يتطلب السير إلى الله الإخلاص وفطم النفس عن شهواتها. وقديما قالوا: “على قدر أهل العزم تأتي العزائم”.

وكلما اشتد شوق السائر إلى ربه، وانقطع بروحه عن عالم المادة؛ صفت نفسه وارتقت بصيرته، وهان عليه كل بذل في سبيل ما يجده من وصال ومحبة، على حد قول القائل:

أخاطر في محبتكم بروحي

وأركب بحركم إما وإما

وأسلك كل فج في هواكم

وأشرب كأسكم لو كان سما

ولا أصغي إلى من قد نهاني

ولي أذن عن العذال صما

أخاطر بالخواطر في هواكم

وأترك في رضاكم أبا وأما

لذا استحق كل سائر إلى الله أن ينال درجة على حسب جهده، وأن يقف كل سالك عن حده حسب جده. وارتسمت لنا فواصل بين الأعمال والأفعال. فالعمل هو: تحويل الفكرة إلى واقع يدرك بالحواس سماعا أو إبصارا أو لمسا؛ بغض النظر عن درجة إيمان الفاعل بما يقوم به. لذا فالأقرب للعمل هو الأداء.

أما الفعل فهو: مرتبة أعلى وأرقى؛ إذ إنه تحويل الفكرة واليقين إلى واقع، بحيث يصير ذلك المعتقد سلوكا للمرء يتجرد له، ويلازمه عن محبة وإخلاص. ولذا قال ابن عطاء الله: “الأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها”. فالإخلاص هو الذي يحول تلك الصور إلى فعل، ومن غير إخلاص وصدق محبة تبقى أشباحا.

ومن هنا كان الكلام في حد ذاته عملا؛ إذ إنه تحويل الفكرة إلى صورة حسية، يدركها المحيطون بالأذن؛ ويرتفع إلى مرتبة الفعل إذا لازمه يقين راسخ. ويظل في إطار العمل الذي يؤخذ حجة على صاحبه؛ إن لم يتوافر هذا اليقين المحرك للأداء.

ولذلك ميز القرآن بين كلام (عمل) لا يعضده يقين، وبين الفعل الذي لا يصدر إلا عن يقين. ولام من يتكلمون (يعملون)؛ ويصرون على أعمالهم دون الوصول إلى الفعل. لذا قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2-3).

الأداء # الفعل

في صفوف متساوية.. ولكن من أخلصهم لله؟

وحين تحدث القرآن عن مشهد المؤمنين؛ بين لنا صفات هؤلاء المؤمنين -أي من استعدوا لأعمالهم بالإيمان واليقين الذي يرفعها إلى مرتبة الفعل- فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (المؤمنون:1-4). ويشير هذا الملمح القرآني إلى أنهم للزكاة فاعلون، وليسوا كالذين يؤدونها دون أن يفعلوها.

وكأن القرآن يوضح ميزة هؤلاء المؤمنين الذين دعاهم إيمانهم إلى أن يخرجوا زكاة أموالهم عن طيب نفس، ويجتهدوا أن تكون في أبهى صورة، فتزكو أنفسهم وأرواحهم قبل أن تزكو أموالهم. إذ إن عطاءهم المادي يصدر عن آخر روحي؛ لأن الله ليس بحاجة لنفس تعطي بيدها، والشح متجذر فيها: {لنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (الحج: 37).

هناك فارق كبير بين من يؤدي الزكاة وكأنه يزيح حملا اشتدت وطأته على كتفه؛ كي يتفرغ لكسب المزيد من الأموال التي يستطيع أن يعوض بها خسارته، وآخر يخرج المال مغلفا في ابتسامة رقيقة ومشاعر أرق، يخرجه ونفسه راضية مطمئنة، يطلب به عفو الله ومرضاته فيفعل الزكاة كأنها مجهود بالبدن.

ولذا قال “فاعلون” وكأنه يشعر أنها تحتاج لبذل بدني؛ قبل أن يؤديها باليد. حينئذ تكون زكاته باقة من مشاعر طيبة ومحبة خالصة وتجرد وتواضع، وتخرج الثمرة ألفة بينه وبين الفقير الذي يأتيه طالبا نواله، فيخرج من عنده مجبور الخاطر منشرح الصدر راضي النفس فتزكو القلوب.

وجعل الله بركة كلمة ضئيلة ومغفرة بسيطة -لا تحتاج جهدا ماديا قدر ما تحتاج فعلا روحيا- هي أكرم وأحب إلى الله من صدقة ظاهرية لكنها أبعد ما تكون عن الصدق والإخلاص. فقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (البقرة: 263).

