تعود جذور القراءة الحداثية للسنة النبوية إلى القرن التاسع عشر في الهند، ومنها انتقلت إلى الداخل الإسلامي فظهرت في مصر أوائل القرن التالي ثم الشام وغيرها. وقد شغل المسلمون عبر تاريخهم بمحاولة تدبر النص الديني قرآنا وسنة وصوغ القواعد الضابطة للتعامل معه حتى يمكن استنباط الأحكام الشرعية على وجه دقيق، غير أنه منذ بدايات عصر الحداثة شرع نفر من المسلمين في تجاوز التدبر والاستنباط إلى محاولة قراءة النص من خلال المناهج الحديثة، واختار التأويليون البدء بالسنة دون القرآن لاحتوائها على مداخل يمكن النفاذ منها كحديث الآحاد ومسألة الوضع وما إلى ذلك.

وعلى الرغم من تعدد هذه المحاولات إلا أنه يمكن تصنيفها ضمن فئتين:

  • محاولات عمومية، ظلت على هامش النص الحديثي ولم تسبر غوره داخليا ومن أمثلتها محاولات: محمد توفيق صدقي (1906)، إسماعيل أدهم ( 1940)، أحمد زكي أبو شادي (1955).
  • محاولات تفصيلية، وهي التي لم تكتف بترديد المقولات الشائعة حول السنة النبوية، وإنما بحثت المسألة بحثا أكثر عمقا وادعت أنها تقدم قراءة جديدة لم يسبق إليها أحد، وأعني بها محاولة محمود أبو رية (1957).

ولضيق المقام سأتخير مثالا واحدا لكل محاولة وأعرض لأبرز مقولاته وأناقش منهجه ونتائجه.

توفيق صدقي: الإسلام هو القرآن وحده

يعد توفيق صدقي الطبيب المصري من أوائل من طرح قضية السنة القولية حين نشر مقالين بالمجلد التاسع من مجلة المنار عام 1906 أورد فيهما رأيه حول السنة والمتمثل في:

  • أنه لا خلاف في كون القرآن مقطوع به لأنه منقول عن النبي بلفظه وفي عصره خلافا للأحاديث التي لم تكتب إلا بعد مدة تكفي لأن يحصل فيها من التلاعب والفساد ما قد حصل، والمعلوم أن الرسول نهى أن يُبلغ عنه شيء سوى القرآن الكريم الذي تكفل الله بحفظه، ” فلو كان غير القرآن ضروريا في الدين لأمر النبي بتقييده كتابة لتكفل الله تعالى بحفظه، ولما جاز لأحد روايته على حسب ما أداه إليه فهمه[1].
  • التواتر العملي لا يدل على الوجوب ما لم يكن مصحوبا بدليل قولي قاطع.
  • القرآن بيّن وفي منتهى البلاغة فلا يحتاج لتبيينه بكلام آخر، ولذلك لا معنى للقول بأن الرسول مبين له بسنته القولية..
  • الإيضاح العملي أفصح من الإيضاح القولي مهما كانت درجته، فالقرآن لا يمكن توضيحه بقول أفصح منه وإنما يمكن توضيحه بالعمل، وهو ما يدركه من درس العلوم التطبيقية كالطب، ومن طالع تصوير الإفرنج للمعاني بصور وأشكال توضيحية في كتبهم تصور المعنى.
  • الإيضاح العملي قاصر على ما هو موجود في القرآن بالفعل، ولا يشمل على الأعمال التي تزيد على ما فيه[2].

وكذلك ناقش صدقي حجج المخالفين له في الرأي وأظهر هذه الحجج: أن الرسول لم يشأ أن يأمر بتدوين كلامه حتى لا يلتبس بكلام الله تعالى، وأننا مأمورين بإطاعة الرسول اتباعا لقوله تعالى (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم).

وفيما يتعلق بالتدوين يرى صدقي أن حصول الالتباس بين كلام الله وكلام نبيه أمر يستحيل حدوثه لأن كلام الله معجز لا يمكن الاتيان بمثله، وأما إطاعة الرسول فهي ليست محل نزاع ولكن النزاع في مسألة أخرى وهي: “هل يفرض علينا الرسول فرضا لم يفرضه كتاب الله، فإذا كان ذلك صحيحا فهل لأولياء الأمر أن يفرضوا علينا صلوات سبع بدل الصلوات الخمس .. ونحن مأمورين بطاعتهم مثل طاعة الرسول؟؟ وإذا كان الأمر كذلك فما بال جميع أصحاب المذاهب ميزوا بين أمر الله وأمر الرسول أو بين الواجب والسنة وبين المفروض والمندوب؟ أليس ذلك إقرارا منهم بالفرق الهائل بين الكتاب والسنة”[3].

