تشتبك الأفكار وتتصارع في عالمنا المعاصر، وتحاول القوي المتنمرة فرض سطوتها الفكرية، وتمكين غزوها الثقافي من غريمها والآخر الكوني بصفة عامة. وفي ظل هذا التدافع الكبير يقدم لنا الباحث أ. السنوسي محمد السنوسي ، كتابه الموسوعي الفكري الموسوم: “النموذج المعرفي الإسلامي”، وأصاب في عنوان الكتاب الفرعي: “إبحار في المفهوم والتجليات”، فمفردة الإبحار تشير إلى أن الكاتب يقود سفينة كتابه في بحار الفكر الصاخبة والمتشابكة ليخلص إلى مقصوده نحو تحرير المفهوم الفكري الصحيح، ثم إيضاح مظاهر المفهوم وتطبيقاته “التجليات”، فورد الشاهد النصي في الكتاب: “إذ الفكر هو مقدمة العمل، والثقافة هى أساس العمران، وهي التي تصنع تفرد حضارة ما وتميزها وخصوصيتها عن بقية الحضارات” ص 25، وللأمر أهميته حيث التصحيح الفكري بداية ثم إيضاح واقعية النموذج وتطبيقاته الحياتية.

سفينة ماهرة في بحر صاخب

وفي ظل كثافة الأفكار في عالمنا المعاصر واحترابها، خط الباحث موسوعته بحيث تغترف من: “دائرة المفاهيم الكلية والمعاني الأصلية، التي توضح الركائز والمعالم” ص 5، فيقدم المفاهيم الكلية والأفكار الرئيسية، لذلك يرى أهمية مفهوم “النموذج” في حد ذاته حيث: “أنه يجعلنا ننفذ إلى عمق الحقائق والأشياء بحيث لا تستغرقنا التفاصيل بفروعها المتشابكة” ص 11، كما لاحظت شروع الباحث الفوري بإيضاح قصدية الكتاب: “النموذج المعرفي بمضامينه وتجلياته، هو ما يمكننا من الولوج إلى دائرة المفاهيم الكلية والمعاني الأصلية هذه، لأنه يعنى برسم الصورة الذهنية العامة” ص 5.

شجرية كتاب النموذج ومنهجية عرض قضاياه

ورغم قصدية الكتاب، وكونه ينشد في الأساس البحث عن النسق الفكري الجامع: “القيم المشتركة بين الأنساق الفكرية” بتعبير الكتاب، فقد جاء الكتاب موسوعيًا من جانب آخر، بجهد مشكور نحو تقديم بانوراما للنموذج المقصود، وشمول موضوعات فكرية كثر، وظهر هذا الشأن في تعدد العناوين الفرعية، بحيث يعد الكتاب مرجعا بفكرته المركزية، وعموده الفقري، حول تأسيس النموذج بمفاهيمه وتجلياته، مما شكل وجبة فكرية مشبعة، يمكن أن تكون مقصدا للقراء حول أبواب من الفكر الإسلامي الممتع.

وللتدليل علي موسوعية الكتاب، نشير للفهرس الذي يحتل مكانته في علم القراءة ، من حيث طرق أبواب الكتب، وتليين جاهزية المطالعة، فنجده يشتمل خمسًا من الفصول، حيث البدء بالتأسيس لمفهوم الوعاء الحاكم والعمود الفكري للكتاب “النموذج” وإيضاح تعرفاته ومعالمه، والقوائم التي يستند إليها ويستمد منها تأثيره وبهائه وقوته، ويكفي أن نقرأ عناوين داخل هذا المهاد نيرة (التراث / الثقافة الإسلامية / الوعي / الحضارة والقدرة علي التجدد / القراءة وتكافل الخبرات / أسئلة القيم / الجمال المؤسس لشرعية تجليات النموذج)، ثم يثني الباحث بفصله حول المفاهيم الإسلامية ويتناول فيه دور السنة المطهرة في الإرشاد، والتعليم المحب لهويته، والفرحة في العبادة، والهجرة، وحسن الخاتمة، والعمل التعاوني، وإشراقة من العبادات الإسلامية وأدوارها الحياتية … إلى آخره.

