ولدت عائشة عبد الرحمن في مدينة دمياط بشمال دلتا مصر في 6 نوفمبر عام 1913، لعائلة ريفية عريقة، يقع منزلها على شاطئ البحر. وكانت ابنة لعالم أزهري، عمل مدرسا بالمعهد الديني بدمياط. وكما تقول في مذكراتها، فإن والدها لم يكن من أبناء دمياط، وإنما ولِدَ في قرية شبرا بخوم في محافظة المنوفية، وتعلم في الجامع الأزهر بالقاهرة، وأكمل دراسته، وعًيّن معلما في مدرسة ابتدائية في مدينة دمياط، ولكن تأثر وعشق الصوفية، وآثر أن يدرّس في المعهد الأزهري الديني في القرية، وقد ضاق ذرعا بالتعليم المدني الذي عمل به بدايةً، فتزوج أم عائشة في القرية، التي كانت حفيدة للشيخ الدمهوجي شيخ الجامع الأزهر بالقاهرة، ومن ثم استقر الأب في قرية الأم وكانت عائشة هي الابنة الثانية له، وقد أسماها والدها بذلك، تفاؤلا بأم المؤمنين رضي الله عنها، وكنّاها بأم الخير. تلقت عائشة تعليمها في كتّاب القرية، فحفظت القرآن، وأجادت القراءة والكتابة والحساب، وعندما أرادت الالتحاق بالمدرسة في السابعة من عمرها، رفض والدها بسبب تقاليد الأسرة التي تأبى خروج البنات، ولهذا السبب اضطرت لتلقي تعليمها بالمنزل، وكما تذكر عن هذه الفترة: “ضقتُ نفسا بما فرضه والدي عليّ من قيود صارمة، تحبسني طوال ساعات الصبح لتلقي الدروس وحفظها، ثم تُلزمني في ساعات الأصيل حضور مجلسه مع شيوخ المعهد الديني، على حين كانت صواحبي يمرحن لاهيات على ملعبنا عند شط النهر. ثم ما لبثت أن ألفت تلك القيود..، فأقبلتُ بكل طاقتي على العلم، وقد استثار زهوي ما كنت أسمع من زملاء أبي الشيوخ عن أهليتي لما وهبت له من علوم الإسلام. وأرضى غروري أن أجدهم يصغون في طرب وعجب إلى تلاوتي المجودة للقرآن، وإنشادي لما حفظت من قصائد الصوفية. فلم يمنعها أبوها من التعليم، بل أصرّ على تعلّمها العلوم الإسلامية واللغوية، متمسكا بالتقاليد التي تلزم البنت بالتعلم منزليا على ما هو شائع في زمانه، وهو ما دفعها إلى النبوغ والإجادة. كما كان لجدها مواقف عديدة في إقناع والدها، في دلالة على أن موقف الأب شخصي في تعنته أكثر من الجيل السابق عليه الذي يمثّله الجد. وقد وافق الأب في النهاية على تعلم ابنته.

