الأشخاص الطيبون لا يحتاجون إلى قوانين تخبرهم بالتصرف بمسؤولية، بينما سيجد الأشرار طريقة للالتفاف على القوانين” تنبه الفيلسوف “أفلاطون” لتأثير الثقافة على القانون، فالقانون لا يُقيم العدل بمفرده، ولكن ما يصنع العدل هو الإنسان بضميره الحي وسلوكه القويم، ورغبته في تجنب الظلم والإحجاف.

القانون هو نتاج لثقافة المجتمع، وله تأثيره الممتد داخل المجتمع، وله قدرة على إحداث تغيرات سلوكية، إذا توافرت له شروط معينة، وفي هذا الإطار يأتي كتاب “الأثــر: كيف يؤثر القانون في السلوك” Impact: How Law Affects Behavior تأليف”لورنس فريدمان” Lawrence Freedman الصادر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت  في مارس 2020 ، ويقع في 380 صفحة.

يؤكد الكتاب على تأثير القانون على السلوك الإنساني، فالقانون مرتبط بالمجتمع تشريعا وتطبيقا، فمن خلال عشرات الدراسات والأبحاث، ومئات الحكايات والقوانين، يختبر “فريدمان” تلك الفرضية، فهو يطرح القانون من المنظور الغربي المادي، ودوره في الإصلاح السلوكي،  وفي رأيي أن هذا الكتاب ذا أهمية للمتصدرين للحديث عن الشريعة الإسلامية، فرغم أن الكتاب لا يقترب من الإسلام، إلا أنه يفتح أذهان المتخصص في الشريعة نحو فهم محددات تأثير القانون على السلوك، ودور العقوبة في إعادة هيكلته، والشريعة هي قانون الإسلام، وما أوجبته من أحكام وعقوبات، ذا فلسفة عميقة، تتعدى إلحاق الأذي بالمذنب والمتجاوز، إلى القيام بدور إصلاحي من خلال تغيير سلوك الأفراد، كما أن علانية بعض العقوبات، لها غاية إصلاحية ، فهي تقمع بذور الجريمة، فيمن يفكرون في ارتكابها.

القانون والمجتمع

القانون ذو تأثير كبير في المجتمع، وفي سلوك الأفراد، لذا تلجأ بعض الدول لإصدر قوانين لمواجهة سلوكيات تمثل خطرا على المجتمع وتماسكه، فقد تقيد بالقانون الطلاق مع تزايد الحالات الطلاق بنسبه تؤرق المجتمع وتهدده بالتفكك.

يشير الكتاب أنه حتى يُحدث القانون تأثيره لابد من دراسة كيفية توصيل القانون للمجتمع، وكيفية إدارك المجتمع للقانون، فالثقافة والتقاليد والأعراف تلعب دورا كبيرا في قدرة القانون على إحداث التأثير السلوكي، فلا تكفي صرامة القانون أو عقوبته المغلظة لكي يحُدث التغيير، وهنا تظهر أهمية وسائل الإعلام في بناء صورة ذهنية عن القانون، فبعض القوانين رغم أهميتها وجديتها تتعرض للتشويه الإعلامي، وقد يخلق الإعلام نفورا اجتماعيا يشكل عقبة كئود في قدرة القانون على التغيير، فيضعف تأثيره ومداه.

فالرسالة الإعلامية المشوشة تُطلق غبارا يحجب القانون، وقد تغري وسائلُ الإعلام الناسَ بمخالفة القانون، تشير دراسات غربية أن 10% من جرائم العنف التي يرتكبها المراهقون ناتجة عن تأثيرات إعلامية، كما أن تغطيات الإعلام قد تخلق انطباعا سيئا عن العدالة، فما تنشره وسائل الإعلام عن دعاوى التعويضات، صورت القضاء بأنه يمنح تعويضات على ادعاءات كاذبة، وأكدت دراسة أن الإعلام صنع صورة ذهنية تتمثل في أن 98% من القضايا المرفوعة يحصل المُدعي فيها على تعويض جيد، وهو ما خلق هوسا أمريكيا برفع قضايا تعويض، على أشياء تافهة، رغم أن الدراسات الإحصائية أكدت أن 41% فقط هم من يحصلون على تعويض، وأن المبالغ الممنوحه لا تزيد عن 10% مما يروجه الإعلام.

