عقد الباحثون مقارنة بين أدمغة 78 شخصًا انتحروا وحُفظت عيناتها.. فاكتشفوا انخفاضًا في سُمك غلاف “المايلين” للألياف العصبية عن الطبيعي بأدمغة مَن تعرضوا لمعاملة حادة في الطفولة.

أمام شاشة قناة “دويتشة فيله” الألمانية، جلست فتاة شابة ذات وجه شاحب، تحكي قصتها مع “العنف الأسري”، بعد أن اختفى والدها من حياتها، وتعرفت أمها على رجل جديد. قصة تلك الفتاة لن تغيب عن ذهن مَن يشاهدها، فهي الصغرى بين 3 أبناء، اثنان منهم من الذكور، عاملهم زوج الأم جميعًا بقسوة شديدة بلغت حد التعذيب.

راحت العدسات تنتقل من مشهد الضرب إلى مشهد آخر بين القبور، إذ انتحر أخوها الأكبر في مرحلة الشباب، وهو الانتحار الذي تُرجعه الفتاة إلى ما مر به في طفولته، وعدم قدرته على تجاوُز مشاهد التعذيب مع مرور السنوات.

مشهد دموع الفتاة وهي تحكي عن أخيها الأكبر وما تعرض له من عنف في ظل صمت الأم، صادم ومؤلم، ويتطابق مع ما خلصت إليه دراسة أجراها فريق متخصص في دراسات الانتحار بمعهد الصحة العقلية وجامعة “ماك جيل” الكنديين؛ إذ أشارت نتائج أبحاثهم إلى أن العنف “الشديد” في الطفولة يترك أثرًا دائمًا على الروابط العصبية في المخ.

الدراسة التي نشرتها الدورية الأمريكية للطب النفسي “أميركان جورنال أوف سيكاتري” ترجح أن استمرار التعرض للعنف لمدة طويلة، في أثناء فترة الطفولة، يُحدث خللًا دائمًا في الألياف العصبية بالمخ، التي تتشكل في أثناء العقدين الأولين من حياة الإنسان، وهو ما يُحتمل أن يدفع الشخص إلى الانتحار.

ووفق الدراسة، يمكن توضيح الأمر على نحوٍ علمي مبسط، فلو تخيلنا أن الشكل الأمثل لعمل الدماغ يعتمد على إطلاق إشارات كهربائية تُعَدُّ بمنزلة رسائل لأعضاء الجسم، حينها ستكون الخلايا العصبية هي ساعي البريد الذي يسافر مسافاتٍ طويلة لنقل الرسالة، ويقوم في هذه الحالة بتسليمها لساعٍ آخر “خلية عصبية أخرى”، وهكذا حتى تصل إلى مناطق الجسم.

الطريق الذي يصل بين الخلايا العصبية يسمى “محورًا عصبيًّا”، وللحفاظ على سلامة الرسالة “الإشارة الكهربائية” جرى عزل “المحور العصبي” وحمايته من خلال إحاطته بمادة دهنية بيضاء يطلق عليها “مايلين”، هذه المادة تتكون خلال مرحلة الطفولة، وتتراكم تدريجيًّا في عملية تُعرف باسم “ميليناتيون”، في إشارة إلى تشكيل مادة “المايلين”، ثم تستمر في النضج حتى سن البلوغ المبكر.

أدمغة المنتحرين

تشير دراسات سابقة اعتمدت على فحص بالرنين المغناطيسي لأدمغة أفراد تعرضوا لإساءة معاملة في مرحلة الطفولة، إلى ملاحظة وجود مادة بيضاء غير طبيعية، وهي في الغالب عبارة عن مليارات الألياف العصبية من مادة “المايلين المكدسة”. لكن، تبقى هذه الملحوظة مبنية على تصوير لا يوضح أي تفاصيل عن هذه الخلايا وكيفية تكوُّنها، ولا عن الجزيئات التي تأثرت من جَرَّاء التعرض للعنف.