وهنالك بضع نقاط يمكن التوقف عندها فيما طرحه صدقي، وهي:

أولا: أن صاحبها ينتمي إلى فئة الانتلجنسيا الذين تلقوا تعليما حداثيا وطالعوا عن كثب الفكر الغربي وتأثروا به وشرعوا يحكمون على الدين وفقا للمعطيات الغربية التي تشربوها خلال دراستهم وعملهم.

ثانيا: أن صدقي بدا متواضعا في طرحه  باحثا عن الصواب، ولم يدع أنه يقدم طرحا لم يسبق إليه أحد من الأوائل والأواخر، والتزم أدب الحوار وذلك حين استهل مقاله قائلا “أريد أن أفصح فيه عن رأي جديد أبديه لعلماء المسلمين المحققين منهم لا المقلدين، حتى إذا ما كنت مخطئا أرشدوني، وإذا ما كنت مصيبا أيدوني وبشيء من علمهم أمدوني”، ويؤيد رشيد رضا ذلك في تعقيبه القصير على المقال موضحا أن الكاتب راسله قبل أن يكتب بضع مرات ليستبين وجه الحق في المسألة، وأن نشر المقال لم يكن مقصودا به سوى استثارة علماء الأزهر ليوضحوا للكاتب وأمثاله من المتعلمين حقيقة الدين ودفع ما يتعرض له من شبهات في أصوله وفروعه[4]. (9/525).

ثالثا: اقتصر صدقي في مقاربة المسألة على النظر العقلي ومحاكمة السنة على هداه، فلم يلجأ للنظر في المراجع التراثية والبحث عن الثغرات فيها، والطعن في أدوات المحدثين، والتشكيك في الأحكام الشرعية، وبعبارة أخرى لم يلجأ صدقي إلى تفكيك السنة ووضعها تحت مقصلة المناهج اللسانية والتاريخانية كما نلاحظ في المحاولات المعاصرة.

رابعا: كان الغرب حاضرا في طرح صدقي رغم أن ذكره لم يرد صراحة إلا مرة واحدة أشرنا، وحضوره كان ماثلا في كلامه عن أولية العقل وضرورة مطابقة النص له، وفي بعض المسائل التي وردت في السنة النبوية ولم ترد في القرآن كمسألة قتل المرتد، ومسألة رجم الزاني المحصن، وهي مسائل مستقاة من المصادر الاستشراقية ولم يرد لها ذكر في الكتابات الإسلامية قبل ذلك.

محمود أبو رية: التفكيك الممنهج للسنة

لم تفض محاولة صدقي إلى شيء يذكر إلا أن حججه العقلية وبعض الاصطلاحات التي استخدمها مثل “القرآنيون”، ولا ندري إن كان هو واضعها أم لا، وظفت في المحاولات التي تلاحقت منذ منتصف القرن واكتسبت طابعا خاصا، ولعل أشهرها محاولة محمود أبو رية الذي لا تتوافر بشأنه معلومات ذات بال سوى أنه درس العلم الشرعي وتوفي عام 1970.

أخذ أبو رية في الكتابة حول السنة متخذا من مجلة الرسالة منبرا له، وأولى مقالاته التي عثرنا عليها كانت بتاريخ 1942 واستمر يكتب حتى عام 1951، ثم جمعها بعد خمس سنوات في كتاب أسماه (أضواء على السنة النبوية) فصار بهذا صاحب أول قراءة تفكيكية للسنة النبوية.