ويعني “الفعل” أن يصير “العمل” سلوكا للمرء لطول أدائه له، وأن يدرب نفسه عليه حتى يتحول بكل جوانحه نحوه. فالصلاة حين نؤديها “عملا” نركع ونسجد ونقوم ونقرأ نخرج منها دون أن نحس بحلاوتها.

بيد أن مجاهدة النفس في الصلاة، ومحاولة نيل الإخلاص؛ تنتهي بالمرء إلى أن يحس حلاوة الصلاة. وكذا الحال في العبادات كلها؛ حتى تصير العبادة لذة العبد وراحة نفسه ومنيتها، ولا يتأتى هذا إلا لمن جد واجتهد.

ولذا لا نعجب حين نسمع أحد السلف ينادينا: “مكثت أعالج قيام الليل عشرين سنة حتى استقام لي وأحسست بحلاوته.” ونجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ينادي بلالا أن يؤذن للصلاة التي هي راحة النفس: “أرحنا بها يا بلال”.

والفرق بين صلاتنا وصلاة سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يأتي من هنا؛ فنحن ندخل الصلاة ونفكر في عشرات الأمور الدنيوية. فلا تستقيم لنا الصلاة لأننا “نعملها”.. الجسد في واد والروح تسرح في واد آخر.

الفعل عين المحبة

أما السلف فكان الواحد منهم ينخلع عن الدنيا حين يدخل إلى حضرة الله في صلاته. وينقطع عن العالم لأنه في معية الحق، ومعية الحق لا مكان فيها لباطل ولا لعرض زائل، هكذا كانوا يصيحون:

سهر العيون لغير وجهك باطل               

وبكاؤهن لغير فقدك ضائع

أيظن أني فيك مشترك الهوى

هيهات قد جمع الهوى بك جامع

بصري وسمعي طائعان وإنما

أنا مبصر بك في الحياة وسامع

وهذا المشهد الأخير هو عين “الفعل” يحبه الله من العبد. ولذلك قال الله في الحديث القدسي: “ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه. وهنا نلمح قوله: “ولا يزال” الذي يعكس جهد هذا العابد الذي أدام نفسه على العبادة حتى أدمنها، فصارت له فعلا وسلوكا.

ويتضح الفرق بين “العمل” و”الفعل” حين نقرأ قول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إن الله كتب الحسنات والسيئات: فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن همَّ بعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بعملها كتبها الله له سيئة واحدة” (متفق عليه).

فقد استخدم “عمل” دون “فعل” لأن عبدا كهذا لم يستكمل العزم واليقين والمحبة الصادقة لتلك الحسنة فلو استكملها لفعلها. فلما لم يستكملها ما استحق أن يرتفع إلى مرتبة الفعل، وبقي مرتهنا في درجة العمل.

ومن جملة رحمة الله ولطفه أنه يجبر الكسر، ويرفع تلك الأعمال التي اعتورها النقص والخلل، وأقعدها عن أن تبلغ درجة الفعل. فهو -سبحانه- يرفع العمل الذي توفرت له درجة من الصلاح؛ لأنه دليل على حسن نية صاحبه واستعداده للسير إلى الله.

لذا يقول جل شأنه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر:10). إذ لا يمكن لكل أحد أن يرقى إلى مرتبة فعل الصالحات؛ لما تحتاجه من طول تدريب، وإقامة النفس على الخير حتى تصير الطاعة راحتها وروحها.

ومن جملة الحديث عن العمل والفعل؛ نلحظ أن القرآن يعبر عن الإرادة الإلهية “بالفعل”؛ إذ إنها قد بلغت في الكمال منتهاه، وفي التحقق أعلاه. فنقرأ قول الله: {وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}، وقوله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}، وقوله: {لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا}.

ويؤكد القرآن أن العبادة عمل لا بد أن ينتهي بالمرء إلى فعلها سلوكا، فتتحول إلى خطى يسير بها على الأرض. فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

فهذه أعمال تنتهي بصاحبها الذي أدمنها، وأدام فعلها إلى الفلاح. ففعل الخير هنا هو غاية العبادة، حتى ينطبع أثرها على النفس، وهو ما لا يكون إلا بطول مجاهدة وصبر. عندئذ يرى العبد في الظلمة نورا يهديه:

قلوب العارفين لها عيون

ترى ما لا يرى للناظرينا

وألسنة بأسرار تناجي

تغيب عن الكرام الكاتبينا

وأجنحة تهيم لعشق وجد

إلى جبروت ذي حق يقينا

فإن تردن تباكر ذي المعاني

فبذل الروح منك يقل فينا

أحمد محمد سعد