اتجه العقل العلماني العربي في العقود الأخيرة إلى التوسع في دراسة الظاهرة الدينية حيث تمحورت جل المشاريع الفكرية للمفكرين العلمانيين حول: إعادة تأويل النص القرآني، ونزع القداسة عن النص الحديثي، وتفكيك المنظومة الفقهية، وهو ما يغاير ما ذهب إليه العلمانيون الأوائل الذين كرسوا جهودهم صوب تكريس قيم العلمانية والترويج لها بوضوح وشفافية ولم يعنوا كثيرا أو قليلا بمقاربة المسائل الدينية والادعاء بتجديد المعرفة الدينية. في السطور التالية أناقش الموقف المبدئي للمفكرين المعاصرين من الدين، كيف ينظرون إليه وكيف يعرفونه، وكيف تتبدى ملامحه عبر تلك التعريفات، ولتحقيق هذا الغرض جمعت طائفة من هذه التعريفات وأدرجتها بلغة أصحابها ضمن تصنيفات محددة، مستهدفة من وراء ذلك البرهنة على أن هنالك تصورا محددا تجاه الدين، وأنه لا يخص مفكرا بعينه دون غيره وإنما يعبر عن المشروع العلماني في مجمله.

الدين: ماهية واحدة وتعريفات متعددة

هنالك عدد من التعريفات التي صاغها المفكرون العلمانيون في كتبهم حول تعريف الدين، وقد قمت بجمعها من مصادر مختلفة وراعيت في اختيارها: أن تكون معاصرة حيث استبعدت تعريفات الآباء العلمانيين، وأن تعبر عن التوجهات المتباينة داخل المعسكر العلماني من يمينيين ويساريين، وأن تعبر عن آراء مفكرين من الداخل والخارج، وبالإمكان تصنيفها حسب العنصر الرئيس للتعريف، وبيانها كالتالي:

– منافاة العقلانية: وهو أحد المحددات الرئيسة لتعريف الدين، ذلك أن الدين بما يتضمنه من أبعاد غيبية ينعت بأنه أسطورة غير قابلة للتأويل العلمي[1]، وهو يمكن أن نستشفه من تعريف الباحث الجزائري محمد أركون الذي يعد الدين “حالة نفسية” تدفع المرء أن يضع ثقته في شيء ما، كما أنه “الانتساب الفكري إلى عقيدة ما دون البحث عن أسباب هذا الانتساب أو صلاحيته، إنه انتساب عفوي بلا روية أو تفكير، انتساب عاطفي يتم عن طريق الرأس أو العقل، وعلى الرغم من أن الاعتقاد موقف أساسي لكل المبادرات البشرية إلا أنه يتخذ مكانة أكبر في حالة التعاليم الدينية، فلا تطلب الأديان من أتباعها الانتساب إلى شخصيات ووقائع خارجة عن حدود كل ضبط عقلاني، وإنما تفرض عليهم أيضا رفض القيم والرموز والتأويلات المضادة”[2].

– التاريخانية: وإذا كان الدين عند أركون حالة نفسية وفكرية تستعصي على التعليل المنطقي فإنه لدى القطاع الأكبر من المفكرين منتج تاريخي ليس له أصل إلهي أو في أفضل الأحوال ضعيف الصلة بالأصل الإلهي، فها هو المفكر الماركسي المصري سمير أمين يصفه بأنه “ظاهرة تاريخية يخص شعوبا معينة في عصور معينة” وبالتالي فهي تخضع لقوانين التاريخ وسنن التطور[3]، ومثله تعريف الماركسي اللبناني حسين مروة الذي يرى في الدين انعكاسا للعلاقات الاجتماعية بين البشر، ومن الخطأ لديه تفسير ظهور هذا الدين أو ذاك باعتباره “حدثا منفصلا عن مجاري الحياة البشرية العينية على الأرض… ذلك أن كل دين ظهر في التاريخ كانت له جذوره الاجتماعية في الجانب الذي ظهر فيه من الأرض، وكانت له بالقدر نفسه جذوره المعرفية المتصلة بالواقع البشري”[4]، ويعضدهما سمير وليم حيث يقول “إن الدين ضار وسلطوي، ولا يستطيع أن يحل كل مشاكلنا الإنسانية، إن الكتاب المقدس والمصحف القرآني كتابان تاريخيان، لأنهما تموضعا وظهرا في تاريخ إنساني خاص، ومن ثم لا يستطيع المرء أن يضخم دورهما الموضوعي ويزعم أن فيهما حلولا لكل مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية والبيئية”[5].

