من المهم أن نلم بالمفاهيم والأفكار في رؤيتها الكلية وتشابكاتها المعرفية، حتى يمكننا أن نقف عليها بصورة مجملة تساعد على الدخول في التفاصيل لاحقًا. ونتوقف هنا أمام مفهوم “الفكر الإسلامي” في تشابكاته المعرفية المتعددة.

وهذه السطور لا تُعنَى كثيرًا بالتفصيل والاستدلال وبذكر المصادر والمراجع، وإنما تهتم بالإشارة الموجزة إلى رصد المفهوم وتشابكاته؛ بحيث نرسم خريطة تفاعليه له ولمساراته..

ماهو تعريف الفكر الإسلامي ؟

“الفكر الإسلامي” مركَّب إضافي من كلمتي الفكر والإسلام.. و”الفكر” هو إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول. أما “الإسلام” فهو الشريعة الخاتمة التي أرسل الله بها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم. وهو دين الأنبياء جميعًا؛ الذين اتفقت عقائدهم واختلفت شرائعهم.

وعلى ذلك فـ”الفكر الإسلامي” هو: “ما أنتجه وما ينتجه العقلُ المسلم من خلال تعامله مع النصوص الإسلامية وَفْقَ منهج علمي”. فهناك “موضوع للفكر” هو المشكلات المتعلقة بالدِّين والفكر والحياة، وهناك “منهج عقلي” لتناوله، وهناك إلى جانبهما “مرجعية معينة أو أصول مرعيَّة” في ضمير المجتمع وثقافته. (د. أبو اليزيد العجمي، مقال على “الألوكة”).

كيف نشأ الفكر الإسلامي ؟

جاءت نشأة الفكر الإسلامي مع نشأة الإسلام ذاته؛ لأن الإسلام جاء بإعمال العقل، ودعا إلى التدبر والتفكر والتفقه؛ سواء في كون الله المنظور، أو في كتابه المسطور، أو في تاريخ الأمم والشعوب السابقة وموقفها من أنبياء الله ورسالاته.وعلى هذه الدعوة للتفكر والتدبر والتعقل والتفقه، تأسس الفكر الإسلامي وقطع أشواطًا في تأسيس العلوم التي دارت أولاً حول القرآن الكريم حفظًا وفهمًا، ثم تفرَّعت العلوم واستقلَّت، وخرجت الدرايةُ من الرواية، وتشعَّب العلوم إلى علوم مقاصد (مثل العقيدة والفقه والتفسير والحديث)، وعلوم آلات (مثل علم أصول الفقه، وأصول التفسير، ومصطلح الحديث، وعلوم اللغة).

ماهي مصادر الفكر الإسلامي ؟

يستمد الفكر الإسلامي مادته من عدة مصادر، أهمها:
1) القرآن الكريم: فهو أساس الإسلام وعماده، وهو الوحي الخاتم الذي تكفَّل الله تعالى بحفظه. والقرآن الكريم من حيث الثبوت: قطعي الثبوت، ومن حيث الدلالة: منه قطعي الدلالة مما لا يحتمل إلا فهمًا واحدًا، ومنه ظني الدلالة مما يجوز فيه تعدد الأفهام.

وعلى هذا الاعتبار، أوجد الفكر الإسلامي لنفسه مساحة واسعة في تدبر كتاب الله تعالى، وتشعَّب هذا التدبر إلى مدارس واتجاهات متعددة؛ سواء في التفسير أو استنباط الأحكام أو غير ذلك.. مما أثرى الفكر الإسلامي وأغناه.

2) السنة النبوية: فهي المصدر الثاني للإسلام، وهي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته. ومجال إعمال العقل في السنة واسع جدًّا؛ نظرًا لاتساع مساحة ظني الثبوت فيها، بخلاف القرآن الكريم، فضلاً عن ظني الدلالة منها.

وقد مارس المسلمون هذا الإعمال للعقل في حياة النبي صلى الله عليه، في الحادثة المشهورة حينما استنفرهم للذهاب إلى بني قريظة، قائلاً: “لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلَّا في بني قُرَيظة” (رواه البخاري). واختلفوا في تفسير ذلك حينما حانت صلاة العصر، على النحو المعروف، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم كلا الفريقين على موقفه؛ مَنْ صلَّى العصر في وقته حين أدركه، ومن أخّره حتى وصل إلى بني قريظة.

3) الفكر الإنساني عامة: فالفكر الإسلامي لم ينعزل عن الإنتاج البشري في العلم والمعرفة، وانفتح على الآخرين ورحب بما لديهم، ولم ينغلق على ذاته.. لكن من حقه أن يرفض ما في هذا التراث البشري مما يخالف الأصول الإسلامية ويناقضها.. ولهذا ترجم المسلمون علوم الطب والكيمياء والفلك أولاً قبل أن يترجموا الفلسفة والمنطق، كما رفضوا ترجمة الأساطير اليونانية التي تقوم على الوثنية وتعدد الآلهة وصراعاتها فيما بينها..

ماهي مجالات الفكر الإسلامي ؟

يمكن أن نلاحظ أن الفكر الإسلامي تتعدد مجالاته بتعدد مجالات المعرفة الإسلامية.. وحيث لا يوجد نص قطعي الثبوت والدلالة، فللفكر الإسلامي مجالُ عملٍ وحضور.

فله مجال في علم العقيدة: سواء في الاستدلال على أصول الإيمان، أو في فهمها، أو في الدفاع عنها ومواجهة الشبهات.

وله مجال في علم التفسير: وقد عرف المسلمون التفسير بالرأي مع التفسير بالمأثور.

