المصطلح هو اللفظ الذي يتفق عليه العلماء للدلالة على شيء محدد، ولتمييز معاني الأشياء بعضها عن بعض، وهو صلب عملية المعرفة وجزء هام من أجزاء المنهج ف”العلم لغة أحكم وضعها” كما قيل قديما، وعملية وضع المصطلح قديمة قدم العلم ذاته، وأول من اعتني بها في الإسلام الفقهاء وخصوصا في مرحلة تشكل المذاهب الفقهية وبفضلها أصبح لكل مذهب مفاهيمه واصطلاحاته، وعلماء الحديث الذين صاغوا قواعد علم المصطلح وطبقوها بصرامة على الحديث والأثار النبوية بغرض ضبط الفهم، ولئلا يجنح بعضهم إلى أن يستنبط منها ما يخالف قواعد اللغة والشرع.

وعلى وجه الإجمال مرت عملية وضع المصطلح بمرحلتين، ففي البدء ظهرت محاولات أهل كل علم بوضع المصطلحات الخاصة بكل علم فصار للفقه مصطلحاته وللحديث مصطلحاته ولعلوم القرآن واللغة مصطلحاته، وشيئا فشيئا دعت الحاجة إلى التأليف الاصطلاحي الجامع الذي يجمع شتات المصطلحات في الفنون والعلوم المختلفة، وكان أول المصنفات في ذلك (مفاتيح العلوم) للخوارزمي في القرن الرابع الهجري.

ومنذ ذلك الحين لم ينقطع باب التأليف الجامع في علم الاصطلاح، وكثرت مصنفاته وجاءت تحت عناوين متعددة من قبيل: الحدود، التعريفات، الأسامي، الألفاظ، الكليات، مفاتيح العلوم، المصطلحات، وبعضها حقق ذيوعا وانتشارا ككتاب الكليات للكفوي، والتعريفات للجرجاني ومفتاح العلوم للسكاكي وكشاف اصطلاحات العلوم والفنون للتهانوي وزبدة التعريفات لمحمد جلبي، وفيما يلي نعرف ببعض هذه المؤلفات ومؤلفيها ومناهجها وهي مرتبة زمنيا بحيث يتضح معها التطورات التي لحقت بها.

مفاتيح العلوم للخوارزمي

هو أول المصنفات الموسوعية في علم الاصطلاح، وضعه أبو عبد الله محمد ابن أحمد ابن يوسف البلخي الخوارزمي (ت:387ه) ولد بخراسان في القرن الرابع الهجري، وليس في المصادر التاريخية ترجمة وافية له، خلافا لأبي موسى الخوارزمي الرياضي الشهير، وكل ما نعرفه أنه عاش واشتغل بمدينة مرو، وأهدى كتابه الذي لم يُصنف سواه إلى الوزير أبو الحسن عبيد الله بن أبي العتبي حيث كان يشغل منصبا إداريا في بلاطه، ويضيف المستشرق فان فلوتن الذي نشر الكتاب للمرة الأولى عام 1895م وقدم له باللاتينية أنه كان على علم تام باللغة الفارسية مستدلا بأنه كان يرجع الكلمات الفارسية إلى أصلها، ومن المحتمل أنه كان يعرف أيضا اليونانية والسريانية.

رتب الخوارزمي كتابه على نسق منطقي، حيث قسمه إلى مقالتين وخصص (المقالة الأولى) للعلوم الشرعية وما يرتبط بها من علوم العربية، وجعل (المقالة الثانية) للعلوم العجمية المنقولة من الأمم الأخرى كالكيمياء والمنطق والفلسفة والهندسة، وبلغ مجموع أبواب الكتاب خمسة عشر بابا مقسمة إلى ثلاثة وتسعين فصلا، وهو يعلل دواعي تصنيفه بقوله “دعتني  نفسي إلى تصنيف كتاب يكون جامعا لمفاتيح العلوم وأوائل الصناعات متضمنا ما بين كل طبقة من العلماء من المواضعات والاصطلاحات التي خلت منها أو من جلها الكتب الحاضرة لعلم اللغة، حتى أن اللغوي المبرز في الأدب إذا تأمل كتابا من الكتب التي صنفت في أبواب العلم والحكمة.. لم يفهم منه شيئا وكان كالأمي الأغتم عند نظره فيه”.

وأما منهجه فقد أورده في مقدمة الكتاب، وهو يتلخص في:

– تحري الإيجاز والاختصار وتوقي التطويل والإكثار.

– الاعتناء بالاصطلاحات المتداولة والانصراف عن الشائع المشهور والغريب الغامض.

– عدم الانشغال بالاشتقاق والتفريع.

– إغفال ذكر الحجج والشواهد إذ غالب هذه الاصطلاحات من كلام العجم تم تعريبها.

وبهذا المنهج وضع الخوارزمي جملة من القواعد الأولية صارت أساسا لعلم الاصطلاح وللتصنيف الموسوعي، وقد تأثر بها كل من خلفه في هذا المجال.