– الارتدادية والنكوص : وهو عنصر آخر تركز عليه بعض التعريفات على نحو ما نجده لدى المفكر السوري صادق جلال العظم الذي ينظر إلي الدين باعتباره “مجموعة من المعتقدات والشعائر والطقوس التي تحيط بالإنسان إحاطة شبه كاملة … والدين بطبيعة عقائده المحددة ثابت ساكن يعيش في الحقائق الأزلية وينظر إلى الوراء ليستلهم مهده، ولذلك كان يشكل دائما التبرير الميتافيزيقي والغيبي للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية القائمة، وكان ولا يزال يشكل أحصن قلعة ضد الذين يبذلون الجهود لتغيير هذه الأوضاع تغييرا ثوريا[6]، ويتفق معه نصر حامد أبو زيد الذي يرى أن كل الأديان “تؤمن بأن العالم مؤمن في وجوده إلى علة أولى أو مبدأ أول، والخطاب الديني هو الذي يقوم بتفسير كل الظواهر الطبيعية والاجتماعية بردها جميعا إلى هذا المبدأ الأول، إنه يقوم بإحلال الله في الواقع العيني المباشر ويرد إليه كل ما يقع فيه، وفي هذا الإحلال يتم تلقائيا نفي الإنسان، كما يتم إلغاء القوانين الطبيعية والاجتماعية، وفي هذا الخطاب وبفضل هذه الآلية تبدو أجزاء العالم مشتتة وتبدو الطبيعة مبعثرة إلا من الخيط الذي يشد كل جزء من العالم والطبيعة إلى الخالق والمبدع الأول”[7]

– الثنائية الحدية : بعض التعريفات تنظر إلى الدين بوصفه ثنائية مغلقة وهو ما نجده في تعريف عزيز العظمة “فالدين في أساسه فصل بين المقدس والمدنس في تصنيف أساسه التغاير المطلق، وقوامه اكتفاؤه المطلق بذاته… وليس ثمة دين يخرج في أساسه عن هذا الفصل المطلق، وليس ثمة دين لا يحتوي على هذا الفصل كأصل له وكعنصر يدخل في كل أحواله وأدواره”[8]، وعلى ذات النهج يرى أدونيس في الدين ثنائية مختزلة فهو يضع “الآخرة مقابل الدنيا أو الغيب مقابل الطبيعة، وهو في ذلك يفصل الفكر والواقع، كما يفصل بين النفس والجسم، هناك بدئيا اغتراب مزدوج الفكر مغترب عن الواقع، والواقع مغترب عن الفكر”[9]، ويتابعهما إلياس مرقص بالقول “دين الله الواحد أقام ماهيتين أو جوهرين، المادة والروح، المادة الفانية والروح الأزلية.. دين الله الواحد غلَب الروح على المادة.. دين الإله الواحد نسب الخير للإله والشر للإنسان”[10].

– الإقصائية : يذهب فريق من المفكرين إلى أن الدين أداة تمييز وإقصاء بين البشر، وحول هذا المعنى يعتقد أدونيس أن “الدين لا يوحد بين الإنسان والإنسان بل على العكس يفرق بينهما، أما الذي يوحد بينهما فهو العقل، لابد إذن من إزالة الدين من المجتمع وإقامة العقل، والإزالة هنا لا تقتصر على الدولة أو الدين العام، بل يجب أن يزال الدين الخاص أيضا، أي دين الفرد ذاته”[11] ويشاطره الرأي إلياس مرقص الذي يعتقد أن الدين تحول إلى “هوية فرقية” تميز بين البشر حسب معتقداتهم الدينية ولا توحد بينهم[12].