وبحثًا عن إجابات لهذه الأسئلة، وبفضل وجود عينات لأدمغة أناس فارقوا الحياة في بنك “دوجلاس بيل” بكندا، ووجود بيانات عن حياة أصحاب الأدمغة وظروفهم المعيشية، تمكن الباحثون هذه المرة من مقارنة عينات أدمغة ثلاث مجموعات مختلفة من البالغين، الأولى كانت لـ27 شخصًا انتحروا بعد معاناة مع الاكتئاب، وبالطبع كان لديهم تاريخ من سوء معاملة الطفولة بشكل حاد، أما المجموعة الثانية فتكونت من أدمغة 25 شخصًا كانوا يعانون من الاكتئاب وانتحروا، ولكن لم يكن لديهم تاريخ من التعرُّض لسوء المعاملة في أثناء طفولتهم، أما المجموعة الثالثة فكانت لأدمغة 26 فردًا لم يعانوا أمراضًا نفسية ولا تاريخًا من الاعتداء على الأطفال.

صحيح.. هل تدري ماذا حل بالأخ الآخر للفتاة الألمانية؟ تأخذنا عدسات الكاميرا إلى مشهد شاب هزيل، يكاد فمه يخلو من الأسنان، بشرته شديدة الشحوب، ويجلس على أريكة ضامًّا يديه إلى صدره في شكل يوحي بأنه انطوائي، الأسوأ أن الشاب بعد معاناة امتدت سنواتٍ مع الإدمان أصيب بمتلازمة نقص المناعة المكتسبة (الإيدز).

يتماشى ما حدث مع هذين الشابين مع ما اكتشفه الباحثون الكنديون، إذ كان سُمك غلاف المايلين الذي يغطي المحور العصبي منخفضًا عن الطبيعي في أدمغة مَن عانوا من إساءة معاملة حادة في الطفولة، مشددين على أن “التغيرات التي تحدث في المخ انتقائية، وتستهدف الخلايا المسؤولة عن توليد المايلين وصيانته”.

ماضينا يشكل حاضرنا

تكشف الدراسة أن “المحنة التي نتعرض لها في مرحلة مبكرة من الحياة، قد تعطل بشكل دائم مجموعةً من الوظائف العصبية في القشرة الحزامية الأمامية للمخ، تؤدي دورًا بارزًا في عمليات صنع القرار وإدارة المشاعر والعاطفة”، موضحةً أن “الفريق البحثي ينوي استكشاف مزيد من الأسرار حول هذا التأثير من خلال الإجابة عن أين ومتى وكيف يحدث هذا التأثير على مستوى جزيئات الدماغ خلال مراحل التطور”.

اكتشف الباحثون أيضًا وجود زيادات في أقطار عدد من المحاور العصبية، ما يعني أن حدوث هذه التغيُّرات سيؤثر على وظيفة أجزاء من القشرة الحزامية والهياكل تحت القشرية، مثل اللوزة ونواة “أكومبنز accumbens” وغيرها من مناطق في الدماغ ترتبط بعملية التنظيم العاطفي وما له علاقة بالثواب والعقاب، وهو ما سيتبعه تغيُّر في المعالجة العاطفية عند مَن تعرضوا للاعتداء خلال مرحلة الطفولة”.

تنتشر على صفحات الجرائد العديد من حوادث الاعتداء على الأطفال، وكذلك هو الحال مع مواقع الإعلام الإجتماعي، حيث تنتشر مقاطع فيديو حول اعتداءات مدرسين بالضرب بطريقة وحشية على تلاميذ بالمرحلة الابتدائية، ربما كان الأفضل لذوي القلوب الضعيفة عدم مشاهدتها، لكنها تخبرنا الكثير عن استخدام البعض للضرب وسيلةً للتقويم، دون وعي منهم بالأثر الذي يخلفه هذا العنف.

تقول دينا عريبي -مدرس وباحث مساعد علم نفس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة- لـ”للعلم”: “إن المدرسة الفرويدية تعتقد أن ماضينا يشكِّل حاضرنا، وأن أساليب الأبوة والأمومة وعلاقتنا مع والدينا أو الأحداث الصادمة الماضية هي ما يشكل مستقبلنا، فالإنسان يولد جيدًا بطبيعته، كما أن الأفراد لديهم الإرادة الحرة لتطوير شخصياتهم والوصول إلى تحقيق الذات”.

