الخطاب الوعظي : هو ذلك الخطاب التأثيري، الذي يتحدث عن الأمر والنهي، والترغيب والترهيب، وترقيق القلوب، واستنهاضها نحو استكمال الفضائل والتخلي عن الرذائل.

وفي مقابل الخطاب الوعظي، يوجد : الخطاب العلمي، الذي يتضمن الخطاب الفقهي، والخطاب العقدي، وغير ذلك من أنواع الخطابات التي يتحرر منها الخطاب الوعظي.

أبرز أمثلة الخطابات الوعظية في عصرنا : خطب الجمعة، والدروس المسجدية، والبرامج الفضائية التي تدور في الإطار الوعظي لا العلمي.

وعلى هذا، فالخطاب الوعظي، هو أوسع أنواع الخطابات الدينية انتشارا؛ إذ عدد الملتزمين بصلاة الجمعة أكبر من الملتزمين بغيرها من الصلوات، ويكاد تكون خطب الجمعة هي الرافد الوحيد لحديث الدين لدى قطاعات كبيرة من المسلمين!

وهذا يضفي أهمية كبرى على هذا النوع من الخطابات، التي  ربما تكون السبب في نقلة نوعية لدى مستمعيها، فتحببهم في الدين، أو تكون مجرد خطب يضطر المصلون إلى سماعها قسرًا  يوم الجمعة.

تناولت عدة أوراق بحثية الخطاب الوعظي بالنقد والتحليل؛ بغية إصلاحه وتجديده ليؤدي الهدف المنشود منه، وليس الغرض في هذا المقال الدخول في هذه السجالات البحثية، ولكن الغرض الرئيس من هذا المقال هو تسليط الضوء على المسكوت عنه في الخطاب الوعظي على وضعه الحالي بغض النظر عن إصلاحه وتجديده.

ما المسكوت عنه ؟

لأن مجال الخطاب الوعظي مجال فسيح؛ إذ مجاله الدين كله تقريبًا، في جميع الأوامر الدينية ؛ ترغيبا في الائتمار بها، و جميع النواهي الدينية ترهيبا من الوقوع فيها؛ لاتساع هذا المجال، يمر الخطاب الوعظي بالشأن الديني كله تقريبا، فهو يتحدث عن أركان الإسلام الكبرى، إلى أركان الإيمان، ومرورا بجميع الواجبات الدينية التي هي دون الأركان في الوجوب، كما يمر على نواقض الإيمان ومحبطاته، إلى أسباب الكفر والردة، مرورًا  بجميع المناهي الدينية  التي  تتنوع إلى كبائر وصغائر ومكروهات؛ حتى تصل إلى خوارم المروءة وما يعرف ب ( خلاف الأولى).

إن المتأمل في الخطاب الوعظي يجده في أثناء حديث عن الشأن الديني، ( أمرا كان أو نهيا) يجده مهتما بالترغيب والترهيب فقط، مستخدمًا في ذلك نصوص القرآن والسنة، وآثار السلف، وربما عرج على الآثار الإيجابية للالتزام بالأمر الذي يدعو إليه، أو الآثار السيئة للوقوع في النهي الذي يتحدث عنه، لكن أين الحديث عن ( كيف) ؟

الحديث عن ( كيف) ؟

المسكوت عنه في الخطاب الديني، هو ( كيف) ؟ يتحدث الواعظ طويلا عن رذيلة مثل ( الكِبْر) ويذكر في الترهيب عنها ما  يحمل النفس على التخلص منها، من مثل قوله تعالى : {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم : ” «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» .[ رواه مسلم].

ويستزيد الواعظ في مثل هذه النصوص، وآثار السلف، ثم يترك جمهوره هكذا، دون أن يعلمهم كيف يمكنهم أن يتخلصوا من هذه الرذيلة في خطوات وإجراءات عملية يمكن قياسها!

ربما يتعلل الواعظ هنا بأن الإجابة عن ( كيف ؟) وظيفة علماء النفس،  وعلماء التنمية البشرية، وهذا يقتضي أن يعرض الناس أنفسهم جميعا على هؤلاء المتخصصين حتى يتمكنوا من  الائتمار والانتهاء !

قلة المادة

وإذا كان الواعظ لا يدري الإجابة، ولا يعرف ما هي هذه الإجراءات العملية التي تساعد جمهوره على التنفيذ، فليست هذه مشكلة، فإنه أيضا كان لا يدري شيئا عن نصوص الترغيب والترهيب التي يعرضها على جمهوره،  لكنه تعلمها وحفظها وفهمها، فكذلك مطلوب منه هنا أن  يتعلم هذه الإجراءات، وسوف يجدها كما وجد ضالته الأولى، ربما لا تكون هذه المادة بنفس سهولة المادة الأولى وبنفس وفرتها، لكن هذا واجبه.

وهذا هو ما قام به علماؤنا الأوائل حينما قدموا هذا النوع من الخطاب ( الخطاب الوعظي)؛ لإدراكهم أن مجرد الترغيب والترهيب لا يؤدي بالضرورة إلى الائتمار والانتهاء، بل هو غالبا لا يؤدي إلى ذلك.

أبو حامد الغزالي نموذجا

من الرواد في هذا المجال، الإمام أبو حامد الغزالي، فإنه حينما تكلم عن المنجيات، مثل ( الصدق والتوبة والذكر) ، وعن المهلكات، مثل ( الكذب، والغيبة والكِبْر) كان  يذكر محورا بعنوان :  بيان الطريق في معالجة كذا واكتسابه.

فقال في رذيلة ( الكِبْر) : بيان الطريق في معالجة الكبر واكتساب التواضع له:

الكبر من المهلكات، ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه، وإزالته فرض عين، ولا يزول بمجرد التمني، بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له.