ثم يبحر الباحث نحو الذات والآخر معَا، فمعرفة الذات وإدراك أسس التعامل الصحيح مع الآخر ركن أصيل في الهوية الخاصة للأمة، وأساس مكين في الظفر الدنيوي والأخروي، فجاء الفصل الثالث موسومًا “في النقد الذاتي” بعرض مشكلات وعثرات منتجة في رحاب التضليل حول قضايا محورية، يثار حولها الغبار الفكري، ويسعي الباحث لإيضاح الوجه الناصع لهذه القضايا والرأي السديد بشأنها، تبعًا لشواهد نصية فكرية كثر، فتعرض لقضية الفتوي، وقضية الوطن الانتماء لفكرة لا إلى جغرافيا، وعناق هذا الأساس مع روابط أخرى لا تعارضها، ونقدم شاهد نصي بالكتاب حول “ثلاثة معاني ترسم معالم الأوطان” نموذجًا من عشرات الأفكار التي احتوى عليها السفر الجيد، لإزالة التمويه والتضليل لطمس الوجه الفكري الإسلامي النير، أو طبقًا لقصدية الكتاب تثوير النموذج المعرفي، أي إثارته وجعله في بؤرة التركيز والتنوير، يقول: “والحقيقة أن الإسلام يجعل ارتباط المسلم دائرًا بالأساس مع المنهج، ومع القيم، وليس مع المادة أو التراب، أو غير ذلك من المفاهيم التي يعرفها الفكر البشري المبتوت الصلة مع الوحي الإلهي (..) ومع أن القيمة المركزية في التصور الإسلامي هي المنهج، فلا يعني ذلك إهمال أو إغفال ما دون ذلك من روابط، بل يوظف تلك الروابط بما يعلي من راية المنهج” من ص 164 إلى ص 165 “بتصرف”، بالتالي لا نجد تعارضًا بين العروبة والإسلام، أو الوطني ومفهوم “الأمة”، فهي دوائر تحتوي بعضها بعضا.

وعلى هذا النسق تسير منهجية الباحث في إيضاح جوانب من نقد الذات وكشف ما يعتريها من مفهومات تحتاج إلى المراجعة والتصحيح، فنجد حديثا حول الخمول آفة حضارية، وهوى النفس ودوره المشين في تحلل المجتمعات وانزواء ثقافتها، وعن اللغة العربية، والتنمية البشرية ومساراتها، والمحاذير حولها، وسؤال التاريخ، وداهية “الإلحاد” وعصر الإنترنت والمناعة والتفاعلية، والتطرف … إلى آخره.

ثم يشير الباحث لعلاقة الأفراد بمجتمعهم، وبعضهم البعض، من خلال فصل الكتاب الرابع “في الفكر السياسي”، من خلال جملة من القضايا المشتجرة من عنوان الفصل الرئيس بالحديث التليد حول صورة المقارنة الصحيحة بين الشوري والديمقراطية، وكذا الدولة والحضارة، ثم الرؤية الإسلامية للفصل بين السلطات. ثم يأتي الفصل الأخير لإيضاح الصلة بالآخر من خلال عنوان “في العلاقة مع الغرب”.

وقد عمدت للإشارة شديدة الإيجاز حول قضايا الكتاب، للتدليل حول الكدح الثقافي الكبير المبذول في سبيل تقديم ما وضحه الباحث بصفة عامة “النموذج المعرفي”، ثم تحديدًا “النموذج المعرفي الإسلامي”، أما المفهوم العام للنموذج باعتباره: “الإطار الجامع الذي ينتظم المبادئ والأفكار الرئيسية التي تدور حولها النظرية، والذي يمكن من خلاله تقديم تصور أو تفسير لعشرات الأسئلة الأخرى المرتبطة به” ص 9، أو طبقًا للنقل عن د. المسيري: “النموذج بنية تصورية، يجردها عقل الإنسان من كم هائل من العلاقات والتفاصيل والوقائع” ص 10، أما التحديد للنموذج المعرفي الإسلامي فيقدمه الباحث باعتباره: “الرؤية المعرفية الكلية التي يقدمها الإسلام، للألوهية، والطبيعة والكون، والوجود الإنساني” ص11.

وقصد الباحث للتدريج في العرض بطريقة تحليلية معرفية شجرية، من خلال فهم أن: كل خطاب يتأسس على نموذج معرفي، سواء كان هذا النموذج ظاهرًا أو كامنًا ص11 “بتصرف”.

 وأرى منهجية الكتاب في أربع خطوات إجرائية تشربت بها فصول الكتاب في عرض قضاياه وبصورة تدريجية، من خلال بداية تحرير المفاهيم، وعرض المقابلات الفكرية بين قبائل هذه المفاهيم بهدف التصحيح، ثم تحرير خارطة طريق وسطي بينها في الفكر استنادًا إلى أبواب من الفكر الإسلامي النمير، ثم الإجراء الأخير بجلاء الأصالة وبيان رأي الباحث، والإجراء الأخير مؤشر بعبارات سائدة في السفر الجيد، مثال: “ويمكن أن أعقب بالقول”، ثم يقول مثلا: “إن الخلاف بين هذين الرأيين ليس ذا بال”.

وبالطبع لو قصدنا لإيضاح الجانب الإجرائي الرباعي (تحرير المفهوم / المقابلات الفكرية / رسم الطريق الوسط / الرأي) في قضايا الكتاب لتمدد هذا التحليل إلى عشرات الصفحات .

الأفكار ليست كتلا مصمتة

ويسرد الباحث عبارة مشرقة، تعبر عن مرونة الفكر الوسطي وتمايزه، وقدرته على العطاء والأخذ دون أن ُتسحق ذاتيته، أو ُتغتال هويته الأصيلة، يقول: “أن الطريقة المثلى للتعامل مع المفاهيم والنظريات هي ألا نتعامل معها باعتبارها كثلا مصمتة، غير قابلة للتحليل إلى مواد أولية، بل نتناول مفرداتها واحدة تلو الأخرى، لبيان ما يتفق منها وما يخالف قيمنا ومبادئنا، بحيث نستفيد مما عند الآخرين من خير” ص 248. وهو ما أيده السلوك البحثي في استهلال الكتاب بالعنوان الفرعي “مدخل إلى العمق”، لذلك نجد الإجراء الثاني بصف قبائل المفاهيم وعقد المقابلات بينها ص249.

