النص القرآني أعظم نَصّ في الوجود إلى قيام الساعة، وهو نَصّ يختلف عن النصوص الأخرى، فالنصوص الأخرى بشرية، ويعتريها الخلل، بخلاف النص القرآني؛ فهو نَصّ منزل من لدن حكيم خبير، ويتعالى على النصوص الأخرى – من حيث البناء والدلالة، ورغم ذلك فهو مفهوم ومعلوم للبشر، وإلا كانت مخاطبتهم بما لا يعقلون غير واردة، والله (عزوجل) أعظم من ذلك وأجل . [1]

قال تعالى : ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾ [2]، أي تتقلى هذه النصوص المباركة من لدن الحكيم في أفعاله كافة، العليم بكل شؤون الكون، والمحيط بها ماضيًا ومستقبلا، ومن هنا تكون إعجازية النص القرآني في استمراريته، وعدم تقيده بفترة معينة أو عصر دون عصر أو أمة دون أمة، كما يزعمون أمثال تلك الافتراءات .

قال تعالى : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } [3]

قال الإمام النسفي: (أي تناقضًا من حيث التوحيد والتشريك والتحليل والتحريم، أو تفاوتًا من حيث البلاغة؛ فكان بعضه بالغًا حد الإعجاز وبعضه قاصرًا عنه يمكن معارضته، أو من حيث المعاني فكان بعضه إخبارًا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارًا مخالفًا للمخبر عنه، وبعضه دالًّا على معنىً صحيحٍ عند علماء المعاني، وبعضه دالًّا على معنى فاسد غير ملتئم[4]

هذه  الكلمات التي ذكرها الإمام النسفي، معالمُ فارقة في النص القرآني لا يمكن أن تناله بحال من الأحوال، بخلاف النص البشري الذي يعتريه كافة وسائل الخلل، والاستدراك.

يقول الإمام الرازي :” أي لكان بعضه واردًا على نقيض الآخر، ولتفاوت نسَق الكلام في الفصاحة والركاكة”[5]

هذه النقائص التي نبَّه عليه النص القرآني هي أساسٌ في أي خطاب بشري، ولذلك تفاضلت العرب في البلاغة والفصحاحة، وحكموا على هذا الكلام بالبلاغة، وذاك بالردائة.

قال  البيضاوي:” { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله } أي ولو كان من كلام البشر -كما تزعم الكفار- { لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا } من تناقض المعنى وتفاوت النَّظم، وكان بعضه فصيحًا وبعضه ركيكًا، وبعضه يصعب معارضته وبعضه يسهل، ومطابقة بعض أخباره المستقبلة للواقع دون بعض، وموافقة العقل لبعض أحكامه دون بعض، على ما دل عليه الاستقراء لنقصان القوة البشرية.

ولعل ذكره ها هنا للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس لتناقض في الحكم بل لاختلاف الأحوال في الحكم والمصالح”[6]

قال الشوكاني :” تفاوتًا وتناقضًا، ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات، والسور؛ لأنَّ المراد اختلاف التناقض والتفاوت، وعدم المطابقة للواقع، وهذا شأن كلام البشر ولا سِيَّما إذا طال، وتعرّض قائله للإخبار بالغيب، فإنه لا يوجد منه صحيحًا مطابقًا للواقع إلا القليل النادر[7]

قال ابن  عاشور: ” أي أن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة -في أنه من عند الحق رب العالمين- من كلام يناقض بعضه بعضاً، أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة، أو يأمر بارتكاب الشر والفساد، أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبَّر فيه المتدبرُ وجده يقينًا بأنه من عند الله، والآية هنا تحتمل المعنيين، فلنجعلهما مقصودين منها على الأصل الذي أصَّلناه في المقدمة التاسعة[8]

هذا التأسيس والمهاد المعرفي يقدم لنا رؤية مفادها أنَّ النص القرآني بخِلاف أي نَصّ أخر، وأنه  لايمكن اعتباره  في مكانة ومنزلة واحدة مع أي نَصّ آخر، وهذه حقيقة يجب التسليم بها، والإذعان أمامها .