افتتح أبو رية بحثه بالقول أنه تلقى دينه زمنا من خلال العاطفة والتقليد لكنه وجد أن هنالك أمورا لا تركن إليه نفسه فشرع في دراستها درس العقل والفكر ومنها قضية الأحاديث التي لم يسبقه إليها أحد بالتأليف والتدوين وانتهى بحثه الطويل فيها إلى “أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها -ما سموه صحاحا وما سموه سننا- حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه”[5] فأفضى به ذلك إلى طرح السنة القولية بتمامها استنادا إلى الحجج التالية:

  • أن رسول الله لم يجعل لحديثه كُتابا يكتبونه عندما كان ينطق له كما فعل مع القرآن وهو ما أدى لتفكك نظم ألفاظه وتمزق سياق معانيه، بل لقد نهى صراحة عن كتابته.
  • أن الصحابة عندما رأوا أنهم لا يستطيعون رواية الأحاديث بألفاظها التي سمعوه بها من الرسول بعد زمن من النطق بها “أباحوا لأنفسهم أن يرووا على المعنى.. وهكذا ظلت المعاني تتوالد والألفاظ تختلف باختلاف الرواة .. حتى ضاع معالم المعنى الأصلي”.
  • مني الحديث بكثرة الموضوعات التي اختلطت به والتي تولى كبرها أحباء للإسلام وكارهون له.
  • أفضى تأخر التدوين والوضع إلى تضخم المدونة الحديثية حتى بلغت مئات الألوف من الأحاديث التي يناقض بعضها بعضا.
  • لما كان جل الحديث قد “جاء من طريق الآحاد التي لا تفيد إلا الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا، فإن علماء الأمة لم يتلقوه بمحض التسليم والإذعان كما تلقوا ما جاءهم من محكم القرآن ولا اعتبروه من الأخبار المتواترة التي يجب الأخذ بها، ولا يجوز لأحد أن يختلف في اتباعها”[6].

أثارت تلك الادعاءات العلماء الذين انبروا للزود عن سنة رسول الله، ولذلك لم يبق لنا إلا التعليق على المنهج المتبع الذي صار معلما مميزا للعديد من المحاولات التالية، وأولى معالم هذا المنهج هي التلفيق وعدم الأمانة  وذلك لأن جل الاستشهادات التي استند إليها أبو رية قد تصرف فيها إما بالزيادة أو النقص كأن يحذف كلمة أو عبارة تخل بالمعنى، أو نقل كلام في موضع والاستدلال به في موضع مغاير، وهكذا، والأمثلة في ذلك أكثر من أن تحصى في كتابه، وهي تطعن في دقة النتائج التي توصل إليها من خلال هذه الاستشهادات المزورة، وثانيها العنف اللفظي المتمثل في وصفه جميع المخالفين له في الرأي بالغباء وعدم تحري الصدق بل وصل به الحال إلى تسمية الحديث باسم (الحديث المحمدي) كما يذهب المستشرقين، وتلقيب أبو هريرة ب(شيخ المضيرة)، وثالثها التناقض المنهجي الذي يعبر عن نفسه في رفضه الاحتجاج بالأحاديث والسنة في المجمل إلا أنه لا يتورع عن استخدامها إن كانت مما تخدم أهدافه كحديث (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) الذي استدل به على عدم جواز تدوين الأحاديث، ورابعا محاولة إيجاد نسب فكري لما ذهب إليه حيث زعم ادعى أن بعضها مما نادى به الشيخ محمد عبده، والشيخ رشيد رضا على الرغم من أن رشيد رضا قد وقف موقفا معارضا لما ذهب إليه صدقي من قبل، وأخيرا التعالي المعرفي والقول بأن ما تم التوصل إليه لم يسبق إليه أحد من الأوائل وما إلى ذلك من معالم وجدناها في محاولة أبو رية وفي محاولات من سار على دربه.

مما سبق يتضح أن القراءة الحداثية للسنة النبوية في العالم العربي تعود إلى أوائل القرن الماضي، وأن كثيرا من المحاولات المعاصرة ما هي إلا تكرار لتلك المحاولات الأولى واقتفاء لها مع إضافات قليلة مقتبسة مما توصل إليه الفكر الغربي في مجال الهرمنيوطيقا.


[1] محمد توفيق أفندي صدقي، الإسلام هو القرآن وحده، القاهرة: مجلة المنار، 1906، مج 9 ع 7، ص 515.

[2] نفس المرجع السابق، مج 9 ع 12، ص 924.

[3] نفسه، مج 9 ع 7، ص 517.

[4] نفسه، مج 9 ع 7، ص 525

[5] محمود أبو رية، الحديث المحمدي: لمعة من تاريخه، القاهرة: مجلة الرسالة، ع 633، 20 أغسطس 1945، ص 896.

[6] نفس المرجع السابق، ص 899