر” والنظر بمفهومه يعني: الشك، أما “الراغب الأصفهاني” في كتابه “الذريعة إلى مكارم الشريعة” فيقول:” أحال الله من يشك في وحدانيته وصحة نبوة أنبيائه على العقل، فأمره بأن يفزع إليه في معرفة صحتها، فالعقل قائد والدين مدد، ولو لم يكن العقل لم يكن الدين باقيا، ولو لم يكن الدين لأصبح العقل حائرا”.

وكان الإمام القرافي يقول:” والقاعدة المعلومة أن الشرع لا يرد بخلاف العقل، بل جميع واردات الشرع يجب انحصارها فيما يجوزه العقل وجودا وعدما”، لهذا كان “ابن تيمية” يؤكد أن الرسل عليهم السلام لا يمكن أن يُحدثوا بالأشياء المستحيلة عقلا، فيقول:” ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول؛ بل يخبرون بمجازات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته” ، لذا كان  “الشك أول مراتب اليقين”، كما يذهب الإمام الغزالي، وكان الإمام “محمد عبده” يقول: “وأشق التكاليف حمل العقول على أن تفكر في غير ما عر فت، وحث النفوس على أن تتكيف بغير ما تكيفت”.

كيف تنغلق العقول؟

مسيرة الإنسان في الحياة تكشف، أنه طالما غير أفكاره وعدلها؛ بل وتخلى عنها، وانتقل إلى نقيضها، ولهذا كان كثير من المفكرين يحذرون من أن تتحول الأفكار في الدماغ إلى كتل صخرية مستقره في قاعه تثقله وتعيقه عن الإبداع والانطلاق المتكرر في الحياة، وهو معنى أكد عليه الكاتب الأمريكي “بول أوستر”، بقوله:” لا شيء يدوم، ولا حتى الأفكار التي في رأسك، وينبغي ألا تهدر وقتك في البحث عنها، فعندما تختفي، تكون تلك نهايتها”، أو كما أكد الأديب “توفيق الحكيم” :”إن لكل جيل أفكاره كما أن لكل عصر ثيابه، الأفكار كورق الشجر تتساقط فى كل خريف”.

والعقل الذي لا ينحبس في فكرة بعينها يكون حرا طليقا قادرا على الوصول إلى الحقيقة دون عناء كبير؛ بل تحرضه متغيرات الحياة على البحث عن الأفكار الصالحة لحياته في لحظة ما، والأفكار الأخرى التي انتهت، فبعض الأفكار تشبه الأغذية لها مدة صلاحية، وإذ أصر الشخص على تناول طعام معين انتهت مدة صلاحيته، فإنه يعرض حياته للخطر، ولهذا كان يقول الأديب الطبيب “أوليفر هولمز”: “عقل المتعصب كحدقة العين، كلما تعرضت لمزيد من النور، زاد انقباضها”.

واقترب “عباس محمود العقاد” من المعنى أكثر في كتابه “التفكير فريضة إسلامية” فقال: “إن العقل الإنساني لا يصاب بآفة أضر له من الجمود على صورة واحدة يمتنع عنده كل ما عداها، فإما أن تكون الأشياء عنده كما تعودها وكرر مشاهدتها، وإما أن تحسب عنده في عداد المستحيلات، وأدنى من هذا العقل إلى صحة النظر عقل يتفتح لإحتمال وجود الأشياء على صور شتى لا يحصرها المحسوس والمألوف”، لهذا كان يطالب الروائي “فرانك أوتلو”  بأن تهتم بأفكارك، فيقول: “راقب أفكارك، لأنها ستصبح أفعالا، راقب أفعالك، لأنها ستصبح عادات، راقب طباعك لأنها ستحدد مصيرك”.

كان الفيلسوف البريطاني ” برتراند راسل” يرى أن: “مشكلة العالم هي أن الأغبياء والمتشددين واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائما، أما الحكماء فتملأهم الشكوك” ولذا اقترح تدميرا مبكرا للقناعات الواهية من خلال أن يأتي بأشد المتعصبين من كل فكرة ومذهب ليعرضوا أفكارهم على الطلاب الصغار، فيتنقل هؤلاء الصغار مبكرا بين القناعات المختلفة وبين الحجة ونقيضها ليصلوا في نهاية المطاف إلى أن تكون افكارهم دائما معرضة للاختبار والتجريب.

وفي القرآن الكريم جاء نداء ” قل سيروا في الأرض” في أربع مواضع، وأعقبها في ثلاث منها بقوله “فانظروا” وجاءت الرابعة بقوله:”ثم انظروا” لتؤكد على أهمية اللجوء الدائم إلى التفكير، وتجديد طرائقه ووسائله من خلال التفاعل الدائم مع واقع الحياة من خلال منهج واضح، لذا كان الاقتران بين السير وبين النظر، وهو التفكير المنطلق من منهجية مقارنة.