  ظهر تفوقها عندما تقدمت لامتحان الكفاءة -بنظام الانتساب المنزلي- فتفوقت على زميلاتها، وحصلت على شهادة الكفاءة للمعلمات عام 1929م، وكانت الأولى على القطر المصري، ثم حصلت على الشهادة الثانوية (البكالوريا) بتفوق، والتحقت بكلية الآداب بجامعة القاهرة، لتتخرج فيها عام 1939م بتشجيع أمها، ولم يعقْ والدها مسيرتها العلمية، وتعلل عائشة سبب عداء والدها للجامعة بأنه كان منتصرا لعلوم التراث الإسلامي، ويتناهى إلى سمعه من اهتمام الجامعة بالتعليم المدني الدنيوي، مما يؤدي إلى زيغ الطلاب وضلالهم. وبإصرار عائشة حصلت على درجة الماجستير بتقدير ممتاز عام 1941م، وبدأت وهي طالبة في الجامعة بنشر مقالاتها في جريدة الأهرام عن الريف المصري في صدر صفحاتها الأولى، كثاني فتاة يخرج فكرها إلى النور بعد الآنسة “مي زيادة”. كما كانت تقوم بتحرير مجلة “النهضة النسائية” وتديرها بنفسها تقريبا. وقد كتبت مقالاتها باسم مستعار وهو بنت الشاطئ، كي لا تثير حفيظة والدها. وقد عرف الكثير من الأهل والأصدقاء كينونتها بوصفها بنت الشاطئ في مقالاتها في الأهرام، ومنهم أهل قرية والدها شبراخوم، ولكنهم لم يذكروا ذلك لوالدها في مجلسه، وكأنهم فخورون بما تكتبه عن قضايا الريف، لندرك جانبا آخر من حياة أبناء الريف المتعلمين منهم والبسطاء، متفهّمين عطاء عائشة وجهودها وتميزها العلمي، وليظل والدها على قناعاته التي لم تتغير، رغم تغير الناس من حوله، وما يراه من تفوق ابنته، وعشقها للعلم، وهي التي تقرّ في مقدمة كتابها “الإعجاز البياني في القرآن” بفضل أبيها عليها: “مع الكتاب المعجز عشتُ عمري كله، وفي المدرسة القرآنية كانت تلمذتي الطويلة التي تولاها أبي في مراحلها الأولى”، ولنعلم كيف أن والدها الذي وهبها للعلم، قد أحسن توجيهها منذ طفولتها، بإتمامها حفظ القرآن قبل العاشرة من عمرها.

  حصلت عائشة على الدكتوراه عام 1950م عن “أدب أبي العلاء المعري”، وناقشها الدكتور طه حسين في درس علمي ذائع الصيت وقتئذ، ثم تنطلق حياتها العلمية الحافلة لتشغل وظائف جامعية وأكاديمية عديدة في الجامعات العربية، وتترك وراءها أكثر من أربعين كتاباً في الدراسات الفقهية والإسلامية والأدبية والتاريخية.

   أما فكرها العلمي فكان نموذجًا تطبيقيًا لفكر زوجها وأستاذها “أمين الخولي” الذي كان واحدا من أبرز الرؤوس الفكرية والأدبية بكلية الآداب، وكان له منهجه الخاص في البحث العلمي الذي استقته تلميذته عائشة، وتشبّعت به روحًا وعقلًا، ويتمثل في هضم تراث السابقين بوعي تجديدي، على مقولة: نحن نتعلم من السابقين لكننا لا نسير خلفهم؛ مع تفعيل معادلة طريفة مفادها (ط = أ + ز) أي أن الطالب لا بد أن يساوي أستاذه أولًا، ثم يُزيد عليه بفارق الزمن بينهما. أما منهجه الأدبي فله إطاران: داخلي وخارجي، يبدأ بجمع المصادر والمراجع، والتحقيق والتوثيق، المادي والمعنوي، ثم الاستغراق في فهم النصوص المنطلق من علوم العربية وفنونها، مع إعمال العقل. وهو ما أشارت إليه بقولها:” وجهني أستاذي الإمام أمين الخولي وظل لمدة ثلث قرن يقود خطاي على الطريق الشاق، ويحميني من عثرة الرأي، ومزالق التأويل، وسطحية النظر، ويأخذني بضوابط منهجه الصارم، الذي لا يجيز لنا أن نفسر كلمة من كلمات الله دون استقراء كامل لمواضع ورودها بمختلف صيغها في الكتاب المحكم، ولا أن نتناول موضوعا قرآنيا، أو ظاهرة من ظواهره الأسلوبية، دون استيعاب لنظائرها، وتدبر سياقها الخاص في الآية والسورة، وسياقها العام في القرآن كله. 

وهي منهجية أقل ما توصف به أنها شاقة عسيرة، فما أكثر التفاسير القرآنية، وما أشد تنوّع مدارسها وطرائقها! وقبل ذلك، تهيّب النفس الباحثة أن تدلي برأي في مسألة في كتاب الله، خوفا من شطح التأويل، أو مزالق الفكر، ناهيك عن الجهد والوقت.