وهنا يظهر  دور المعرفة بالقانون في قدرته على إحداث التغيير، فكلما شاعت المعرفة بالقانون، وفُهمت غايته، وتفهم الناس فلسفة العقوبة، كلما كان القانون أقدر على إحداث التغيير السلوكي، وهنا تأتي تأثيرات عدة عوامل في المساهمة بالمعرفة القانونية مثل: الطبقة الاجتماعية، ومستوى التعليم والدخل، كذلك فإن الجهل بالقانون لا يُعفي الشخص من العقوبة في غالب الأحيان، ولكن تبقى المشكلة في سوء فهم القانون، وفي تطبيقه بطريقة خاطئة.

ولكن هل تحقق صرامة القانون تأثيرا سلوكيا؟

ناقش الكتاب الفكرة مستعرضا وجهات نظر متباينة، ومستندة إلى دراسات ميدانية، لكن الشيء المهم الذي نبه إليه الكتاب هو أن جهات تطبيق القانون ذات تأثير حاسم في مسألة الأثر للقانون قبل صرامة عقوبته، فالتطبيق هو الذي يضمن التأثير الفعال، فالقاعدة القانونية عقيمة إذا ضاعت رسالتها التي تتواصل بها مع الناس، أو ضيعتها مؤسسات تطبيق القانون، وضرب الكتاب مثالا بالقانون الذي يعاقب على اغتصاب الأنثى، فحسب دراسة أمريكية في الستينيات من القرن الماضي، فقد توصلت أن جهات تطبيق القانون سواء الشُرطية أو القضائية كانت تُبدي نوعا من التفهم لدوافع الشخص القائم بالاغتصاب، خاصة إذا كان لتلك الأنثى تاريخا جنسيا غير جيد، وحسب النظرية التي ابتدعها الكتاب وأسماها “خرطوم المياه المثقوب” فإن القانون كان يتسرب قبل أن تنزل عقوبته على الجاني، ولهذا كان أثر القانون ناقصا أو معطلا تجاه معاقبة المُغتصب.

أسنان القانون

القانون لابد أن يكون له أسنان حتى تكون له فاعلية وتأثير في المجتمع، وحتى لا يصبح رمزيا، ويلاحظ أن القوانين الشاملة التي يفُترض فيها أن تؤثر في أعداد كبيرة من الناس، تكون غالبا عميقة الأثر، مع توسع حالات الاستجابة المجتمعية، فالناس قد يعدلون سلوكهم  للتكيف مع القانون الجديد.

لكن يلاحظ أن القانون ينصرف إلى الجانب المادي في السوك الإنساني، ولا يهتم ببناء الذات الإنسانية والضميرية لتقاوم الجريمة، وضرب الكتاب مثالا بقانون حظر الخمور في الولايات المتحدة أو ما سمي وقتها بـ”التجربة النبيلة”  The Noble Experiment ، حيث صدر قانون بمنع صنع أو بيع أو نقل المشروبات الكحولية المسكرة عام 1920، لكن القانون لم يستطع ا تغيير ثقافة الأمريكيين، التي تتغلل فيها الخمور، في حين أن القانون أدى إلى تغيير في ثقافة الأمريكيين إذ مالت إلى الاحتيال ومخالفة القانون والتهريب، وبدأت تظهر ثقافة العصيان للقانون مع التوسع والصرامة في تطبيقه، فتم الغاءه في فبراير عام 1935، وفي السبعينيات من القرن الماضي أشارت تقارير رسمية أن عدد من يدخنون الحشيش أو (الماريجوانا) من الأمريكيين يزيد على (70) مليون أمريكي، لذلك فقوانين منع الحشيش تولد ميتة[1]، وفي تايلاند عندما صدر قانون عام 1996 بالغاء البغاء، كان القانون ضعيف التأثير، فاقتصاديات البغاء واسعة، وتُدر الكثير من الأموال، فاستمرت التجارة، وأوجدت حولها شبكات واسعة من الفساد، لذا كان القانون يُطبق بطريقة انتقائية، أما قوانين الطلاق، فكانت تتحرك في الولايات المتحدة-حسب الظروف الاجتماعية- فتقييد الطلاق أوجد آلاف من الزيجات التعيسة والفاشلة.

