وكذلك جعلناكم أمة وسطا“.. ليس تشريفا فقط بل “.. لتكونوا شهداء على الناس..”!! نعم.. إنها الوسطية التي جعلت من أمتنا نموذجا فردا بين الأمم، لكنها تحولت في النهاية إلى معزوفة يعزفها الجميع، حينما تحولت الأمة إلى تيارات وجماعات كل منها يدعي وصلا بالوسطية.. حتى صرنا لا نبحث عن الوسطي وإنما نبحث عن المتشدد وسط جمع كله يزعم  الوسطية.

لذا فمن المهم فتح ملف الوسطية، نقترب منها، نحاورها، نفتح مغاليقها نحاول أن نفهم سرعة دوران المصطلح بين ألسنة الجميع، ونراقب تباري التيارات الإسلامية في اختطافه وادعائه، حتى صار لهذا المصطلح كل يوم فتح جديد، ما بين مركز أو جريدة أو جامعة كلها تتسربل الوسطية وكلهم وسطيون إخوانا وسلفيين ومؤسسات دينية ومؤسسات غربية، جماعات وأفرادا.

لكن اللافت أن الجميع اتفق حول هدف إشهار الوسطية في مواجهة المتطرفين والمغالين سواء على صعيد الفقه أو السياسة، امتلأ القاموس واتخم كل لحظة بمقولات تتحدث عن الوسطية تداخل فيها المعرفي بالأيديولوجي بالتبشيري.

والآن بعد أن امتلكت الأمة وفرة من الوسطيات في الدلالات والتوظيف تحول الفائض إلى عائق وبات متعذرا الجمع بين الوسطيين، وانشغل الجميع في التمسح به دون تحرير وضبط منهاجي يضع المصطلح داخل نسقه وأطره الناظمة والحاكمة.

فصارت الوسطية بهذا الزخم في رأيي عبئا ثقيلا على الفكرة الإسلامية، وبات التعامل مع المصطلح في سياقاته المختلفة بحاجة إلى فهم طبيعة من يرفعه، فالإخواني الوسطي مختلف كليا عن الأزهري الوسطي، والاثنان مختلفان جذريا عن السلفي الوسطي أيضا، وسلفيوا مصر مختلفون عن سلفيي الحجاز والجميع يرفع الوسطية الإسلامية شعارا!!

بعد أن امتلكت الأمة وفرة من الوسطيات في الدلالات والتوظيف تحول الفائض إلى عائق وبات متعذرا الجمع بين الوسطيين

إنها بحق “محنة” مصطلح متشعب الدلالات على مستوى مدعيه، في حين أنه مرن مرونة الشريعة التي جعلت منه عنوانا أصيلا لكل منتجاتها في دنيا الناس.

ومن المهم هنا ونحن في إطار البحث عن مخرج لهذا المصطلح من محنته أن نثير في وجوه الجميع مجموعة من الأسئلة الكاشفة، فمثلا إذا كان الكل “إخوانا وسلفيين وجهاديين” وسطيا فمن هو المتشدد؟

وهل ثمة سمات معينة للوسطي، ملامح وسمات ومعايير؟

وهل يمكن أصلا أن يصلح هذا المصطلح للقياس على معايير وملامح؟ بمعنى هل هو مصطلح ممارسة أو مصطلح فهم بالأساس تنتج عنه ممارسة؟!

أيضا وفي الإطار ذاته هناك مجموعة من المصطلحات مرتبطة بالعكس او بالطرد مع الوسطية، ينبغي تعريفها هي الاخرى تعريفا دقيقا، فمثلا يقال إن الوسطية هي لا إفراط ولا تفريط ..فما هو الإفراط وما هو التفريط ابتداء؟!!

وهنا ينعطف الحديث لمنحنى آخر هو منحنى الفهم، منحنى الإدراك الكلي الذي هو أصل الاختلاف بين التيارات والجماعات، وفي الأصل بصورة أكثر رشاقة بين المذاهب الفقهية، بل والكلامية!!

فمساحة الثوابت، ومساحة العفو، ومساحات الحل والحرمة، ومساحات الغيبيات، ومساحات العقائد، كلها مساحات الفهم والإدراك الحقيقي الذي افترقت على أساسه المذاهب، وتحددت على أساسه المدارس الكلامية، وبالتالي تشعبت خلافاتها بصورة وصلت لمستوى الاختلاف السياسي المبني في أصله عليها!

وهنا يجدر بنا أن نقف على احد أهم التعريفات المعاصرة للوسطية لندرك محنة المصطلح الحقيقية التي جسدها نقض التعريف من أولئك الذين ادعوه، وهذا التعريف الأهم الذي أعنيه هو تعريف العلامة الشيخ القرضاوي والذي ارتبط المصطلح به بشكل أو بآخر، حيث عرف الوسطية في كتابه “كلمات في الوسطية الإسلامية ومعالمها”  بأنها التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير ويطرد الطرف المقابل، ولا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه ويطغى على مقابله ويحيف عليه..

