يتمدد الإيمان الكامل بالفرد عالميا، من خلال توسع المنظومات المدافعة عن حقوق الإنسان، التي أضفت على الانحرافات والشذوذ، سياجا من الحماية والرعاية، رغم أنها ترسخ انعزال الشخص عن وسطه الاجتماعي، وربما ذوبانه وتلاشي علاقاته الإنسانية،  في كتابه “النباهة والاستحمار” يضرب المفكر “علي شريعتي” مثالا لكثير من القضايا التي يدافع عنها الإنسان المعاصر، دون أن يكتمل فهمه لها، فيقول: “إنهم ينادون بالحرية الفردية، ويدعونك لها من أجل تمويه الأذهان، والغفلة عن النباهة الاجتماعية، حيث يرى الإنسان نفسه حرا من الناحية الفردية فى غذائه وشهواته، كقفص فيه طير، وقد وُضع فى صالة مغلقة تماما، ثم فُتح باب القفص، إنه شعور كاذب بالحرية، لأن الأسير الذى يعلم أنه مأسور يحاول أن يطلق نفسه، ويتحرر من الأسر، بينما الذى لا يشعر أنه أسير ويشعر بالحرية، فشعوره وهم وكذب”.

هذا الوصف الدقيق لحالة الإنسان المعاصر، الذي تُنمى فيه النزعة الفردانية، باعتبارها طوق الخلاص لمعاناته، وسبيلا لينطلق لتحقيق المتعة واللذة باعتبارهما عنونا للحياة المعاصرة، ربما تقود هذه النزعة إلى تدمير خصائص الجنس البشري، في ظل الثورة التكنولوجية والرقمية، التي باتت فيها العلاقة مع الآلة الخيار الأفضل.

الفردانية والحداثة

المتأمل في المجتمعات الحديثة يلحظ تنامي النزعة الفردانية Individualism مع تكون المجتمعات الصناعية، حيث اقترنت الثورة الصناعية، بهجرة الكثير للعمل في المصانع بعيدا عن أسرهم، وكان على هؤلاء تدبير معاشهم وحياتهم بمفردهم، ثم ما لبثت أن ظهرت الرؤى الفلسفية التي تضفي على الفردانية جاذبية، خاصة في ظل معاناة الإنسان من الأطر والأفكار والفلسفات التي خضع لها وطوعت سلوكه.

فمع بداية القرن العشرين لقيت الفردانية أو الشخصانية قبولا وانتشار في الفلسفة الأمريكية والفرنسية، فهي تضع قيمة الشخص فوق كل اعتبار؛ وتراه  قيمة مطلقة، ويعد الفرنسي “شارل رينوفييه” Charles Renouvier  المتوفى 1903 ، من فلاسفة الفردانية، التي تصر على الحريـة الفـردية، لذا احتلت مفاهيم الذاتية والاستقلالية مكانا بارزا فيها، فهما من أبرز مظاهرها وتجلياتها .

هذا التوجه أغرى الفرد بأن تكون له رؤيته المستقلة للحياة، واستقلاله في اتخاذ قراراته ومواقفه القائمة على المتعة والمنفعة، ومما ساعد على انتشار الفردانية وجود فلسفات ومذاهب اقتصادية تشجع على ذلك، خاصة المذهب الرأسمالي، وهنا نجد مقولة الاقتصادي “آدم سميث” صاحب كتاب “ثروة الأمم”:” إن رفاهية المجتمع تتحقق عندما يسعى كل فرد إلى تحقيق غايته” وكذلك انتشار الليبرالية، والديمقراطية.

لكن الطريف أن الفيلسوف الإنجليزي “برتراند راسل” في كتابه “ما الذي أؤمن به” يرى أن المسيحية كانت من أسباب انتشار الفردانية، لأنها عمقت الخلاص الفردي، فيقول: “فأكثر الرجال فضيلة الذين يعتزلون العالم، لم تقدس الكنيسة يوما رجلا لأنه نظم الموارد المالية، أو القانون الجنائي، أو النظام القضائي، إن مساهمات كهذه تخص السعادة البشرية لا تُعد مهمة، ومع هذا الفصل بين الإنسان الأخلاقي والاجتماعي، ازداد الفصل بين الروح والجسد، فالأخلاق المسيحية قد جعلت بنفسها بشكل كامل فردانية، واعتقد أن النتيجة الواضحة لكل هذه القرون من المسيحية أن البشر أصبحو أكثر أنانية، وانغلاقا على أنفسهم” ومعنى هذا أن البيئة الغربية كانت مشجعة لنمو الفردانية.

كتاب “ما الذي أؤمن به” للفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل

ومن ثم اتجه الإنسان نحو ذاته، معرضا ومبتعدا عن المعايير الخارجية، خاصة مع تنامي شكوك الإنسان في قدرة الأفكار الكبرى على تخليصه ورفع معاناته، فالأفكار القومية كانت وراء اشتعال الحربين العالميتين اللتين حصدتا أرواح عشرات الملايين، والشيوعية كانت سجنا للإنسان عندما طبقت، والرأسمالية شجعت على الاستغلال، والتجارب الدينية كانت في أكثرها مخيفة، كل هذه المآسي دفعت الإنسان للثقة في ذاته دون غيرها.