– الوصائية : وهو التعريف الأخير الذي يمكن أن نختتم به هذه الطائفة من التعريفات للدين، وفيه يذهب ناصيف نصار إلى أن الدين “ينزع إلى اعتبار الإنسانية كلها وبالتالي دولها ومجتمعاتها في حالة قصور ويؤسس على هذا الاعتبار حقه في السيطرة على شئون المجتمعات البشرية وتوجيهها في المبادئ العامة إن لم يكن في التفاصيل أو في الأحوال الفردية، تلك هي وصاية الدين على المجتمع”[13].

ملاحظات وتعقيبات

يبدو من خلال التعريفات السالفة مدى اهتمام المفكرين الحداثيين بمحاولة إعادة تعريف الدين على أسس جديدة تقطع مع التعريف التراثي له بأنه (وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل)، وهذه التعريفات ثمة عناصر تجمعها وأخرى تباعد بينها

أما ما يجمعها فهي: أنها تغلب الأبعاد المادية على الروحية وتفصل الدين عن أصله الإلهي، وتنفي عنه صفة الهداية وغايته الإصلاحية الفردية والجمعية وهي العناصر التي تأسس عليها التعريف التراثي، وأنها جميعها محملة بالمدلولات السلبية كالإقصاء والوصائية والارتداد الفكري، وأنها تجمع على كون الدين ضار أو على الأقل عديم الفاعلية في الحياة المعاصرة وأن العلمانية هي البديل لإنشاء إنسان فاعل أو مجتمع منتج متسق مع قيم العصر.

لكنها مع هذا تتفاوت فيما بينها من جهات أولها اختلاف مداخل التعريف فثمة تعريفات تركز على تاريخانية الدين، وأخرى على نكوصيته الفكرية وثالثة على أنه يكرس الإنقسام ويميز بين البشر على أسس عقائدية وهو بهذا المعنى يحول دون تحقق المساواة الكاملة والمواطنة. غير أن هذه المداخل المتفاوتة تشكل في مجموعها محددات المفهوم وصورته الكاملة لدى المفكرين العلمانيين، فهو تاريخاني، إقصائي، نكوصي.

وثمة تفاوت آخر نجده في درجة التطرف والعنف فهنالك تعريفات غاصة بالعنف كتعريف الشريف وليم وأخرى أقل عنفا كتعريف ناصيف نصار، وأخيرا هناك تفاوت في الموقف من الدين هل يتم استقصاؤه تماما كما يبتغي أركون أم هل يمكن استبقاؤه بعد تنقيته من الغيبيات حسبما يريد نصر حامد أبو زيد.


[1]  نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، القاهرة: سينا للنشر، 1992، ص 9.

[2] محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة هاشم صالح، بيروت: دار الطليعة، 1998، ص 219.

[3] سمير أمين، بعض قضايا للمستقبل، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1991، ص 142.

[4] حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية، بيروت: دار الفارابي، ج 1، ص 304.

[5] الشريف وليم، المسيحية، الإسلام، والنقد العلماني، بيروت: دار الطليعة، ص 17.

[6] صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، بيروت: دار الطليعة، 1972، ص 23.

[7]  نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، ص 32.

[8]  عزيز العظمة، التراث بين السلطان والتاريخ، بيروت: دار الطليعة، 1990، ص 100.

[9] على أحمد سعيد، الثابت والمتحول، بيروت: دار العودة، 1972، ج1، ص 94.

[10]  إلياس مرقص، نقد العقلانية العربية، دمشق: دار الحصاد، 1997، ص 111.

[11] علي أحمد سعيد، المرجع السابق، ج1، ص90.

[12] إلياس مرقص، المرجع السابق، ص768.

[13] ناصيف نصار، مطارحات للعقل الملتزم، بيروت: دار الطليعة، 1986، ص 220.