إن أهم وأوثق المصادر التي استمدت منها مادة سيرة النبي هو كتاب الله تعالى يليه في الترتيب كتب السنة النبوية المشرفة التي منها كتب الأحاديث الصحيحة، وكتب الدلائل والشمائل وكتب السيرة المختصة والتواريخ العامة، وهذه المصادر تعد مصادر أصلية في وصف حياة النبي وأيامه والسير والغزوات، وتوضيح ما فيها من الدروس والعظات، ولا شك أن استيعاب هذه المصادر عند دراسة السيرة النبوية يعطي أكمل صورة ممكنة وهي صورة واضحة فيها كثير من التفاصيل[1].

القرآن الكريم

ويقف القرآن الكريم في مقدمة مصادر السيرة النبوية، ترد فيه آيات الأحكام ذات الأهمية الكبيرة في بيان النظم الإسلامية ونشأتها فهي تلقي ضوءاً على التشريعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عمل بمقتضاها النبي في إدارة الدولة الإسلامية الأولى.

وفي القرآن الكريم ذكر لبعض الأحداث التاريخية في عصر السيرة مثل بدر، أحد، الخندق، حنين، حيث يصور الظروف والأجواء العامة التي وقعت فيها الغزوات والأحداث الأخرى الهامة، وخاصة الأبعاد النفسية مما لا نستطيع الحصول عليه – بالدقة والصدق التي ترد في القرآن الكريم – من المصادر الأخرى.

وكذلك نجد فيه تصويراً دقيقاً للصراع الفكري والمادي بين المسلمين واليهود في الحجاز، وبإشارة القرآن الكريم إلى الأمم الماضية وسَّع النظرة التاريخية عند المسلمين فشملت دراساتهم التاريخية الأنبياء السابقين والأمم الماضية، وبتطرقه إلى أحداث خارج شبه الجزيرة العربية كالصراع بين الروم والفرس جعلهم يهتمون بالتاريخ العالمي فيسجلون أخبار الروم والفرس والترك والأحباش وغيرها.

ولكن ينبغي أن لا نتوقع تفاصيل عن الأحداث التاريخية في القرآن الكريم لأنه ليس كتاباً في التاريخ بل هو دستور للحياة.

السنة النبوية

لما كانت السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، وهي التي جمعت أقوال الرسول ، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية والخلقية، ونظرا للارتباط القوي بين السنة النبوية والسيرة النبوية، فإننا نجد عدداً كبيراً من كتب الأحاديث النبوية اهتمت بسيرة الرسول ، “والذين ألفوا في السنة لم تخل كتبهم غالباً من ذكر ما يتعلق بحياة الرسول ومغازيه، وخصائصه، ومناقبه … “

بعض مصنفات الحديث تخصص قسماً للمغازي والسير مثل صحيح البخاري. ولا شك أن مادة السيرة في كتب الحديث موثقة يجب الاعتماد عليها وتقديمها على روايات كتب المغازي والتواريخ العامة، وخاصة إذا أوردتها كتب الحديث الصحيحه لأنها ثمرة جهود جبارة قدمها المحدثون عند تمحيص الحديث ونقده سنداً ومتناً، وهذا التدقيق والنقد الذي حظي به الحديث لم تحظ به الكتب التاريخية، ولكن ينبغي التفطن إلى أن كتب الحديث – بحكم عدم تخصصها – لا تورد تفاصيل المغازي وأحداث السيرة.

كتب دلائل النبوة والشمائل

نقصد بكتب دلائل النبوة المصنفات الخاصة التي تتناول المعجزات والدلائل التي تبين صدق النبي .

ورغم أن كتب الحديث اشتملت على أبواب في علامات النبوة وآياتها ودلائلها (2) وخصائص الرسول ، لكن أقدم من أفردها محمد بن يوسف الفريابي (ت 212 هـ) وهو محدث ثقة ثبت في كتابه (دلائل النبوة)، ثم تبعه علماء محدثون أفردوا دلائل النبوة بمصنفات خاصة، منهم ابن منده وابن أبي حاتم وغيرهما.

واشتهر كتاب دلائل النبوة للبيهقي (ت 458 هـ) وهو كتاب مطبوع، ويضم أحاديث صحيحة وحسنة وأخرى ضعيفة وموضوعة، وقد امتدح الحافظ الذهبي هذا الكتاب[2].

ويدخل في هذا الصنف كذلك كتب خصائص النبي التي تتناول السيرة والدلائل والشمائل. وكتب الخصائص كثيرة من أبرزها: كتاب (خصائص أفضل المخلوقين) لابن الملقن، وكتاب (الخصائص الكبرى) لجلال الدين السيوطي.