ومع تعدد الذوات، تفرق المجموع، وأصبح البشر يشجعون كل آلية وفلسفة تفرق بينهم، ويرى الدكتور  “طه عبد الرحمن” في كتابه ” بؤس الدهرانية” أن الحداثة الغربية التي أقامت مشروعها على الدنيا والمادة سعت لتعطيل دور الدين في مجالات الحيوية، وكان الفصل أحد أدواتها ووسائلها، وكان أبرز مجالات الفصل: الدين عن العلم، والسياسية عن الأخلاق، كذلك أصبح الفرد يعيش تصورات جزئية، تظلله رغبة عدم المشاركة مع الآخرين، واتسم طابع حياته بالانانية، والرغبة في التحلل من قيود المسئولية الاجتماعية، لذا كان العزوف الكبير عن الزواج، والتخلى عن مسؤوليات الأسرة.

كتاب بؤس الدهرانية للفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن

ويمكن الإشارة هنا إلى ما ذكره البروفيسور اليهودي ” يوفال نوح هراري”  Yuval Noah Harari، في كتابه “الإنسان الإله: موجز تاريخ الغد”   Homo Deus: A Brief History of Tomorrow في أن المستقبل سيكون مرتبطا بعلاقة الإنسان بالآلة، أما علاقاته الاجتماعية فتضمر وتتآكل، ويرى “هراري” أن كل دين جديد يقوم بالتخلص من المقدّس القديم، واتخاذ مقدّس آخر، والفردانية استبدلت الخالق-سبحانه وتعالى- بالإنسان، فأصبحت ذات الإنسان محل التقديس والعبادة، كذلك فهذا الدين الجديد “الفردانية” أوجد له أنبياء مثل الأديان يستند إلى أفكارهم ومقولاتهم، كما سعت الفردانية  من خلال الليبرالية ليصبح الفرد هو المرجع في الإنتاج والاستهلاك، ومن خلال الديمقراطية ليصبح الفرد هو المرجع في الحكم، وأصبحت حقوق الإنسان هي الأيديولوجيا “للديانة الفردانية” ، وهو ما سيفقد البشرية معناها، بعدما جعلت الآلة غالبية البشر فائضين عن الحاجة.

وربما هذا ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي ” أندريه كونت-سبونفيل ” في كتابه “هل الرأسمالية أخلاقية؟” Le capitalisme est-il moral ?  إذ يقول :” النزعة الفردية تولد مستهلكين من أحسن طراز، فما دام رخاء العيش مطلوبا فإن ولادة المستهلكين الجيدين تستلزم منتجين من ذوي الكفاية على الأقل، لذلك نقول إن مجتمعنا ليس مهدداً بما هو نظام اقتصادي، من هذا الجانب فهو قادر على البقاء لبعض الوقت على الأقل، لكن من شأنه أن يخفق في اكتساب معنى”.

التكنولوجيا والفردانية

يؤكد الدكتور  “عبد الوهاب المسيري” أنه ” كلما ازداد الشعور بالقوة عند الكائن الحي، نراه يميل إلى الفردية والاستقلال”، والتكنولوجيا، رغم ميزاتها الضخمة، إلا أنها منحت الانسان شعورا طاغيا بالقوة والقدرة والإنجاز، فعمقت بذلك الفردانية، فداخل الأسرة أصبح الأفراد يعيشون منعزلين عن بعضهم وهم تحت سقف واحد بفعل الاعتماد على تكنولوجيا الاتصال، فبات الأفراد لا يتجمعون حول التلفاز الذي يتيح قدرا من التواصل، ولكن أصبح كل شخص منهم يميل للعزلة في غرفته، وأصبح “الموبايل” هو الأنيس والجليس الوحيد، بل صار الاكتفاء به كبديل عن التواصل مع الآخرين، وهو ما يعني أن العلاقات الإنسانية سائرة إلى التحلل، خاصة مع انهيار قيم الأسرة وأهميتها بالنسبة لأفرادها.

تشير “شيري توركل”  Sherry Turkle عالِمة الاجتماع الأمريكية، في كتابها “معا بمفردنا”[1]  أن التكنولوجيا أصبحت تقوم بهندسة علاقاتنا الاجتماعية، فالانسان على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي له مئات بل آلاف الأصدقاء، لكنه ربما يفشل في إدارة علاقته داخل أسرته، وهو ما يقود إلى عزلة كبيرة، فالتكنولوجيا تملأ فراغ الإنسان، لكن البشر غير قادرين على البقاء بمفردهم، وكذلك لا يستطيعون البقاء معا، وأمام هذا التناقض، جاء الموبايل ليقدم حلا، ولكن تدميريا للعلاقات الإنسانية.

كتاب “معا بمفردنا” لعالمة الاجتماع الأمريكية شيري توركل

وتضيف شيري توركل في كتابها : ” ينبغي أن تكون هناك أماكن مقدسة لا يجوز فيها التواصل عبر الإنترنت، مثل مائدة العشاء التي تضم الأسرة “، غير أنها تشير إلى مسألة خطيرة ستعمق الفردانية، وهي تدخل “الربوتات” في حياة الإنسان بدرجة مقلقة، خاصة مع مساعي العلماء لمنح الربوتات مقدرة على التبادل العاطفي مع الإنسان، ومن ثم قد يستغني الإنسان عن نظيره البشري  متجها إلى الآلة والربوت .


[1]   Alone Together : Why We Expect More from Technology and Less from Each Other