ومن ذلك فإن هناك نصوصًا حاكمة، ونصوصًا محكومة؛ فالنصوص الحاكمة والتي يتحاكم إليها عند الخلاف في أي مسألة، هي نصوص القرآن باعتبارها أعلى نَصّ في الكون، والنصوص التي يمكن الاختلاف معها أو نقدها هي نصوص البشر بعضهم البعض، وهذه قاعدة لا بد من إدراكها .

هذا النص القرآني له وظيفة محددة، وهي تغيير الواقع، وليس أن يغيره الواقع، والسؤال في تلك النقطة لماذا النص القرآني هو النص  الوحيد الذي لديه الفاعلية على إحداث ذلك ؟

الإجابة، لأنَّ النص القرآنيَّ يحمل في داخله كافة الإجابات التي يمكن أن يخرجها أو يفرزها الواقع، وهذا ليس كما يتصور البعض أن يقدم حلولا مباشرة  وإجابات تفصيلية كمن يقول : أريد بناء بيت، فيجيبه القرآن أفعل كذا وكذا، فهذا كلام لا يمكن أن يتصوره عاقل، فهذه مناطة اللوح المحفوظ – التفصيل- كما قال تعالى ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾.[9]،  وإنما معنى أن يحمل القرآن إجابات عن كل مخرجات الواقع، ؛ فهو لأنه يستطيع أن يعطيك الطريق الصحيح في جميع القضايا المتعلقة بالكون والإنسان؛ فهو يقدم لك نموذجًا فريدًا في التعامل مع القضايا، وهذا منذ نزوله إلى قيام الساعة، يقدم  نظريات كبرى – إن جاز التعبير – ويترك التفاصيل للبشر بنَص حديث النبي ” أنتم أعلم بشؤون دنياكم [10]

فإذا كان هذا النص بتلك الفاعلية والتأثير في الواقع فإننا في هذه المقالة نحاول رصد قضية في غاية الأهمية، وهي علاقة النص القرآني بالواقع، هل هذا النص ثابت أم متغير؟ وهل هذا الواقع ثابت أم متغير ؟

وإذا كان النص القرآني ثابتا [11]، فإن الواقع متغير، وبناءً عليه فإن هذا النص يناسب أي واقع ويناسب الأزمان والأمكنة كافة، وهذه حقيقة ومسلَّمة عقَدية، وعملية .

كذلك فإن الموقف من  الاتجاهات التفسيرية كالاتجاه اللُّغوي، والتفسير العِلمي أو التجريبي، أو التفسير الكامل الذي يستفيد من المناهج التفسيرية كافة، وغيرها من الاتجاهات.

إذا تقرر لدينا ذلك كما تقرر في مناهج المفسرين القدماء عندما قدَّموا قراءة للقرآن وَفق مناهج متعددة، كمنهج التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي، أو التفسير الفقهي أو الكلامي والعقلي الصريح أو غير ذلك من المناهج قديمًا وحديثًا، ونحن إزاء ذلك نتلقى المقبول منه وَفق الثوابت الشرعية، ونتوقف عند المخالف ببيان الخطأ فيه .

والحقيقة إننا نقرر  أن المقبول من التفسير والمردود هو الذي يمكننا السير عليه، حتى لا ندخل في فوضى التقسيمات والتفريعات، فالتفسير المقبول هو الذي ينهض وَفق القواعد والضوابط التي وضعها العلماء في تأويل النصوص، بخلاف غير المقبول الذي يخالف ذلك، إذا تقرر لَدينا ذلك فإننا نستطيع تقييم أيَّ قراءة للنص القرآني قديمًا وحديثًا، ومن ذلك القراءت المعاصِرة، والحداثية التي تتخذ مناهجًا لا تلتزم بالضوابط التي أشرنا إليها ولا تراعي الخصوصية التي تفرَّد بها النص القرآني، وتتعامل معه على أنه وثيقة تاريخية أو غير ذلك .

  هذا التأسيس يدفعنا بقوة إلى القول التالي :

إننا أمام نَصّ ثابت ومرِن في آنٍ واحد، هذا النص ثابت من حيث المفردات والتراكيب منذ نزوله على النبي ()، إلَّا أنه مرن في ذات الوقت، أي يعطينا دلالات متجددة في كل وقت وحين، وقد نبَّهَنا النبي ( ) لذلك عندما دعا لابن عباس (رضي الله عنه) فقال :” اللهم فقِّهه في الدين وعلمه التأويل”[12] ، أي أنه يعطينا مساحة من الاجتهاد في تقديم قراءة لنصوص القرآن الكريم تناسب العصر الذي نعيشه؛ لكنها تعتمد وتنطلق من القراءات القديمة للمفسرين القدماء وتراث الأمة .