أما كتب الشمائل فتتناول أخلاق وآداب وصفات النبي ، وأقدم من أفردها: أبو البختري وهب بن وهب الأسدي في مؤلفه “صفة النبي”، واشتهر كتاب الإمام الترمذي في كتاب (الشمائل النبوية والخصائص المصطفوية)، ثم كتاب أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن حيان الأصبهاني بعنوان (أخلاق النبي وآدابه) – وكلاهما مطبوع -. ثم جاء كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض وهو كتاب جامع لذلك نال خدمة مناسبة بمكانته بين العلماء.  

كتب السيرة النبوية المختصة

فإن الكتب المختصة في مادة السيرة النبوية تلي من حيث الدقة القرآن الكريم والحديث الشريف، ومما يعطيها قيمة علمية كبيرة أن أوائلها كتبت في وقت مبكر جداً، وعلى وجه التحديد في جيل التابعين حيث كان الصحابة موجودين فلم ينكروا على كتاب السيرة مما يدل على إقرارهم لما كتبوه، والصحابة على علم دقيق وواسع بالسيرة لأنهم عاشوا أحداثها وشاركوا فيها، وكانت محبتهم للرسول وتعلقهم به ورغبتهم في اتباعه وأخذهم بسنته في الأحكام سبباً في ذيوع أخبار السيرة ومذكراتهم فيها وحفظهم لها، فهي التطبيق العملي لتعاليم الإسلام. وقد اشتهر عدد من الصحابة باهتمامهم الكبير بموضوع السيرة منهم عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص والبراء بن عازب[3].

والتبكير في كتابة السيرة قلل إلى حد كبير من احتمال تعرضها للتحريف أو للمبالغة والتهويل أو للضياع.

ولقد كتبت عدة دراسات حديثة عن رواد كتابة السيرة من التابعين ومن تلاهم (2)، ولكنها لم تهتم ببيان حالهم من الجرح والتعديل ولم تقوم مؤلفاتهم من زاوية حديثية ووفق قواعد مصطلح الحديث وهم:

– أبان بن عثمان بن عفان (ت101 – 105 هـ) وهو محدث ثقة عن التابعين

– عروة بن الزبير بن العوام (ت 94 هـ) وهو محدث ثقة من التابعين، وبعد أحد الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة.

– عامر بن شراحيل الشعبي (ت 103 هـ). وهو محدث ثقة له كتاب المغازي.

– عصام بن عمر بن قتادة (ت 119 هـ) وهو محدث ثقة.

– محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت124 هـ) وهو من كبار المحدثين في عصره. وغيرهم خلق كثيرون.

كتاب موسى بن عقبة

موسى بن عقبة (ت 140 هـ) وهو محدث ثقة من تلاميذ الزهري، وقد أثنى الإمام مالك على كتابه في المغازي وقال: إنه أصح المغازي. وقال يحي ابن معين: “كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب” .

وقال الإمام الشافعي: “ليس في المغازي أصح من كتاب موسى بن عقبة مع صغره وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره.

وقال الذهبي: “وأما مغازي موسى بن عقبة فهي في مجلد ليس بالكبير، سمعناها وغالبها صحيح ومرسل جيد، لكنها مختصرة تحتاج إلى زيادة بيان وتتمة.

كتاب السيرة النبوية لابن إسحاق

ومؤلفه هو محمد بن إسحق (ت151 هـ) من تلاميذ الزهري، إمام في المغازي لكن مروياته لا ترقي إلى درجة الصحيح بل الحسن بشرط أن يصرح بالتحديث لأنه مدلس، سيرته على الحسن والضعيف معاً.

وقد قال ابن عدى “وقد فتشت أحاديث فلم أجد في أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو يهم، كما يخطئ غيره، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة وهو لا بأس به”

قال الدكتور أكرم ضياء:

«وهذه الشهادة عظيمة الأهمية لا لمكانة ابن عدي ولتشدده في التوثيق فقط، بل لأنها مبنية على سبر الروايات وليس على نقل أقوال النقاد القدامى فقط والتي تدور حول اتهام ابن إسحق بالقدر وبالتشيع والتدليس وبالتصحيف»[4].

قال الذهبي: “كان أحد أوعية العلم حبراً في معرفة المغازي والسير، وليس بذلك المتقن، فانحط حديثه عن رتبة الصحة، وهو صدوق في نفسه مرضي”.

وقد روى السيرة عن ابن إسحاق جمع كبير منهم يزاد بن عبد الله البكائي – ومن طريقه رواها ابن هشام – وبكر بن سليمان – ومن طريقه يروي خليفة بن خياط في التاريخ – وسلمة بن الفضل الأبرش – وفيه يقول الطبري: “ليس من لدن بغداد إلى أن يبلغ خراسان اثبت في ابن إسحق من سلمة بن الفضل”.