وله مجال في علم الحديث: سواء في استنباط قواعد الرواية والقبول والرد، واختلاف مناهج المحدثين في ذلك.. أو في شرح المتون واستنباط الأحكام منها.

ومجال في علم الفقه: فعرف تاريخُنا تعددَ المدارس والمذاهب الفقهية، تبعًا لاختلاف مدارك الفقهاء في فهم النص وتوجيهه..

ومجال في علم الأصول: فتعددت طرق الاستدلال ومناهج الاستنباط، وطرق التأليف- ما بين طريقة المتكلمين، وطريقة الأحناف، ومَن مزج بينهما- بجانب الاختلاف حول مصادر الأدلة بعد المصادر الأربعة التي اتفق عليها جمهور العلماء؛ وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس.

وهكذا في سائر العلوم، نرى مجالاً رحبًا لإعمال العقل والتفاعل مع النص.. لأن الإسلام ترك عن قصدٍ مساحةً كبيرة مرنة، حتى لا يقع الناس في الحرج والعنت؛ ولو شاء الله لجعل كل نصوص الإسلام قرآنًا وسنة قطعية الثبوت والدلالة بحيث لا يكون إلا رأي واحد.. لكن هذا لا يوافق سنة الله تعالى في اختلاف الأفهام وتعددها، وفي استعياب مستجدات الزمان والمكان والحال.

ماهي خصائص الفكر الإسلامي ؟

وأما أبرز خصائص الفكر الإسلامي؛ فهي أنه:

– فكرٌ إلهيّ المصدر: أي يستمد مصادره من الوحي، قرآنًا وسنة.. وكلما اقترب من الوحي مفهومًا ومضمونًا صحَّت نسبتُه إلى الإسلام وتسميتُه به.

– فكر بَشريُّ الصياغة: أي قام العقل البشري بتقعيده واستنباط أصوله وتفريع مسائله.. ومع ذلك فليس الفكر الإسلامي كله نتاجًا بشريًّا بحيث يمكن الاستغناء عنه، كما يزعم من يريدون تجاوز “التراث الإسلامي”، أو من يهاجمون اجتهادات الفقهاء.. بل داخلُ هذا الفكر مساحةٌ تقوم على الوحي الإلهي، ومساحة أخرى تقوم على فهم العلماء. ولهذا قلت: إنه بقدر اقترابه من الوحي، تصح وتتأكد نسبتُه إلى الإسلام وتسميتُه به.

– فكر مرنُ الطبيعة: أي له قدرة هائلة على استيعاب المستجدات والتعامل مع المتغيرات، وعدم الجمود على هيئة بعينها؛ ذلك لأنه يقوم على نصوص قطعية وأخرى ظنية، وهذه الأخيرة تفتح الباب واسعًا لإعمال العقل في استيعاب المستجدات وتكييفها بما يتفق مع الأصول والثوابت والمقاصد.. ولهذا قال الإمام الجويني: “والرأي المبتوت المقطوع به عندنا أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى، مُتلَقًى من قاعدة الشرع”.

مراحل الفكر الإسلامي

مر الفكر الإسلامي بمراحل كثيرة، تفاوتت قوةً وضعفًا، تألقا وخفوتًا؛ ويمكن أن نرصد ذلك، على نحو من العموم والاتساع، فيما يلي:

مرحلة التشكل: وهي مرحلة تنزل الوحي التي انقطع بارتقاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ويمكن أن نضم إليها مرحلة الخلافة الراشدة، والتي في نهايتها أخذت العلوم تنبت أزهارها وتتفتح، والأفكار الوافدة تبدو على استحياء وتتفاعل مع ما استقر من بلاغ قرآني وبيان نبوي وفَهْم راشدي.. فكانت نهاية عهد علي بن أبي طالب بداية مرحلة جديدة من نشوء الفرق والمذاهب..

مرحلة التدوين: والتي جاءت في القرن الثاني، حيث بدأ تدوين العلوم الإسلامية على نحو مفصل.

مرحلة التألق: أو العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، والتي بلغت أوجها في القرنين الثالث والرابع الهجري. ثم بتدرجٍ إلى القرن الثامن.

مرحلة الضعف: وهي ما تلا زمنَ ابن خلدون، من القرن الثامن حتى القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي.

مرحلة اليقظة أو النهضة الحديثة: مع القرن التاسع عشر الميلادي، لاسيما صوت جمال الدين الأفغاني وما أحدثه من دويّ هائل سُمعت أصداؤه في أرجاء العالم الإسلامي كله.

التحديات

نستطيع أن نوجز التحديات التي تواجه الفكر الإسلامي، في هذه الثلاثية:

تحدي التجديد: أي النظر للتراث الإسلامي وغربلته وتقويمه، وبناء تصور لكيفية الإفادة منه والبناء عليه.

تحدي النهوض: أي بناء مجتمعاتنا المعاصرة على نحو يكفل لها نهوضًا سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، تتحق فيه معايير الحكم الرشيد، والتوزيع العادل للثروات.

تحدي التحديث: أي التعامل مع الحضارة المعاصرة، وكيفية الإفادة منها والتفاعل معها وتجنب مضارها.

والتحديان الأوّلان تحديان داخليان.. فيما يمثل الثالث تحديًا خارجيًّا.. وثلاثتهم يتبادلون التأثر والتأثير، حتى لا يمكن المضي في أحدهم بعيدًا عن الآخرَيْن..

هذه كانت إطلالة عامة على مفهوم “الفكر الإسلامي” في تشابكاته المعرفية.. ومن المؤكد أن فيها قدرًا من العموم، فرضه الحرصُ على تقديم رؤية كليةٍ أكثر من التدقيق في التفاصيل..