ثمة ظواهر كثيرة تنشأ، وواقع جديد يتشكل، وأسئلة متنوعة تُطرح، في زمن الفائض المعلوماتي والتدفق غير المسبوق للأحداث والأخبار.. ولعل من أهم ذلك ما يتعلق بما نلمسه من “سطحية الفكر” فيما يُتداول من آراء واتجاهات عبر الوسائط المعلوماتية الاجتماعية المختلفة.

و “سطحية الفكر” التي نقصدها هنا، نعني بها عدم الغوص فيما وراء الظواهر والأحداث من معانٍ ومؤثرات، والانخداع بما يلمع فوق السطح لا بما يختبئ تحته، والمسارعة لتصديق كل صائح، وعدم تكوين رؤية صلبة متماسكة في التحليل والتركيب، والخفة أو التضخيم في الانطباع والحكم، إضافة إلى الغفلة عن المقاصد والغايات المرتبطة بالموضوع محل النقاش.

هذه أمور نلمسها ونعانيها، وقد تدفع المرء أحيانًا لعدم الدخول في نقاش، وتزهِّده في التعليق.. لاسيما إذا أضفنا إليها ما يبدو من غرور في الطرح، ومن زهو عند المتحدث؛ وكأنما هذه النوافذ قد جعلت الجميع كُتابًا ومفكرين وخبراء!! ولم يعد ثمة فرق بين من يتحسَّس أبجديات الكتابة والفكر وغيره؛ فالجميع يتشاركون النوافذ المعلوماتية ذاتها!!

وتترك “سطحية الفكر ” آثارًا وخيمة على “الرأي العام” وعلى ذهنية ونفسية الجماهير، الفائض المعلوماتي وتجعلهم غير قادرين على التعاطي بجد ومسئولية وبصيرة مع ما يطرح عليهم، وما يراد بهم.

والإسلام، وهو دين العقل والقلب معًا، يربِّي أتباعه على استقامة الفكر ودقة النظر، ويرشدهم إلى توظيف حواسهم في تمحيص الآراء والنفاذ إلى الحقائق، ويدفعهم إلى استقلال الرأي وعدم الانسياق وراء كل ناعق.. مما يجعل عقلية المسلم عقلية متميزة، ذات منهجية منضبطة، بعيدة عن الانفعالية والارتجالية والعشوائية.. وهذا جميعه مما يضاد سطحية الفكر، ويرسخ بدلاً منها: عمق الرؤية، ومنهجية التفكير، ونفاذ التصور.

لقد وقف عقل غير المسلم عند ظواهر الطبيعة؛ فانبهر بها، وأُخذ بجمالها، وفُتن بخلابتها؛ فظن أنها ذات قوى خارقة مسيطِرة، واعتقد بأحقيَّتها في أن يتوجه لها بالخشوع والتضرع، ولم يفطن إلى ما وراء هذه الظواهر من حقائق، وما تدل عليه من آثار، وما تُرشد إلى من خالق!

حتى حينما عرف بعضهم بوجود الله، وعلم أن لهذا الكون خالقًا مدبرًا حكيمًا، تلبَّس عليه الأمر فظن أنْ لا بد لهذا الخالق من وسيط! فراح يعبد الصنم والحجر والشجر، يتخذ منها شفيعًا عند الله! {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ} (الزمر: 3).. وهل كانت تلك الأشياء تملك لنفسها جلب نفع أو دفع ضر حتى تشفع له؟! ولكنها سطحية الفكر وضبابية الرؤية!

فجاء الإسلام بعقيدته الصافية ومنهجه المستقيم، ينفض الغبار عما أصاب العقل، ويرشد الفكر إلى الطريق الذي لا عوج فيه ولا غبش، ويناقشه مناقشة حرة فيما يعرض له من أوهام : {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت: 20). {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ والأرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ (36) أمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ (37)} (الطور). {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚفَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنبياء: 22).

ولهذا، تأسَّس العقل المسلم على استقامة الفكر ودقة النظر، وعلى اتباع الدليل وطرح التقليد ورفْضِ الظن والوهم؛ وكان “المنهج التجريبي” من أثمن ما قدمه المسلمون للبشرية.

وللمرء أن يتساءل متعجبًا: كيف كنا على هذا النحو وكيف صرنا إلى هذا المآل؟ ولماذا لا ندرك خطورة هذه العقلية المشوشة وبُعدها عن منهجية الإسلام في التفكير؟

إن هذه الطريقة غير السديدة في تناول القضايا وفهم الإشكالات، تبعدنا عن جوهر الأمور، وتوقعنا في شباك الصغائر، وتفتح علينا معارك ما كان أيسر تجنبها، وما كان أشد حاجتنا لذلك!!

وإذا عدنا إلى النقطة المحددة التي أشرنا إليها في أول المقال، وهي الفائض المعلوماتي والوسائط الاجتماعية، وعلاقتها بتسطيح الأفكار؛ فيمكن أن نشير إلى عدة أمور نتجنب بها هذه العلاقة السلبية؛ مثل:

–  عدم اللهاث وراء كل جديد، خاصة في متابعة “الأخبار”؛ فهي لا تكف طاحونتها عن التوالد والدوران! خاصة أن الأخبار لها بريق يجعل المرء مدفوعًا للتعرف على كل جديد منها، حتى لا يُتهم بالانفصال عن الحاضر!

 – تحديد مجال متابعة في الصفحات والمجموعات، ويكون متصلاً بالاختصاص الأصلي للمتابِع، مع توسيع هذا المجال نوعًا ما.. فالمزاوجة بين الاختصاص والتثقف العام أمر مهم وله دور في تكوين منهجية منضبطة متكاملة.

 – تحديد وقت لهذه الوسائل الاجتماعية؛ فهي ذات قدرة غير محدودة على ابتلاع الوقت، وهدر الجهد.. وأثمن ما يملكه المرء وقته؛ هو رأسماله، ومجاله الذي يتحرك فيه، ومسئول عنه، لاسيما وقت الشباب والفتوة.

– متابعة مَن يضيفون للفكر ويثرون النقاش، مِن خبراء وأساتذة جامعيين ومختصين في المجال المحدَّد سلفًا.. وهذه النقطة تتصل بنشأة وسائل التواصل في البداية؛ فقد كانت للترفيه والتعارف، ثم شيئًا فشيئًا أصبح لها دور في التثقيف والتوعية؛ وعلينا أن نستفيد منها في هذا الجانب الثاني بصورة أكبر.

– وضع جدول للقراءة المنهجية، سواء في التخصص أو الثقافة العامة؛ فالكتاب- بما هو جهد منظم ومكثف- ما زال هو الوسيلة الفضلى للمعرفة، وما زال يحتفظ بمكانته أمام الوسائل الحديثة في العقود الأخيرة، بدءًا من “الراديو” وحتى “الإنترنت”!

بهذه الأمور وغيرها، يمكن أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي نافذةً على الوعي والفكر، وطريقًا للمعرفة الثرية والنقاش الهادف، بجانب كونها وسيلة للترفيه والتعارف.. وليست سببًا في تسطيح الفكر، وتشويش الرؤية.