العنف الجنسي

قصة الفتاة الألمانية لم تنته، بل -في الواقع- بدأت، فمع بلوغها سن السابعة، شرع زوج الأم في استخدامها كـ”دمية جنسية” على حد وصفها، ولسنوات استمر هذا الأمر دون حماية من الأم بسبب إدمان الأخيرة للكحوليات، فضلًا عن تعرُّض الأم “ذاتها” لعنف جنسي في أثناء طفولتها.

ويبقى السؤال العالق في الذهن هو: ماذا عن مخ المعتدي -زوج الأم- هل يماثل مخ البشر الطبيعيين؟ وهو السؤال الذي تجيب عنه دراسة أعدها فريق من الباحثين بجامعة دويسبورج- إيسن الألمانية ونشرتها دورية “رسم خرائط الدماغ البشري” في عام 2016، إذ رصدت وجود اختلاف تشريحي في مخ مَن يعتدي جنسيًّا على الأطفال، أو حتى مَن لديه رغبة في إقامة علاقات جنسية مع الأطفال دون القيام بذلك.

تقول كريستيان كيرجل -الباحث الرئيس في الدراسة، وأستاذة الطب النفسي بالجامعة- في تصريحات لـ “للعلم”: إنه “من خلال فحص صور الرنين المغناطيسي لأدمغة 40 شخصًا من الذين أساءوا للأطفال جنسيًّا، و37 ممن يميلون لممارسة الجنس مع الأطفال، لاحظنا أن مخ الأشخاص غير المسيئين به نشاط “محفز للتثبيط” في منطقتين بالمخ، هما المنطقة اليسرى خلف الرأس والقشرة الأمامية اليسرى”.

تعلق “كيرجل” على الدراسة الكندية قائلةً: “إنها تقربنا خطوات كثيرة من فهم ما يحدث في الدماغ كاستجابة لصدمات الطفولة، خاصة أنه من المعروف أن القشرة الخلفية للدماغ تؤدي دورًا في التعامل مع معلومات السيرة الذاتية، ومنها الوعي بالذات مثلًا، وكذلك مسألة التركيز، واختلال هذا الجزء من الدماغ له صلة بالعديد من الاضطرابات النفسية والسلوك الإجرامي والاعتداءات الجنسية على الأطفال”.

وترى أن “الدراسة تفيد العلاج النفسي من خلال منع السلوك الإجرامي في المستقبل، إذ من الممكن العمل على تحسين قدرات ضبط النفس لدى المعرَّضين لخطر ارتكاب جرائم جنسية للأطفال، خاصةً أن أدبيات علم النفس تشير بوضوح إلى أن مَن يتعرض لإساءة في مراحل الطفولة، من الوارد جدًّا أن يتحول إلى مسيء عند الكبر، وغالبًا ما يكون المسيئون للأطفال ضحايا لصدمات تعرضوا لها في طفولتهم، لذا يميلون إلى إظهار السلوك العنيف في مرحلة لاحقة من حياتهم.

من جهته، يقول أحمد عبد الله -أستاذ الطب النفسي بجامعة الزقازيق- لـ”للعلم”: “إن أي خبرات –إيجابية او سلبية- يتعرض لها الإنسان في طفولته تترك أثرها على المخ، والأمر الإيجابي هنا أن الخبرات العلاجية يكون لها الأثر نفسه، فإذا أخضعنا الطفل المتعرض للإساءة لعلاج نفسي، فإن ذلك يكون جيدًا”.

عند هذا الحد تتوقف تعليقات الخبراء، بينما ترصد كاميرات “دويتشة فيله” تفاصيل وجه الفتاة الألمانية وهي تحتضن طفلتها ذات العامين، وكأنها تحتمي بها في “محاربة ذكريات طفولة لا تستطيع محوها”.