المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار من الأسس التي وضعها رسول الله ، عند وصوله إلى المدينة المنورة، بعد الهجرة مباشرة، لبناء المجتمع الإسلامي. وقد كان ذلك لقدوم المهاجرين من مكة إلى المدينة لايملكون شيئاً، تركوا أموالهم، وأولادهم وأرضهم وديارهم، نصرة لله ولرسوله ولدينه، ولم يكونوا أهل زراعة، ومع ذلك أعطاهم الأنصارُ، – الذين هم أهل الأرض والعقار – الأرضَ، ليعملوا فيها بنصف ثمارها، ومنهم من أعطيت له منيحة محضة، واستغنوا عنها لما فتح الله عليهم خيبر (انظر النووى، شرح مسلم ).

 و رد النبي ، – نفسُه – ما أعطوه من نخل عندما فتحت عليه قريظة والنضير .وكان ذلك دليل إيثارهم المهاجرين على أنفسهم، حتى وصل بهم الإيثار إلى أن قالوا للرسول : «إن شئت فخذ منا منازلنا». فقال لهم خيراً، وابتنى لأصحابه في أرض وهبتها لهم الأنصار، وفي أراض ليست ملكاً لأحد (د. مهدي رزق، السيرة النبوية، ، ونسبه للبلاذري في أنساب الأشراف).

 ولم تكتف الأنصار بذلك، بل بذلوا – طيعة – أنفسهم أموالهم للمهاجرين، فقالوا للرسول : «اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل». قال: «لا» فقالوا «تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمر»، قالوا: «سمعنا وأطعنا» ( صحيح البخاري .

ومن التطبيقات العملية، قصة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، حيث آخى رسول الله بينه وبين سعد بن الربيع رضي الله عنه، فقال له سعد: «إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسمُ لك نصفَ مالي، وانظرْ أيَ زوجتيَّ هويتَ، نزلت لك عنها، فإذا حَلَّتْ تزوجْتَها، فقال له عبد الرحمن: «لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ فَدُلَّ على سوق بنى قينقاع … إلى آخر الحديث، حيث تمكن من الزواج، ودَفْعِ المهر، وقال له الرسول – -: «أَوْلِمْ ولو بشاة» (البخاري، فتح الباري).

ولم يكن سعد بن الربيع – رضي الله عنه – منفرداً عن غيره من الأنصار، فيما عرضه على أخيه، كما يُظَنُّ، فقد طلبوا – كما أشرنا آنفاً – من النبي أن يقاسموهم كل شيء، وأن يعطوهم منازلهم، فهو إذاً شأن الصحابة عامة في علاقتهم، وتعاونهم، مع بعضهم البعض، بعد الهجرة خاصةً، وبعد أن آخى النبي – – فيما بينهم (نظر د. البوطى، فقة السيرة).

وعلى الرغم من هذا الإيثار، فقد أراد الرسول أن يوجد تشريعاً يعالج للمهاجرين أوضاعهم الاقتصادية، فكان أن شرع نظام المؤاخاة في السنة الأولى من الهجرة، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار على الحق والمواساة، والتوارث بعد الممات دون ذوى الأرحام (البخاري، فتح الباري ).

وروى أنس بن مالك – رضي الله عنه -، أن رسول الله – – حالف بين قريش والأنصار في داره (البخاري، فتح الباري ). وروى البعض أن المؤاخاة كانت في المسجد.

ومن الجدير بالذكر أن موضوع المؤاخاة قد تم مرتين، مرة في مكة، والأخرى بعد الهجرة إلى المدينة، كما ذكره ابن عبد البر في سيرته (ابن عبد البر، الدرر في اختصار المغازى والسير).

وذكر ابن حجر، أن من أغراض المؤاخاة، أن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض، بالمال والعشيرة والقوى، فآخى بين الأعلى والأدنى، ليرتفق الأدنى بالأعلى، ويستعين الأعلى بالأدنى، ومِثْلُ هذا مؤاخاته ، لعلي بن أبى طالب رضي الله عنه ، لأنه هو الذى يقوم به من عهد الصبا، قبل البعثة، واستمر إلى ما بعدها، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة، لأن زيداً مولاهم، فقد ثبتت أخوتهما وهما من المهاجرين (ابن حجر، الفتح ).

وقد آخى النبي – – بين أصحابه بعد وصوله المدينة، ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويستأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض، فلما عز الإسلام، واجتمع الشمل وزالت الوحشة، واستطاعوا أن يقوموا بحياتهم وعيشهم، أبطل الله التوارث بالمؤاخاة، وأبقى أخوة الإيمان كما قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنفال: ٧٥].

وقوله تعالى: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: ٦]. ومن ثَمَّ أُلْغِىَ ذلك بعد بدر أو بعد الأحزاب أو أحد .

وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن ما ألغاه الإسلام من نظام المؤاخاة هو الإرث فقط، أما النصر والرفادة والنصيحة، وأن يوصى لبعض المتآخين بشئ من الميراث فكل ذلك باق (البخاري (٤٥٨٠)؛ بدليل مؤاخاته – – بين سلمان الفارسى وأبى الدرداء وغيرهما رضي الله عنهم، وسلمان إنما أسلم بعد أحد وقبل الخندق.

وأما حكمة نسخ التوارث – علاوة على ما ذكرنا – أن الروح الإسلامية غدت العصب الطبيعي للمجتمع الإسلامي، في ظل الأخوة الإسلامية العامة، وما يترتب عليها من مسؤليات مختلفة، فلا يخشى على هذا النظام من التقصير أو التمييع أو التفكك، فلا غرو ولا ضرر في أن تعود قرابة الرحم كما كانت؛ وإن أصبح ذلك أثراً بعد عين، فقد ذهبت هذه القضية مع ما ذهب من كثير من أخلاق، ومحاسن، وآداب الإسلام، التي كانت السبب في ثباته وبقائه، وكانت سر حيويته وقوته، وانتشاره وعدالته، وسر علو المسلمين وحضارتهم.

مما سبق، يتضح لنا أن وحدة الأمة، وتساندها، لا يمكن أن يتم، إلا بعامل التآخي والمحبة، فتنهض حينئذ هذه الأمة، وتأخذ في أسباب الرقي والتقدم، لأن أي أمة لايجمعها هذا العامل لايمكن أن تتحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتحاد حقيقة قائمة فلايمكن أن تتألف منها دولة.