وفي معالجته مقامان:

أحدهما: استئصال أصله من سنخه، وقلع شجرته من مغرسها في القلب.

الثاني: دفع العارض منه بالأسباب الخاصة التي بها يتكبر الإنسان على غيره.

ثم بدأ يتحدث عن المقام الأول، فقال :

المقام الأول، علاجه علمي وعملي، ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما.

أما العلمي فهو أن يعرف نفسه ويعرف ربه تعالى، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر، فإنه إذا عرف نفسه ، علم أنه أذل من كل ذليل، وأقل من كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة والمهانة.

وإذا عرف ربه، علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله.

ويكفيه أن يعرف قوله تعالى : {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ } [عبس: 17 – 22] فقد أشارت الآيات إلى أول خلق الإنسان، وإلى آخر أمره، وإلى وسطه.

أما أول الإنسان فهو أنه لم يكن شيئا مذكورا، وقد كان في حيز العدم دهورا، بل لم يكن لعدمه أول، وأي شيء أخس وأقل من المحو والعدم!

ثم خلقه الله من أرذل الأشياء، ثم من أقذرها؛ إذ قد خلقه من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم جعله عظما، ثم كسا العظم لحما.

فقد كان هذا بداية وجوده، حيث لم يكن شيئا مذكورا، فما صار شيئا مذكورا إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت؛ إذ لم يُخلق في ابتدائه كاملا، بل خلقه جمادا ميتا، لا يسمع ولا يبصر ولا يحس ولا يتحرك ولا ينطق ولا يبطش ولا يدرك ولا يعلم، فبدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوته، وبجهله قبل علمه، وبعماه قبل بصره، وبصممه قبل سمعه وببكمه قبل نطقه، وبضلالته قبل هداه، وبفقره قبل غناه،  وبعجزه قبل قدرته.

فمن كان هذا بدؤه، وهذه أحواله، فمن أين له البطر، وهو أخس الأخساء، وأضعف الضعفاء، ولكن هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسته شمخ بأنفه؛ وذلك لدلالة خسة أوله .

وقد سلط الله عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة، والأسقام العظيمة والطباع المتضادة من المرة والبلغم والريح والدم، يهدم البعض من أجزائه البعض شاء أم أبى، رضي أم سخط، فيجوع كرها، ويعطش كرها، ويمرض كرها، ويموت كرها، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا خيرا ولا شرا، يريد أن يعلم الشيء فيجهله، ويريد أن يذكر الشيء فينساه، ويريد أن ينسى الشيء ويغفل عنه فلا يغفل عنه، ويريد أن يصرف قلبه إلى ما يهمه فيجول في أودية الوساوس والأفكار بالاضطرار، فلا يملك قلبُه قلبَه ولا نفسُه نفسَه.

فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه! وأنى يليق الكبر به لولا جهله فهذا أوسط أحواله فليتأمله.

وأما آخره فهو الموت ، ومعناه أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته فيعود جمادا كما كان أول مرة، لا يبقى إلا شكل أعضائه وصورته، لا حس فيه ولا حركة، ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة كما كان في الأول نطفة مذرة، ثم تبلى أعضاؤه وتتفتت أجزاؤه وتنخر عظامه ويصير رميما رفاتا، ويأكل الدودُ أجزاءه، فيبتدئ بحدقتيه فيقلعهما، وبخديه فيقطعهما، وبسائر أجزائه فيصير روثا في أجواف الديدان، ويكون جيفة يهرب منه الحيوان، ويستقذره كل إنسان، ويهرب منه لشدة الإنتان، وأحسن أحواله أن يعود إلى ما كان فيصير ترابا يعمل منه الكيزان ويعمل منه البنيان فيصير مفقودا بعدما أن موجودا!

الجانب العملي

ثم ذكر الجانب العملي، فقال : من عرف نفسه فلينظر كل ما يدعوه إلى الكبر من الأفعال فليواظب على نقيضه حتى يصير التواضع له خلقا؛ فإن القلوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعا .

ثم بدأ يذكر موجبات الكبر موجبا موجبا، فكان مما قال :  فمن كان يعتريه الكبر من جهة التكبر بالجمال، فدواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء، ولا ينظر إلى باطنه نظر البهائم.

فإنه إذا نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال، فإنه قد أحاطت به الأقذار في جميع أجزائه: الرجيع في أمعائه، والبول في مثانته، والمخاط في أنفه، والبزاق في فمه، والوسخ في أذنيه، والدم في عروقه، والصديد تحت بشرته، والصنان تحت إبطه، يغسل الغائط بيده كل يوم دفعة أو دفعتين، ويتردد كل يوم إلى الخلاء مرة أو مرتين؛ليخرج من باطنه ما لو رآه بعينه لاستقذره، فضلا عن أن يمسه أو يشمه، هذا في حال توسطه.

وفي أول أمره خلق من الأقذار الشنيعة الصور: من النطفة ودم الحيض، وأخرج من مجرى الأقذار ذ خرج من الصلب ثم من الذكر مجرى البول ثم من الرحم مفيض دم الحيض ثم خرج من مجرى القذر.

ولو ترك نفسه في حياته يوما لم يتعهدها بالتنظيف والغسل، لثارت منه الأنتان والأقذار، وصار أنتن وأقذر من الدواب المهملة التي لا تتعهد نفسها قط.

فإذا نظر أنه خلق من أقذار، وأسكن في أقذار، وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار، لم يفتخر بجماله الذي هو كخضراء الدمن وكلون الأزهار في البوادي، فبينما هو كذلك إذ صار هشيما تذروه الرياح.