وعندما تكون نظرتنا للنص  القرآني بهذا التصور، فإن مجرد جمع أقوال السابقين في تفسير أو تأويل آية – إذا اعتبرنا التأويل يقوم مقام  التفسير – لا تُعَدُّ سوى  مجرد تجميع المتفرق أو ضم المتناثر إلى بعضه بعضًا . أما التفسير فهو بخلاف ذلك، وتقديم تفسير نقدي يعتمد على عرض الروايات وتفنيدها واتخاذ موقف منها يُعد نوعًا من القراءة المغايرة التي  تسعى إلى  الكشف عن الجديد في النصوص ولا سيما النص القرآني المبارك .

لقد قدَّم العلماء القدماء من المفسرين قراءاتٍ متعددةً وإبداعية في تفسير النص القرآني، وهذه القراءات كانت ملائمة  لعصورهم أو استخدمت لغة عصورهم، والآن من الصعب الاكتفاء  بما قدموه دون تقدم قراءات جديدة للنص القرآني الذي أمرنا بتدبره واستخراج مكوناته التي يحتاجها الواقع الذي نعيشه، وهذا لا يعني هدم المنجز المعرفي للأمة في مجال التفسير ؛ بل يُقصد به  البَدء من تراث الأمة والانطلاق منه، ومن ثَمَّ الإبداع من خلاله.

كما  قدم المعاصرون بعض التفاسير التي يمكن أن نطلق عليها طفرة إبداعية أو قراءة جديدة كما فعل الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير .

وجاءت قراءة أخرى معاصرة للنص القرآني؛ لكنها للأسف تخلت عن الضوابط التي اعتمدها علماء التفسير والتأويل، فجاءت قراءات وتأويلات مبتورة مقطوعة النسَب، لا يمكن تقبلها بحال من الأحوال؛ لأنها في نهاية الأمر محاولة لاستقدام مناهج بشرية وتطبيقها على نصوص الوحي الكريم، كما فعل قديما  نصر حامد أبو زيد، ومحمد شحرور، وغيرهم، الذين قدِموا على التعامل مع النص القرآني دون امتلاك الآليات الصحيحة لذلك، كذلك حسن حنفي، وعبدالله العروي، وأصحاب المشروع الحداثي، والقراءات الغربية .

هذه هي القضية الأولي التي تناولنا فيها طبيعة النص القرآني، والعلامات الفارقة بينه، وبين النصوص الأخرى، وكيف تعامل معه علماؤنا القدماء، وقدَّموا قراءة إبداعية تنهض من خلالها كتبهم التي دونها في تفسير الكتاب العزيز .

أما الواقع المتغير

فإن طبيعة الكون أنه دائم التغيير والتجديد؛ والبشرية في حالة دائمة إلى الأمام، وهذا من حيث الحَراك الزمني، فقد تكون في حالة حَراك زمني متقدم، ولكنها في النهاية متخلفة لكونها  بعيدة عن قيم الوحي الكريم .

قضية الواقع من القضايا التي اهتم بها النص القرآني وراعي السياقات المختلفة التي تحيط بها، فلم نجد أي نَصّ قرآني بمعزل عن اي قضية  من القضايا التي يخاطب بها البشر على  امتداد القرآن الكريم ,

ومن ذلك يمكننا القول بأن الواقع يمكن تقسيمه إلى :

واقع من صنع الله (عزوجل) مباشرة في الكون .

وواقع من صنع البشر، وفي كلتا الحالتين فهُما ضمن إرادة الله (عزوجل).

 فالواقع المباشر في الكون كالأفعال التي أوجدها الله في الكون من الخير والشر، وأمر البشر باجتنابها في حالة، أو الامتثال لها في حالة الخير، ومن أجل ذلك أرسل الرسل. وعلى هذا كان الخِطاب في القرآن الكريم  بالأمر والنهي .

أما الواقع الذي صنعه البشر، فهذا واقع تدخل فيه الإنسان إيجابًا وسلبًا، فالإيجاب بإحداث فعل صحيح في الكون، وهذا ممدوح ومرغب فيه، بخلاف الفعل البشري السلبي الذي أمر القرآن بالتصدي له.