ولا شك أن الثقافة تؤثر على سلوك الناس، وهى أقوى من القانون الرسمي، ولكن هل القانون قادر على تعديل السلوك؟ يؤكد الكتاب أن أي نظام قانوني تنتشر فيه أساليب التهرب والتحايل والالتفاف، كما أنه قابل للتعديل والتطوير، غير أن الأغرب في قانون السرقة مثلا أنه حتى اللصوص يرفضون إلغاءه، ولعل ذلك يعود إلى حاجة الناس إلى الأمن على أنفسهم وممتلكاتهم، وبالتالي وجود ذلك القانون يضبط سلوك الغالبية من الناس، في مقابل الفئة التي لا تلتزم به، ولهذا فإن قوة القانون تنبع من مقدار التقبل السيكولوجي في المجتمع، فكلما زاد حجم ومقدار التقبل الاجتماعي للقانون، كلما كان قادرا على إحداث أثرا في السلوك.

وهنا تأتي مسألة العقوبة، فالعقوبة قد تحقق استجابة لتنفيذ القانون، ولكن هل العقوبة المشددة تخلق استجابة أعلى للقانون؟ سؤال اختلفت حوله الإجابات والدراسات، فالعقوبة تشكل أحد أشكال الردع الاجتماعي، غير أن الدراسات تشير أن بعض العقوبات لا تشكل ردعا لبعض الأشخاص، فمثلا عقوبة السجن للأشخاص الذين لا يمتلكون مأوى أو المشردين قد تكون منحة وليست ردعا، فقد تمنحهم وقتا للاسترخاء ومكانا للمبيت بلا ثمن، وكذلك طعاما بلا جهد؛ بل ربما يحصلون على دخل من خلال الإتاوات التي يفرضونها على المسجونين الأضعف، كما أن السجن في بعض الجرائم، مثل: السرقة قد تمنح الجاني الحصول على خبرات عالية، وبذلك يتجنب الوقوع في قبض الشرطة مرة أخرى، ولعل هذا ما يؤكده تكرار حالات السرقة من اللصوص، رغم تعرضهم للسجن أكثر من مرة[2]، فالعقاب لم يحقق الردع والزجر، ولابد من بناء الضمير، وأن تنبع الاستجابة من داخل الإنسان قبل القانون المفروض عليه.


[1]  قارن بين موقف الصحابة في المدينة المنورة، عندما سمعوا آية تحريم الخمر، أراقوا الخمر في الطرقات، حتى تحولت طرقات المدينة وكأنها في يوم مطير.

[2]  هذا الكلام يذكر بحد الإسلام في قطع يد السارق، وفلسفة العقوبة في الإسلام أن اليد التي امتدت بالسرقة ستمتد مرة أخرى، وستروع المجتمع، ولا رادع لها إلا القطع، مادامت استوفت الشروط الشرعية، وكذلك الذين يروعون الناس ويسرقونهم بالإكراه، فعقوبة الإسلام الرادعة لهم ولبقية من تسول له نفسه ارتكاب تلك الجريمة هي أن تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.