ولعل التعصب والعنصرية من أبشع السجون التي يُحبس فيها العقل، وهو سجن مقيت حذر منه القرآن الكريم عندما تحدث عن العنصرية الدينية المتعالية، في قوله تعالى:” وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ”[1].

أما الكراهية، فهي سجن آخر يحبس العقل والأفكار، ويجعلها دائما تطوف حول فكرة واحدة هي: فكرة الانتقام والتدمير، وكان الصوفي جلال الدين الرومي يقول:” الظلام لا يمكنه أن يطرد الظلام، فقط النور هو من يفعل ذلك، والكراهية لا يمكن أن تطرد الكراهية، فقط الحب يستطيع فعل ذلك”، وكان أستاذه “شمس التبريزي” يقول:” لا شيء أسهل من الكراهية، أما الحب فهو يحتاج نفساً عظيمة”، ومن يقرأ السنة النبوية يلحظ بوضوح أن السماء كانت توجه المسلمين دوما إلى الخروج من سجن الكراهية لأنه مُهلك للدعوات العظيمة، فعندما قتلت قبائل “عضل والقارة” سبعين من خيرة الصحابة غدرا ، ظل النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، يدعو عليهم شهرا كاملا، حتى نزل قوله تعالى:”ليس لك من الأمر شيء”.. لقد أخرجت الآية الكريمة المجتمع المسلم من فكرة الانتقام والكراهية إلى رحابة التسامح والعفو.

والفضاء الإنساني المتحرر من الكراهية، الذي يبنيه الإسلام يسع الناس جميعا؛ لذا عندما دخل محمد، صلى الله عليه وسلم– مكة يوم الفتح كان متواضعا متحررا من الأفكار الانتقامية، ومن أمراض الكراهية، ليعلن أمام من حاربوه وآذوه وأخرجوه: “اذهبوا فأنتم الطلقاء..اليوم يوم المرحمة”، كانذلك الموقف عظيما فتح الآفاق والأنفس وحطم أسوار السجون الفكرية وأتاح للنور أن يطرد الظلمة والظلم..على خلاف سيطرة فكرة الانتقام على الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، فحدثت عام 1945 أكبر عملية اغتصاب في التاريخ الحديث في العاصمة النمساوية فينا، حيث اغتصبت أكثر من مائة ألف امرأة.

ومن أعظم مسجوني الأفكار التي سجلها لنا التاريخ الإسلامي “الخوارج” الذين كانوا عظيمي البكاء والخشوع لكن وضعوا أنفسهم في عقول مؤصدة، ذات قرار بعيد، ومفاتيح ضائعة فشقوا وأشقوا الآخرين، وفي تاريخ الدولة الأموية وحدها قاموا بحوالي (23) ثورة، وقد لخص ببراعة العلامة محمد أبو زهرة حالهم بقوله: “وإنهم ليشبهون في استحواذ الألفاظ البراقة على عقولهم ومداركهم اليعقوبيين الذين ارتكبوا أقسى الفظائع في الثورة الفرنسية فقد استولت على هؤلاء ألفاظ الحرية والإخاء والمساواة وباسمها قتلوا الناس وأهرقوا الدماء”.

والتقاليد سجن مخيف، يقول العلامة “ابن خلدون“: “اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء، بل أن الأحياء أموات”، فتحول التقاليد إلى قيود على العقل كارثة كبرى للواقع والمستقبل، تحدث عنها المفكر “مالك بن نبي” في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” بقوله:”نحن لا نستطيع أن نصنع التاريخ بتقليد خُطا الآخرين في سائر الدروب التي طرقوها، بل بأن نفتح دروباً جديدة.”، وكذلك الدكتور “مصطفى محمود” في قوله:” العرف والتقاليد والأفكار الجاهزة تطمس الأشياء المبتكرة فينا، وتطمس الذات العميقة التي تحتوي على سرنا وحقيقتنا، وتجعلنا نمضي في زحام الناس وقد لبسنا لهم نفسا مستعارة من التقاليد والعادات لنعجبهم”.

أما “جوستاف لوبون” في كتابه “سيكولوجيا الجماهير” فلمس تأثير التقاليد على الأفكار ببراعة، ولخص تأثيرها في كثير من الحضارات، فقال: ” الواقع أن أكبر همّين للإنسان منذ أن وُجد على سطح هذه الأرض كانا يتمثلان في خلق شبكة من التقاليد أولا، ثم في تدميرها عندما تكون آثارها الإيجابية قد استُنفذت، وبدون تقاليد ثابتة لا يمكن أن توجد حضارة، وبدون الإزالة البطيئة والتدريجية لهذه التقاليد لا يمكن أن يوجد تقدم، والصعوبة تكمن في إيجاد توازن بين الثبات والتحول “.


[1] المائدة: الآية: 18