لاشك أن الثورة الصناعية أحدثت منعطفا هائلا في تاريخ الإنسانية، من حيث زيادة الإنتاج، وتوسيع دائرة الرخاء المادي، والتخفيف من الجهد العضلي الذي كان في السابق يستنزف حياة الإنسان وسعادته. إلا أنها في المقابل هدمت الكيان الأخلاقي، وهزت كثيرا من القيم المعنوية والمثل العليا، بعد أن صارت الأرباح الطائلة عنوانَ المرحلة، وجنيُ المال أولويةً يهون في سبيلها كل شيء.

اتجهت المثل والقيم بكليتها إلى تحسين المستوى المادي، وإشباع الرغبات الحية، حتى قال سليفيد جيزيل في كتابه (النظام الاقتصادي الطبيعي): ” إذا تعارضت أعمال الرجل مع آرائه الدينية، فيجب أن يعاد النظر في هذه الأفكار.” بمعنى أن يخضع الدين والأخلاق لمتطلبات الحياة الاقتصادية، أو فليبتعدا معا عن ساحة النضال المادي! لكن أمام تزايد مظاهر الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي، ارتفعت الأصوات مطالبة بالمزيد من تخليق عالم المال والأعمال، وتحرير النشاط الاقتصادي مما يسميه جون غالبريث “الاحتيال البريء”.

للتخفيف من سلبية النظام التنافسي داخل الشركات ومواقع العمل، أصدر تشارلز دايغرت كتابه (النجاح جهد جماعي) للتأكيد بأن التخلص من الأداء الرتيب والخالي من التعاون والإبداع في فضاء العمل، يقتضي استبدال جيل “أنا” بجيل “نحن”، وتبديد مناخ السلطة المطلقة الذي يخنق الإنجاز الفاعل. ويقترح فلسفة ضمنية ينبغي أن تحكم- برأيه- الأداء المهني والسعي للنجاح، وتتمثل في التحرر من التنافسية القائمة على بذل الجهد الشخصي، في مقابل التعاون الخلاق القائم على احترام الذات، ومساندة الفريق لكل خطوة إبداعية تتطلب قدرا من المخاطرة.

إن الأمر أشبه بالدرس الذي يقدمه مجتمع النحل حين يداهمه شتاء قارس، حيث تتكتل النحلات لتؤلف ما يشبه الكرة، مع حرص على تبادل المواقع بين مجموعة الوسط ومجموعة الحافة الخارجية. وبتوحيد الجهود تتمكن هذه الحشرة الفريدة من التغلب على المخاطر.

لا يُخفي المؤلف ضجره الواضح من التنافس التناحري، ونظام الأوامر الصارمة الذي ينتهي بالأطر العاملة إلى جهد يفتقر للحركة والمبادرة، لذا يختتم دليله متطلعا إلى أثر طيب على قارئه بالقول: اِعقد العزم على أن تصبح أحد أفراد فريق عمل جماعي، وسيدهشك حقا سرعة تحول العالم بين يديك!

في خضم السعي لتحقيق النجاح يندفع المرء أحيانا خلف طموحه وأهدافه إلى الحد الذي يؤثر سلبا على روابطه الاجتماعية. وتَدعم ظروف العيش في عالم متقلب أسباب تفكك الروابط، وتعزيز أنانية الفرد والاحتفاء بجهده الشخصي. لكن ريتشارد دين، رجل الأعمال والمحاضر الشهير في مجال التحفيز، يرى أن واحدة من مآسي العالم الحديث هي تحطم وحدة الأسرة، وأن النجاح الحقيقي يستمده المرء من كونه جزءا من عائلة، يحظى فيها بالأمان والدفء والعاطفة.

يظهر عنوان الكتاب للوهلة الأولى مثيرا للامتعاض، فعبارة “اِنجح من أجل نفسك” تبدو جافة وخالية من أي دفء إنساني، شأنها في ذلك شأن العديد من الإصدارات المتعلقة بالتحفيز الذاتي والثقافة المالية وتحقيق الثراء؛ حيث الحياة أشبه بحلبة مصارعة، وعلى المرء أن يرقص فوق الحطام ليثبت مقدرته!

على امتداد ستة عشر فصلا، يُبدي المؤلف انشغاله بتحرير قدراتك الكامنة لبلوغ النجاح، والعيش في حالة من السعادة. ويحدد الهدف من الكتاب بأنه سعي للوصول إلى فهم مبدأ الإنجاز الإنساني، من خلال القراءة والاستماع لأشخاص أكثر حكمة، حققوا قدرا كبيرا من الثراء. لكنه يستوقفك في الفصل السابع عشر ليتحدث عن الكلفة الاجتماعية للنجاح الفردي، وكيف أن السعي لتحقيقه حال دون التمتع بمزايا العائلة الكبيرة. يقول المؤلف: « بفعل حكمة الكبار كانت العديد من المشاكل يتم حلها، وكان يتم توجيه الأطفال وتهذيبهم، وحتى مع وجود عجز في الأموال كان المجتمع يتآزر ليتخطى المحنة. وكانت البنات بعد الزواج تقابلن أمهاتهن بانتظام، فكانت المخاوف والضغوط تتشارك وتقلّ، بالإضافة إلى الحصول على استشارة أو نصيحة حكيمة، وكان نادرا ما أن يشعر شخص بالوحدة».

