إن صدر هذه الأمة قد مرّت به فتنٌ عاصفة، قد زلزلت كيانه من الداخل. أمّة حديثة عهدٍ بـ: دين، ووحدة، ودولة، فجاءت الفتن الكبرى في: الدين والوحدة والدولة.

وكان من الأحرى أن يتم الحفاظ على هذه المكتسبات التي جعلت من تلك القبائل العربية المشركة المتناحرة المتنافرة أمة لها ما يميزها بين الأمم، لكنّ نفرًا لم يستوعب هذا التغيير، ولم تستسغ أنفسهم أن تعيش في ظل نظام رباني ودولة جامعة وأخوّة صادقة متينة.

فلم يكد يمضي على لحوق المصطفى بالرفيق الأعلى وقت طويل، ولم تكد الأمة تفيق من هول صدمة فقْده إلا وقد أحاطت بها المصائب من كل حدب وصوب. فلم ينقض النصف الأول من القرن الهجري الأول إلا وقد عاينت الأمة أهوالاً داخلية شابت منها الرءوس وانفطرت منها القلوب. وهذه الأهوال كانت في معظمها سياسية، ثم تسربلت بسربال الدين؛ لتبرير رؤيتها السياسية ومنهجها الفكري وسلوكها العملي.

وقد قلّبت النظر في الأحداث التاريخية لتلك الفترة فوجدت أن أعظم هذه الفتن الكبرى هي:

1- الردّة (الكفر)

هناك نفوس أُشربت الإيمان، وامتلك الإسلام شغاف قلوبها، ووجدت في هذا الدين صلاح الدنيا والآخرة، لكن بعض النفوس التي أسلم لسانها ولم يُسلم قلبها وجدت أن موت صاحب الرسالة سيحررها من التبعية والولاء لهذا الدين ولخليفة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.

لقد أرادوا دينًا على هواهم، وحسبوا أن قبضة الدولة الوليدة ستضعف وتتلاشى بعد موت النبي المؤسس، لكن الخليفة الأول أظهر لهم القوة، وقسرهم على العودة لحظيرة الإسلام قسرًا.

لقد أظهروا التمنّع على الدولة، وأعدوا العدة للمواجهة، فلزم قتالهم من جهتين: جهة دينية وجهة دنيوية. فالجهة الدينية للارتداد عن الدين، والجهة الدنيوية للخروج على الدولة.

قال قتادة: “لما قبض الله نبيَّه محمدًا –صلى الله عليه وسلم– ارتدّ عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد: أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل البحرين من عبد القيس، قالوا: نصلي ولا نزكِّي، والله لا تُغصب أموالنا! فكُلِّم أبو بكر في ذلك فقيل له: إنهم لو قد فُقِّهوا لهذا أعطوها أو: أدَّوها.

فقال: لا والله، لا أفرق بين شيء جمع الله بينه، ولو منعوا عِقالاً مما فرضَ الله ورسوله لقاتلناهم عليه!

فبعث الله عصابة مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم، حتى سبَى وقتل وحرق بالنيران أناسًا ارتدّوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة، فقاتلهم حتى أقرّوا بالماعون وهي الزكاة، صَغرة أقمياء.

فأتته وفود العرب، فخيَّرهم بين خُطَّة مخزية أو حرب مُجْلية. فاختاروا الخطة المخزية، وكانت أهون عليهم أن يقرُّوا: أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردّوه عليهم، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال”([1]).

2- قتل ذي النورين عثمان

إذا كانت الردة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قد كانت عامّة في العرب، فإن قتل عثمان رضي الله عنه والخروج على حكمه كان من أوباش القبائل وأهل الفتن كما وصفهم ابن تيمية([2]).

كانت تلك الحادثة سابقة خطيرة في الأمة؛ إذ لم يسر فيهم ذو النورين عثمان بسيرة الظلم، ولم يسمهم خُطة ضيم، بل كان لينًا سمحًا.

وقد وصف الزهري فترة حكم ذي النورين بقوله: “لما ولي عثمان عاش اثنتي عشرة سنة أميرًا يعمل ست سنين لا ينقم الناس عليه شيئًا، وإنه لأحب إلى قريش من عمر بن الخطاب؛ لأن عمر كان شديدًا عليهم، فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم.