ولم يكن السلوك البحثي قاصرًا على العرض وجلاء المقابلات الفكرية، ورسم خارطة طريق استنادًا إلى ثقافة الباحث ونقوله، بل يتضح أيضا الأصالة بإبداء الرأي، وبيان وجهة نظر الباحث، بل وتحرير التوصية الواجبة: “ومن ذلك نخلص إلى أن (الإسلام/ النصوص والمبادئ) ليس فيه ما يدعو أو يعارض الفصل بين السلطات، أما (الإسلام/ التجربة) فقد عرف الوصل بينها في البداية ثم تدرج الأمر إلى نوع من الفصل واستقلال كل سلطة عن الأخرى، والمسألة برمتها اجتهادية، لابأس أن نستفيد فيها مما عند الآخرين، لضبط العلاقة بين السلطات الثلاث، وتحقيق التوازن بينها، ومنع تغول إحداها” ص256.

وعلى هذه الشاكلة الشجرية نجد تمحيص جميع أفكار الكتاب وقضاياه المهمة.

ماسة الفكر الإسلامي وخرائط الفعل

لم يكن الكتاب تنظيرًا فقط، أو عرضًا للجانب الفكري، بل تأسست وصايا للفعل، أو كون الفكر طريقًا للعمل طبقًا للقول القيم، حيث كان: “علم بلا عمل كشجرة بلا ثمر”، لذلك عمد الكتاب كثيرًا لتثمير الرؤي الفكرية وتقديم معالم قيمة للإرشاد، لتثوير تلك الرؤي الفكرية، وجعلها واقعية، وتلميح إلى جوانب تطبيقية لها، وهذا من مقاصد الكتاب الحسنة، حيث نشر الأمل والتحفيز للتغيير: “أن حضارتنا ما زالت قادرة على التجدد والإشعاع، وأن المسلمين بإمكانهم مجددًا أن يستأنفوا سيرة آبائهم ومسيرة حضارتهم، مهما كان واقعهم مزريًا، ومهما نخرت فيهم أمراض التراجع والانحطاط” ص 37، والتالي نماذج حول هذا التوجه:

فحول قضية الوعي: “فالوعي يزيد بالقراءة، والتجربة، واليقظة، والتأمل، ويتقص بأضداد هذه الأمور، أي الجهل وعدم الخبرة، والغفلة، وإهمال العقل” ص 35

وحول تأسيس خارطة القراءة، تحت عنوان “في شروطها ومعالمها”، صفحات من 47 إلى 50، وضمت: (أن تكون القراءة باسم الله / أن تجمع بين التخصص والمعرفة العامة / القراءة في الكليات والمتفق عليه قبل الفروع والمختلف فيه / في الشرعيات قبل العقليات / للمعاصرين قبل الأقدمين / للثقات قبل أصحاب الجدل / التأمل ومناقشة الكاتب / القراءة للعمل لا للجدل)

ونموذجًا آخر تحت عنوان “التنمية البشرية – مسارات”، حيث يقدم تسعة عشر مسارًا تمثل روشتة لجودة الحياة أخذت مدى الصفحات من 194 إلى 199. والسابق جانب من فيض لوقائع تطبيقية أخرى يوصي بها الباحث الدؤوب.

ليست خاتمة

أظن أن القارئ محب الفكر سوف يعود لمطالعة فصول وأفكار النموذج المعرفي، فهو كتاب ضم جوانب مشرقة من ماسة الفكر الإسلامي، وأسّس جانبًا مرجعيًا يمكن عودة المثقف العام له أكثر من مرة لمطالعة تلخيصًا ذكيًا لتلك القضايا المحورية وبيان وجهات الرأي حولها.

وكنت أتمني وضع ثبت المصادر والمراجع في نهاية الكتاب، وعدم الاكتفاء بإدراجها في الهوامش فقط، حتى يستبين القارئ قدر الجهد المبذول، ويقف على منابع تغذية الباحث الثقافية.

كما كنت أود تدشين الروابط بين القضايا الفرعية المشمولة تحت العناوين الرئيسية في بعض فصول الكتاب، فرغم تأسيس تلك الروابط ووضوحها بجلاء في موضوعات بالكتاب رئيسة، نجد موضوعات أخرى تحتاج إلى إيضاح الصلات بينها، ولا شك هناك صلات لكنها كانت تحتاج تجميعًا أو تأكيد الباحث وذكره أنها نموذج للعنوان الرئيس للفصل، وأظن الفصل الثالث خاصة يحتاج لهذا البيان، حيث نجد أنه يحتاج إلى إعادة هيكلة أو ترتيب لتعظم الفائدة منه كما في الفصول الأخرى.