التعريفات للجرجاني

يُعد كتاب (التعريفات) من الكتب المشتهرة التي ألفت في التعريف بمصطلحات الفنون، وهو سهل التناول دقيق التعبير ومتداول بين أهل العلم منذ قرون، ولد أبو الحسن علي بن محمد بن علي الجرجاني المعروف بالسيد الشريف في مدينة جرجان قرب استراباد الإيرانية عام (740ه) وتلقى العلم على يد والده وعلماء بلده ونبغ في اللغة والنحو، ثم سافر إلى مصر واستكمل تكوينه العلمي على يد علمائها، وكان بارعا في التأليف باللغتين العربية والفارسية وفاقت مصنفاته الخمسين في العلوم المختلفة ومن أهمها: شرح المواقف في علم الكلام، شرح السراجية في الفرائض، وتحقيق الكليات والتعريفات في علم الاصطلاح.

اعتنى الجرجاني في كتابه بتعريف مصطلحات علم الفقه والأصول والصرف والبلاغة والفلسفة وعلم الكلام والتصوف وغيرها من العلوم التي اعتنى بها المسلمون ودونوها ودرسوها وبلغت ألف وثمانمائة وتسعة عشر مصطلحا، ورتبها على حروف المعجم- خلافا للخوارزمي الذي رتب المصطلحات حسب العلوم- وبدأه بمصطلح (الابتداء)، وأنهاه بمصطلح (اليونسية).

نقل الجرجاني جل تعريفاته من كتب متفرقة، وزاد عليها، ورتبها ليسهل على طلاب العلم الوصول إلى معاني تلك المصطلحات، فهو يقول: “وبعد فهذه تعريفات جمعتها، واصطلاحات أخذتها من كتب القوم، ورتبتها على حروف الهجاء، من الألف والباء إلى الياء، تسهيلاً تناولها للطالبين، وتيسيراً تعاطيها للراغبين”.

ومن معالم منهجه أنه أوجز في تعريفاته للمصطلحات، وفصل في الألفاظ التي تحتاج إلى مزيد تفصيل، وافتتح بذكر المعنى اللغوي ثم المعنى الاصطلاحي، واستشهد في كثير من المواضع بالقرآن والأحاديث النبوية، وإن كان بعضها ضعيفا أو موضوعا، إلا أن هذا لا يدحض قيمة الكتاب الكبيرة وليس أدل عليها من اعتناء المستشرقين وصدور طبعات متعددة له في عدد من البلدان الأوروبية منذ منتصف القرن التاسع عشر.

كشاف اصطلاحات العلوم والفنون للتهانوي

وهو معلمة من معالم قواميس المصطلح وأكثرها نضجا واكتمالا حيث استوعب جهود من سبقوه في هذا المجال، وينسب الكشاف لمحمد بن علي بن القاضي محمد حامد التهانوي المولود بقرية (تهانه بهون) الهندية في القرن الثاني عشر الهجري لأسرة علمية فوالده كان عالما بالعلوم ومصطلحاتها، قرأ في طفولته اللغة والنحو والفقه على أبيه ثم درس على يد علماء وطنه، وخلف عددا من الآثار المعرفية: منها أحكام الأراضي الهندية، وسبق الغايات في نسق الغايات.

فرغ التهانوي من تسويد الكشاف عام (1158ه) الذي جمع فيه مصطلحات العلوم والفنون العقلية والنقلية والطبيعة والرياضية وغيرها، وقام بترتيبه على فنين: فن في الألفاظ العربية وفن في الألفاظ الأعجمية، والفن الواحد مشتمل علي أبواب وفصول، وصدره بمقدمة في بيان العلوم المدونة وما يتعلق بها. ومن الناحية المنهجية عمد التهانوي إلي استقصاء المعاني وإيراد مختلف الدلالات مبتدءا بالدلالة اللغوية فالدلالة النقلية ثم العلمية، وتعامل بذات المنهجية مع المصطلحات الفارسية التي ذككرها في الكتاب، واعتمد على الكتب المعتبرة في التعريف وكان ينص عليها، ومال إلى الترتيب الألفبائي حسب حروف المعجم الذي استقر كمنهجية معتمدة بدلا من التصنيف الموضوعي.

وبصفة عامة توافرت عوامل عدة جعلت كشاف التهانوي يتبوأ مرتبة متقدمة ضمن كتب الاصطلاح، ومنها: وفرة المصطلحات الواردة به، وغزارة التعريف بكل مصطلح وإيراد الدلالات المتعددة له بحسب أنواع العلوم، والدقة البالغة في ترتيب المصطلحات وتبويبها بحيث يسهل الوصول إليها دون عناء، والضبط اللغوي للمصطلحات المتشابهة، والتوسط في بسط التعريفات دون الاختصار والتطويل.

ما نخلص إليه أن عملية التصنيف الاصطلاحي الجامع قد تواترت منذ القرن الرابع الهجري حتى يومنا الحاضر الذي نهضت فيه المجامع اللغوية بهذه المهمة، ويتضح من خلال الكتب السابقة أن عملية التصنيف عرفت تطورا منهجيا تمثل في ترجيح الترتيب الأبجدي وفقا لحروف المعجم على الترتيب الموضوعي، وفي الميل نحو الاستقصاء والتفريع، وإيراد كافة الدلالات للمصطلح اللغوية والنقلية والفنية وما إلى ذلك من تطورات استهدفت تحديد المعاني وتمييزها عن بعضها بدقة وضبط عملية الفهم والاستنباط.