وقد مثل لهذا التعريف ببعض الأمثلة قائلا: ومثال الأطراف المتقابلة أو المتضادة: الربانية والإنسانية، الروحية والمادية، الأخروية والدنيوية، الوحي والعقل، الماضوية والمستقبلية، الفردية والجماعية، الواقعية والمثالية، الثبات والتغير، وما شابهها، على أن يكون هناك توازن بينها فيُفسَح لكل طرف منه مجاله، ويُعطَى حقه بالقسط أو بالقسطاس المستقيم، بلا وَكْس ولا شطط، ولا غلو ولا تقصير، ولا طغيان ولا إخسار.

وطبقا لهذا التعريف كيف يمكننا فهم الاختلافات بين تناقضات مدعي الوسطية، بمعنى آخر كيف الحال إذا وصفنا جميعًا بالوسطية من أشعرية وسلفية وماتريدية ومعتزلة إلى غير ذلك.. أي معنى للوسطية بين هذه المختلفات التي تصل إلى حد التناقض في بعض الأحيان؟ ومن يملك مشروعية احتكار ذلك النعت وسلبه للآخرين، بحسبان ذلك مناقضا أساسا لطبيعة النهج الوسطي في صورته المثالية!

إن مناقضة المصطلح ذاته من قبل مدعي منهجيته هو قمة المحنة لهذا المصطلح، إن هذا الذي يفتي بأن يترك الرجل زوجته حال الاعتداء عليها، لأن الحفاظ على النفس مقدم على الحفاظ على العرض هو وسطي حسب معاييره، وهو بهذا النهج يضع الوسطية نفسها موضع اتهام، ويجعلها في محنة حقيقية..

إن شيخ الأزهر وهو شيخ المؤسسة العريقة التي يقال إنها أخذت على عاتقها الدفاع عن المنهج الوسطي، يناقض المصطلح ذاته حينما يعلن اعتكافه وقت إراقة الدماء، حينما يصدر فتوى بحرمة الخروج على الحاكم قبيل نجاح يناير، ثم يتعامى عنها ويبرر وضعا قائما في الثالث من يوليو، حينما يتغافل بشكل فج عن هدر كرامة الأزاهرة أنفسهم، فيسمح بهتك ستر فتيات جامعته وتغييب شبابها.. وهو في كل احواله حامي حمى الوسطية.

أيضا فإن محنة الوسطية تكمن كذلك في أنها تحولت إلى مجرد طنطنات عبر الشاشات وكلمات فارغة المضمون تسود بها صفحات الكتب والجرائد والمجلات، ولم يدر مدعوها أن تجلياتها في دنيا الناس اكبر من أن يتغافل عنها مراقب لحركة التاريخ.

وهنا ربما يعتبر البعض الاتفاق على ضوابط للمنهج الوسطي أو على معالم لتلك الوسطية حتى يمكننا قياس مدعيها حلا لتلك الأزمة، ونعود فنقول إن القضية لا تكمن مطلقا في الأسس ولا في المعايير التي هي محل اتفاق، ولكن تكمن فيما يسميه الأصوليون تحقيق المناط، فالسلفي الذي يحرم قيادة المرأة للسيارة يرفع شعار الوسطية، والأزهري الذي قال “اضرب في المليان” يعتبر نفسه حامي حمى الوسطية، والاثنان وهم ينزلون أحكامهم على الوقائع تلك كانت الوسطية حاضرة وبقوة وربما اعتبروا مناقضي هذا الحكم متطرفين يريدون شرا بالشريعة وبأحكامها.

محنة الوسطية تكمن في أنها تحولت إلى مجرد طنطنات عبر الشاشات وكلمات فارغة المضمون تسود بها صفحات الكتب والجرائد والمجلات

وقد فعل الشيخ القرضاوي ذلك ظنا منه أن الاحتكام إلى تلك المعايير سينهي الأزمة، وهذا ما لم يحدث، وبالمناسبة فقد كاد أن ينفرد بهذا، وقام بوضع ضوابط تحدد الأصول الفكرية والشرعية لهذا المنهج، حتى يبدو من مطالعته أنه لم يترك شيئا بالفعل يمكن القياس عليه إلا ووضعه، وأهمها: الفهم الشمولي التكاملي للإسلام، الإيمان بمرجعية القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة للتشريع والتوجيه، وترسيخ المعاني والقيم الربانية، وفهم التكاليف والأعمال فهما متوازنا يضعها في مراتبها الشرعية وينزل كل تكليف منزلته.

وهذا المعيار الأخير تحديدا احد المعايير التي تتبلور عليها محنة الوسطية، فهي محنة فهم، محنة إدراك، وهذا ما يؤكده المعيار ذاته حينما يقول الشيخ: “فهم التكاليف والأعمال فهما متوازنا” فمن يملك الحكم، ومن يملك معايير التوازن والفهم الصحي؟!

إن محنة الوسطية هي محنة العقل، هي الابتلاء الذي جعله الله عز وجل التحدي الأصعب لهذه الأمة، فلئن كانت الأمم السابقة قد ابتليت في نصوص كتبها ابتلاء مباشرا، فقد كان ابتلاء أمتنا بحفظ كتابها وتعدد فهوم نصوص تشريعاته، وهو أحد تجليات رحابة هذا التشريع إن أحسن المسلمون استغلاله.