وأما محمد بن عمر الواقدي (ت207 هـ) من رواة السيرة لابن إسحاق، فضعيف عند المحدثين مع غزارة مادته العلمية، ويقدم أحياناً إضافات على سيرة ابن إسحق، ويبدي رأيه في الروايات ويرجح بينها. وكان يمتلك مكتبة كبيرة تضم ستمائة قمطر كتب، واحتاج نقلها من الكرخ إلى الرصافة إلى عشرين ومائة وقر. ولم يقتصر على ما في الكتب بل تتبع مواضع الأحداث التاريخية بنفسه ووصفها، ولا تصلح مروياته للاحتجاج بها فيما يتعلق بالعقيدة والشريعة، ولكنها تنفع في وصف تفاصيل الأحداث مما لا يتصل بالعقيدة والشريعة، خاصة إذا لم يخالف الأخبار الصحيحة.

واختلف المحدثون النقاد في قبول مروياته ورفضها:

 حكم ابن حجر عليه بأنه متروك، تبعا لابن معين وابن حبان وغيرهما، ولكن استدرك قائلا: “إذا لم يخالف الأخبار الصحيحة ولا غيره من أهل المغازي فهو مقبول عند أصحابنا”.

واختار الذهبي أنه: جمع فأوعى، وخلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، فاطّرحوه لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي وأيام الصحابة وأخبارهم.

وأما ابن كثير فقد اعتمده فقال: “الواقدي عنده زيادات حسنة وتاريخ محرر غالباً، فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوق في نفسه مكثار”.

والذي يظهر في حالته أن زياداته في المغازي والسير مما لم يخالف الروايات الصحيحة فمقبولة.

جميع المصنفات المذكورة من العلماء الرواد الأوائل كانت جيدة ومروية بالأسانيد ومعروضة على قواعد التحديث، وهذا من خفظ الله تعالى لسيرة النبي وسننه من الضياع، وصانها من أن ينتحلها يد العابثين وأقلام القصاصين والمؤرخين.

غير أن هذه المصادر الأولية غالبها مفقود اليوم، لكن المصادر التالية التي وصلت إلينا اعتمدت على مصنفاتهم فنقلت عنها كثيراً بالأسانيد، وقد ظلت مادة المصنفات الأولى هي الأساس في المصنفات المتأخرة، ليس في المادة فقط بل في طريقة العرض أيضاً، ومن أبرز المصادر التي وصلت إلينا في السيرة ومن نماذج ذلك.

سيرة ابن هشام  

تهذيب لسيرة ابن إسحاق، حيث حذف ابن هشام منها كثيراً من الإسرائيليات والأشعار المنتحلة وأضاف إليها معلومات في اللغة والأنساب، مما جعلها – بعد التهذيب – تنال رضا جمهور العلماء فليس من مؤلف بعده إلا كان عيالاً عليه. والحق أن الصورة التي تعطيها مغازيه عن حياة الرسول تقترب إلى حد كبير مما أوردته كتب الحديث الصحيحة مما يعطي سيرته توثيقاً كبيراً. وقد شرح سيرة ابن هشام الحافظ السهيلي (ت 581 هـ) في كتابه “الروض الأنف” وهو مطبوع.

– منها (الطبقات الكبرى) لمحمد بن سعد (ت 230 هـ) حيث خصص المجلدين الأولين من كتابه للسيرة، وابن سعد ثقة يتحرى في كثير من رواياته كما يقول الخطيب البغدادي والعسقلاني.

– (تاريخ خليفة بن خياط) المتوفى 240 هـ، وهو محدث ثقة من شيوخ الإمام البخاري في “الصحيح”، وكتابه تاريخ عام تناول في بدايته أحداث السيرة باقتضاب معتمداً على ابن إسحق بالدرجة الأولى.

– (تاريخ الرسل والملوك) لمحمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) حيث خصص قسماً من تاريخه للسيرة والطبري ثقة واعتمد على ابن إسحق بالدرجة الأولى.

– الدرر في اختصار المغازي والسير) لابن عبد البر القرطبي (ت 463 هـ) وهو من أعلام المحدثين في عصره، وقد اعتمد على سيرة ابن إسحق وسيرة موسى بن عقبة وتاريخ ابن أبي خيثمة إضافة إلى كتب الحديث.

– ومما يذكر في هذا الباب: الكامل في التاريخ لابن الأثير، والبداية والنهاية لابن كثير، زاد المعاد لابن القيم وغيرهم.


[1]  مستفاد من كتاب “السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية” للدكتور أكرم ضياء العمري.

[2]  “السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية (1/51).

[3]  المرجع السابق.

[4]  المرجع السابق (1/ 57)