لقد قدمت بنت الشاطئ القدوة والمثل للعالمة المسلمة المفكّرة، التي جمعت علوم التراث، وأتقنتها، وانفتحت على المناهج العلمية العصرية، وتفاعلت بالحوار الراقي لمختلف القضايا المثارة على الساحة، ولعل أبرز ما قامت به دعمها لتعليم المرأة بمنطق إسلامي وحجة فقهية أصولية دون طنطنة نسوية، وكانت شخصيتها وقوة حجتها ظاهرة في كتاباتها، التي أبحرت فيها في قضايا إسلامية وتراثية شديدة العمق، وخير مثال على ذلك جهودها المبدعة في كتاباتها المتعددة عن نساء النبي (صلى الله عليه وسلم)، سعيا منها إلى تقديم أمهات المؤمنين بكل ما فيهن من إنسانية ورقي وورع وأخلاق، خاصة في علاقتهن مع الرسول، وكما تشير في صدر كتابها “نساء النبي” بأن يكون حديثها “عن أولئك اللائي دخلن حياته (صلى الله عليه وسلم) مركزة جهدي في تمثّل شخصياتهن كما بدت في بيت النبي، ولم أتتبع حياتهن بعد الرسول، إلا أن تكون إشارة موجزة يدعو لها المقام… (لقد) عناني تمثّل حياة كل منهن في بيت المصطفى ومكانها منه، وتصوير شخصيتها تصويرا يجلوها زوجًا وأنثى”.

وتلك منهجية سامية، لأنها أرادت تحليلا لزوجات الرسول ينحو إلى الجانب الإنساني، بعرض سماتهن الشخصية، بعيدا عن الأخبار الجافة التي تحفل بها كتب السيرة والتاريخ، ليسهل الوقوف على تنوّع شخصياتهن، وأثر الإسلام والرسول فيهن، وكيف عشن حياة الأنوثة والزوجية وطبقن قيم الإسلام وأخلاقه، وبذلك تصبح أمهات المؤمنين شخصيات حية في مخيّلة القراء، فيقتدوا بهن، ويتعلموا منهن.

وهذا نابع من رؤيتها الفريدة إلى سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، حيث نأت بها عن المعالجات التقليدية للمؤلفين المجايلين لها، والتي تحشد المرويات من مصادر السيرة، وترتبها، ومن ثم تجعلها كتابا. وإنما كانت نظرة عائشة مختلفة إلى الشخصيات النسوية في حياة الرسول، فسعت إلى بسط القول والتحليل عنهن. وكما فعلت مع زوجاته، فإنها نظرت إلى أمه بمنظور مختلف، متتبعة أقوال الرسول نفسه عن أمه، وهو يحاور أصحابه, وها هي تقول مخاطبة أمه السيدة آمنة بنت وهب في مطلع كتابها عنها:” هذا صوت وحيدك يملأ سمع الزمان على مر الآباد: “إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد”. فيحقر كبرياء الملوك، ويسمو بأمومتك إلى أفق لا يتطاول إليه، ترف الغنى، ولا جاه المادة، إذ يجعل منك أيتها الأنثى الوديعة المتواضعة، والأم الطيبة الرؤوم؛ مبعث أنسه، وروح إنسانيته، وآية محبته، وموضع إجلاله واعتزازه.. وقد توجك وحيدك العزيز بتاج سماوي، من هذا المجد الأزلي الأبدي”. إنها أسلوبية أدبية راقية، ومنظور مغاير، وهي تنثر حياة أم الرسول، وتعيد قراءة السيرة النبوية وكتب الأحاديث في ضوء حق الأمومة الذي أكد عليه المصطفى، وهو تارة يحض الناس على توقير أمهاتهم، وتارة يسترجع ما في ذاكرته من الطفولة من ذكريات عن أمه، قبل أن يعيش بعدها حياة اليتم.