وفي كلتا الحالتين فإنَّ القرآن قدَّم نصوصًا واضحة وصريحة في التعامل مع هذا الواقع بحالتَيه، وهذا يوضح أنَّ النص القرآن قادر على الفاعلية مع أيّ واقع موجود وأي عصر من العصور. ولذلك فإن” السر في تلك الحيوية المستوعبة للتغيرات والتطورات الزمانية والحضارية، يكمُن في تعدد وتنوع أبعاد الدين أو الشريعة التي يصلح كل بعد من أبعاده وكل زاوية من زواياه لجيل ولزمان معين؛ حيث يفهم كل جماعة وبمستوى الثقافة والبيئة الاجتماعية والعالم من حولهم جانبًا من جوانبها المتعددة والمتنوعة “[13].

وختامًا فإن النص القرآني يمتلك من الفاعلية  الكبيرة القدرة على رسم ملامح الواقع وتغيير إشكالياته كافة، وهو بذلك لا ينظر إليه كأي نص، بل هو نَصّ إعجازي يقدم حلولا وأطروحات جديدة لمن لديه القدرة على تقديم قراءة مغايرة وَفق آليات علمية منضبطة .

كما أن الواقع المتغير والمستمر في الحركية يمكن  ضبطه وتطويره وحل كافة الإشكاليات المتعلقة به إذا كانت من صنع الله مباشرة أو إذا كانت من صنع البشر، وهي في نهاية الأمر  ضمن إرادة الله (عزوجل).


([1])  إنّ النصّ فيما نقصد هو ذاك المكتوب بين دفتي المصحف الشريف، والذي نذهب نحن معاشر المسلمين، وبالإجماع، إلى أنه كلام الله المُنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه يستهدف هداية الناس ونقلهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الأرباب والسلطان والهوى إلى عبادة الإله الواحد.، راجع في ذلك، شفيق جرادي: دور القرآن في بناء نهضة الأمّة ووحدتها،معهد المعارف الحكمية، 4/10/2012م.

([2])  النمل / 6

([3])  النساء/82

([4])  النسفي : مدارك التنزيل وحقائق التأويل” تفسير النسفي”، حققه وخرج أحاديثه: يوسف علي بديوي، راجعه وقدم له: محيي الدين ديب مستو، دار الكلم الطيب، بيروت، 1419 هـ – 1998 م  (1/ 378)

([5])  الرازي:  تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط3 1420 هـ (7/ 138)

([6])  البيضاوي :  أنوار التنزيل وأسرار التأويل، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار إحياء التراث العربي – بيروت،1418 هـ (2/ 86)

([7])  الشوكاني: فتح القدير، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب – دمشق، بيروت- 1414 هـ، ج1/ 567.

([8])   ابن عاشور : التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر – تونس، 1984 هـ،ج1/ 223.

([9]) الأنعام/38

([10])  صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب  وجوب امتثال ما قاله شرعا، دون ما ذكره من معايش الدنيا، على سبيل الرأي، ج4/ 1836.

([11])   ثمة توضيح حول الأحكام من حيث الثبات والتغيير، فتوجد أحكام ثابتة، وأحكام متحركة مرنة، ومن ذلك يمكن القول إن “في العناصر الثابتة ما يقوم بدور مؤشرات عامة تعتمد كأسس لتحديد العناصر المرنة والمتحركة التي تتطلبها طبيعة المرحلة” راجع في ذلك، مدخل إلى فلسفة الفقه ص 55. ويذهب الدكتور وهبة الزحيلي إلى  أن هناك ” نَصّ صريح قطعي الدلالة على مضمونه ـ ثابت لا يتغير ولا يتبدل ونص غير صريح يحتمل التأويل ويحتمل التدقيق ثم يقول : وهذا لا نقول يمكن أن يتغير ولكن يمكن أن نفهمه فهمًا جديدًا بناء على معطيات الزمان وبناء على المستجدات وهذا من مرونة التشريع الإسلامي… “راجع في ذلك، الاجتهاد والحياة حوار على الورق ص 59.

([12])  رواه البخاري ( 143 )، ومسلم ( 2477)

([13])  علي شريعتي : الإنسان والإسلام، ص 6