أسف الإمام ابن عاشور في “أليس الصبح بقريب” على حال التآليف الإسلامية التي بقيت جامدة – حسب تشخيصه – منذ ستمائة عام، وشبهها بالأسير الذي ينتظر الفكاك والمظلوم الذي يفتقد الناصر، واعتبر جمودها من أهم أسباب تأخر التعليم، وأن إصلاح التآليف هي الخطوة الأولى في إصلاح التعليم، فقال: “أمَّلت العلوم منا إصلاحا لها، فنظرت إلينا نظر الأسير لفاديه والمظلوم لناصره، وإصلاح التآليف هو الخطوة الأولى، بل هو نصف المسافة من إصلاح العلوم، فما العلوم إلا معاني التآليف، وإنها لا ترجو تقدما ما دامت محبوسة في تآليفها القديمة التي وقفت بها عند القديم منذ ستمائة عام”.

وقال أيضا مبينا اتساع الفجوة الشاسعة بين التآليف وتبدل العصور والحضارة: “وقف بنا المسير وضاقت التآليف واختلطت العلوم، وأصبحنا نتابع ما وجدنا غير شاعرين ألِحُسْنٍ اتبعناه، أم لقُبح نبذناه، وتبدلت العصور وتقدمت العلوم وطارت الأمم، ونحن قعيدو علومنا وكتبنا، كلما أحسسنا بنبأة التقدم والرقي وتغيير الأحوال استمسكنا بقديمنا، وصفدنا أبوابنا، فإنك لتنظر الرجل – وهو ابن القرن الرابع عشر- فتحسه في معارفه وعلمه وتفكيره من أهل القرن التاسع أو العاشر، مما هو معلول لوقوف تقدم التآليف عند الحد الذي تركه الواقفون”.

وحدد ابن عاشور بداية الخلل في التآليف بطغيان الكم طغيانا مربكا حيث قال:”كثرت التآليف واتسعت في خمسمائة سنة، وتعددت النحل، ولم يهتد المسلمون أمام هذا التيار إلى تقييض طائفة من العلماء تختار كتبا من بين تلك الكثرة، فكان من هذه الكثرة، أن ناءت بالقدر عن تحملها، ودعت حاجة للأخذ من جميعها، فطفق كل أحد يختصر ويزيد وينقص على ما يبدو له”، وأتبع ذلك بما نشأ عن هذا الطغيان في الكم من غير غربلة نوعية من آثار سقيمة عامة في التآليف بقوله: “نشأت عقدة اللسان واستتار المسائل تحت الألفاظ واشتغال المؤلفين عن النقد، والعناية باختزال حرف أو نقص كلمة … حتى صار الكاتبون ينتقدون صاحب الاختصار في بعض التراكيب بأنه لو قال كذا لكان أخصر فضعفت الأفهام، وتهيأت لشرح تلك المغلقات، وإضاعة بقية الأوقات، والخصومة في معاني الكلمات: هل تدل على ما قصده المؤلف أو لا؟ فمن قائل نعم ومن معترض بلا ومن ناقد للاعتراض ومنتصر”، وأضاف مبينا ما انتهى إليه حال التآليف في القرون المتأخرة التي طغى فيها التقليد طغيانا مؤسفا بقوله: “انحصرت دائرة التآليف في نقل ما قال المتقدمون، ترى تأليفا يظهر بعد آخر، ولا تجد جديدا، أو رأيا، أو تمحيصا”، بل بلغ الأمر عند المتأخرين إلى التسابق “على إظهار التافه من التآليف واقتنائه في المطالعة والتعليم”.

ثم بين ابن عاشور ما ترتب على هذه الآثار السقيمة في التآليف مع طول الوقت بعد القرن الثامن من نتائج سلبية مؤسفة في العقليات والأفهام بل والسلوكيات لدى الأجيال فقال: “وبعد طول الزمان صرفت الأذهان عن الفائدة، ونسي المؤلفون خطتهم، فأصبحت لا ترى التآليف إلا مناقشات وخصومات على الألفاظ والعبارات، وفي ذلك يضيع عمر الطالب ويخور فكره، ويصبح رجلا قادرا على المكابرة واللجاج، بغير حجاج… لا شك أن الزمان قد أوجد أناسا فيما بعد القرن الثامن يمجدون ويخضعون ويقلدون وهم لا يفهمون، وهذا كان عونا كبيرا على استفحال التقليد والبعد عن الحقيقة والنقد”.

وبين ابن عاشور السبب الذي غر هؤلاء المؤلفين المتأخرين في حشو التآليف بنقولات عن الأقدمين إذ قال: “وغرهم ما رأوا في تآليف الأقدمين من النقل عن أساطين العلماء فظنوا ذلك وحده زينة العلم”، ثم وضح الفرق بين مسلك هؤلاء المتأخرين وطريقة أولئك الأقدمين في النقل قائلا: “فإذا كان السكاكي ينقل عن الزمخشري وعبد القاهر، فإنما يفعل ذلك في مواضع يريد بها البرهان على صحة معنى أو بيان مذاق، فما بالنا اليوم لا نسمع إلا: قال فلان، وقال فلان؟”، ثم بين ما يميز نهج الأولين في التآليف ووفرتها وما آل إليه الأمر عند المتأخرين اغترارا بنهج أولئك من غير إدراك لخصائص ذلك النهج وخصوصيته فقال: “كانت تآليف الأولين مفعمة بالأنظار المبتكرة والمنازع الاجتهادية في كل العلوم، ومن آثار ذلك التي لا تزال شاهدا على مقدار إطلاق العنان للتآليف في شباب الإسلام ما نرى في الكتب من حكاية الأقوال حتى إنك لتجد أقوالا ما كان يبنغي أن يتسامح بعدها بين الأقوال لشدة ضعفها؛ ولكن احترام الأفكار هو الذي بعث المؤلفين على إثباتها وإحالتها على نقد المطالعين، حتى انقلب ذلك بالناس إلى اعتقاد أن كل قول مسطور فهو صحيح لا ينبغي الطعن فيه، ولا يتحرج من الأخذ به”.

ويلخص ابن عاشور النتائج السلبية المؤسفة لتآليف المتأخرين بقوله: “فكان من أثر ذلك حال التأخر العلمي اليوم”.

ولم يقف الأمر عند حدود الإكثار من النقل والتكرار والتقليد والتعصب لأقوال المتقدمين وتنكب الابتكار والإضافة والتجديد في التآليف والعقول والأفهام لدى المتأخرين، بل وكما لاحظ ابن عاشور ظهرت فئات منهم – ولدوافع مختلفة كالقصور عن اللحوق برتبة العلماء المحققين، أو حسد الأقران وإطفاء مواهب المعاصرين، أو التعصب للمتقدمين – تستقوي بصلاتها مع أصحاب السلطة والنفوذ بمحاولة منع الناس من تعدي ما بلغ إليه العلماء المتقدمون، “فحجروا النظر وخوفوهم عواقب القول بالرأي، وألقوا في نفوس الحكام والملوك أن الخروج عن ذلك قيد شبر هو كالإلحاد في الدين، وكفران لفضيلة العلماء الماضين، إلى كلمات لفقوها، وأحاديث وضعوها، ورهبانية في تقديس الأقدمين ابتدعوها”.

ما قاله ابن عاشور عن هذه الفئات يذكرنا بالمثل الذي تمثل به سيدنا الحسنُ رضي الله عنه في قوله:

كُلُّهُمُ أرْوَغُ من ثَعْلَبٍ * * * مَا أشْبَهَ الَّليْلَةَ بِالبَارِحَهْ