ثم توانى في أمرهم واستعمل أقرباءه وأهل بيته في الست الأواخر، وكتب لمروان بخمس مصر، وأعطى أقرباءه المال، وتأول في ذلك الصلة التي أمر الله بها، واتخذ الأموال، واستسلف من بيت المال وقال: إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما، وإني أخذته فقسمته في أقربائي، فأنكر الناس عليه ذلك”([3]).

وقد لمس أمير المؤمنين عثمان هذه التغيرات ورصدها، لكنه لم يشأ أن يقمع أحدًا، أو أن تسيل الدماء لاعتراض معترض على أسلوبه واجتهاداته في الحكم، فكتب إلى الأمراء: “إن الرعية قد طعنت في الانتشار، ونزعت إلى الشر، وأعداها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرة، وأهواء متشرعة([4])، وضغائن محمولة، ويوشك أن ينفر ثم يغير، فلا تجعلوا لأحد علة، كفوا عنهم ما لم يخرقوا دينًا، وخذوا العفو من أخلاقهم”([5]).

فكان ذو النورين يملك المال والسلطان والنفوذ، ولو أمر بوأد هذه الفتنة لما تأخر عماله وأمراؤه، لكنه كان حليمًا، ولم يُرد أن يكون أول من يفتح باب الدماء في الأمة، واعتبر أن كلام معارضيه فيه من الخلاف المقبول، لكنهم غرهم حلمه ولينه، وتجاسروا عليه، وحاصروه، ثم قتلوه بلا جريرة أو ذنب يستحق عليه القتل أو حتى العزل.

فعلوا ذلك وهو مانعٌ الصحابة عن قتالهم، ولو قاتلهم لظفر عليهم([6])، ولم يتنازل عن الحكم حتى لا تكون سنة في الأمة([7]).

وقد اعتبر حذيفة بن اليمان مقتل الخليفة عثمان أول الفتن في الأمة([8]).


([1]) تفسير الطبري، (10/412-413).

([2]) منهاج السنة النبوية، (4/323)، وقال النووي: “قتله همج ورعاع من غوغاء القبائل وسفلة  الأطراف والأرذال، تحزبوا وقصدوه من مصر، فعجزت الصحابة الحاضرون عن دفعهم فحصروه حتى قتلوه -رضي الله عنه” [شرح النووي على مسلم، (15/148-149)].

([3]) طبقات ابن سعد، (3/64).

([4]) كذا.

([5]) تاريخ دمشق لابن عساكر، (39/246).

([6]) قالت نائلة بنت فرافصة الكلبية امرأة عثمان: لما حصر عثمان صام قبل اليوم الذي قتل فيه، فلما كان عند إفطاره سألهم الماء العذب فأبوا عليه وقالوا: دونك ذاك الركي. قالت: وركي في الدار تلقى فيها النتن. قالت: فبات من غير أن يفطر، فلما كان في السحر أتيت جارات لي على أجاجير متواصلة تعني السطوح سألتهن الماء فأعطوني كوزًا من ماء، فلما جئت به نزلت فإذا عثمان في أسفل الدرجة نائمًا يغط فأيقظته قالت: هذا ماء عذب أتيتك به. قالت: فرفع رأسه ينظر إلى الفجر فقال: إني أصبحت صائمًا. فقلت: من أين ولم أر أحدًا أتاك بطعام ولا شراب؟! فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اطلع عليّ من هذا السقف ومعه دلو من ماء فقال: اشرب يا عثمان فشربت حتى رويت، ثم قال: ازدد فشربت حتى رويت، ثم قال: أما إن القوم سيكثرون عليك فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا، فدخلوا عليه من يومه فقتلوه. [السنة لابن أبي عاصم، (2/593)].

([7]) قال ابن عمر له: “لا أرى أن تسن هذه السنة في الإسلام كلما سخط قوم على أميرهم خلعوه، لا تخلع قميصًا قمصكه الله” [طبقات ابن سعد، (3/66)].

([8]) مصنف ابن أبي شيبة، (8/346).