إن التركيز الشديد على الأهداف المادية يمكن أن يخلف دمارا على المستوى الأسري، لذا فتحقيق السعادة والنجاح يستلزم بالضرورة تقدير الآخرين وكسب احترامهم. وفي هذا الصدد يسطر المؤلف جملة من التوجيهات التي يمكن اعتبارها “قانون النجاح”، من بينها:

– تناول الطعام معا بشكل منتظم !

– مشاركة الآراء.

– ضاعف فرص السعادة !

– كن حيثما يحتاج إليك الآخرون !

– أظهر مشاعرك !

– جامل أسرتك !

إلى غيرها من النصائح التي يؤمن ريتشارد دين بأنها كفيلة بتقوية الأسرة، وهو ما سيتحول برأيه إلى منصة إطلاق للنجاح المرتقب.

ولأن عالم الشركات لا يخلو من احتدام وتنافس يصل حد الضرب تحت الحزام، فإن تحقيق النجاح السريع  وزيادة الأرباح يبدو خاضعا لمعايير غير أخلاقية، وفلسفة أعمال متحررة مما يحفل به عالم المُثل من قيم ومبادئ. غير أن تشارلز جي كوك في دليله (علم النجاح) يعرض لتجربة رائدة خاضتها شركة صناعات كوك، لتصبح واحدة من أهم الشركات الخاصة حول العالم. فمنذ عام 1961 تمكنت الشركة من مضاعفة قيمتها الدفترية ألفي مرة، باعتماد “الإدارة القائمة على السوق”، وهي فلسفة تعتمد خمسة مبادئ أساسية: الرؤية، والفضيلة، والموهبة، والعمليات المعرفية، ثم حقوق اتخاذ القرارات والحوافز.

يؤمن المؤلف بأن أي مؤسسة ناجحة لا يمكنها أن تصمد مع مرور الزمن وتتفوق على غيرها، إلا من خلال اهتمامها بالفضيلة إلى جانب الموهبة. وتقوم ثقافة الفضيلة داخل مؤسسة كوك على تبني قيم أساسية مدمجة في المبادئ التوجيهية للإدارة القائمة على السوق، وفي مدونة قواعد السلوك الخاصة بها. وأهم تلك القواعد تتمثل في الأمانة، واحترام الآخرين وممتلكاتهم، وتحمل المسؤولية، والأخذ بزمام المبادرة، و التصرف بنزاهة وفي إطار القانون.

وبما أن ثقافة الشركة تتحدد بسلوك أعضائها وليس بما يفرضه قادتها من قواعد فحسب، فإن مؤسسة كوك تحرص على أن توجه ثقافة الفضيلة سلوك موظفيها، وأن يشكل القادة نماذج إيجابية يُحتذى بها؛ فتبني الترقيات والرواتب على مدى كفاءة العاملين في تطبيق تلك المبادئ، كما تتخذ الإجراءات التأديبية حين لا يتصرف العامل بمقتضاها، ولو تمتع بالموهبة والكفاءة. فالفضيلة، يقول كوك، دون الموهبة المطلوبة لا تحقق قيمة. بيد أن الموهبة دون فضيلة خطيرةٌ، ويمكنها أن تُعرض الشركة والموظفين الآخرين للخطر؛ فالموظفون الذين لا يتمتعون بالفضيلة بالدرجة الكافية، ألحقوا أضرارا بالشركات أكثر بكثير من أولئك الذين لا يتمتعون بالموهبة الكافية.

إن أضمن طريقة لاحترام القانون هي أن تسن قانونا محترما، يقول الكاتب الفرنسي فردريك باستيا. ومكمن ريادة مؤسسة كوك يتجلى في تحقيق انسجام دائم بين تعظيم ربحية طويلة المدى للشركة مع الحفاظ على قواعد السلوك القويم.

تبدو أغلب الإصدارات المتعلقة بالنجاح والتحفيز الذاتي مفعمة بالرومانسية، وساذجة في بعض الأحيان حين تعد قوائم للمشاهير ورجال الأعمال الذين نجحوا، بغض النظر عن المقصود بالنجاح: هل هو كسب احترام وتقدير المجتمع، أم تحقيق الثراء ولو بمقاييس غير أخلاقية، يستوي فيها لاعب البيسبول مع مدير مصنع للأسلحة! وبالنظر إلى الضغوط النفسية التي يُولدها السعي للإنجاز وتحقيق الطموحات في عالم شديد التعقيد، فإن صناعة النجاح بحاجة إلى بوصلة أخلاقية تضبط حركة الفرد، وتستلهم من ثوابت دينه ومقومات مجتمعه ما يُشكل لبنات حاضره ومستقبله.