الرهن عند العرب يطلق على شيئ لازم وثابت ومستقر أو على حبس شيء، ومعناه في العرف الفقهي متعدد، فأوسع معانيه ما جاء عند المالكية بأنه:” بذل من له البيع ما يباع أو غررا ولو اشترط في العقد وثيقة بحق”[1] أو “مالٌ قُبِض توثقًا به في دين”[2] ومجال الرهن عندهم كما ترى أوسع من أن يكون بالعين فقط، فقد يكون دينا أو عينا أو رهن الغرر اليسير خلافا لغيرهم.

كان الرهن ذا شأن عظيم في أبواب المعاملات المالية المعاصرة، نظرا لطبيعة قابليته الواسعة للتطبيق في كل زمان ومكان، حيث أصبح ضمانا بديلا فعالا في تسهيل عملية القرض والبيع والشراء وغيرها، ويدخل تطبيق الرهن في صور كثيرة من مجالات المعاملات التجارية المعاصرة دون وقوع في المخالفات الشرعية ومنها:

رهن الديون

يطلق الدين على الحقوق متعلقة بالذمم حالا كانت أو مؤجلة، ولم تكن قضية رهن الديون من المسائل المستجدة وإنما هي قضية فرعية فقهية قديمة، وقد تناول الفقهاء القدامى مسائله في مصنفاتهم الفقهية وأحد صور عقود التوثيقات، وتمت كلمتهم على أصل مشروعية استيثاق الدين من حيث الجملة لدلالة الكتاب والسنة على ذلك، وإنما وقع خلافهم في رهن الدين، سواء رهن الدين عند المدين أو عند غير المدين، وصورتا المسألة فيما يلى:

الصورة الأولى رهن الدين ممن هو عليه: كأن يكون محمد دائنا لزيد بألف على أي صورة، ثم يشترى محمد سلعة من زيد إلى أجل مسمى، ويجعل دينه الذى في ذمة زيد قبل شراء منه رهنا.

الصورة الثانية رهن الدين من غير ممن هو عليه : لو كان محمد دائنا لأحمد بألف، ويشترى من زيد سلعة مؤجلة ثم يرهن بدينه الذى في ذمة أحمد، وهذا الذى يسمى برهن الدين عند غير المدين.

ولم ير الجمهور جواز رهن الدين في كلا الصورتين نظرا لعلتين مانعتين:

  1. لكون الدين ليس عينا، ومن شرط الرهن عندهم أن يكون في كل عين جاز بيعها.
  2.  ولعدم تحقق القبض فيه، إذ قبض الرهن شرط في صحة لزومه عندهم.

ولكن المالكية وغيرهم لم يرأو بأسا بالجواز، لإمكان دخول رهن الدين في عموم ما يصح بيعه، ولم يكن القبض عندهم شرط الصحة وإنما شرط الكمال ويلزم الرهن بمجرد العقد، وعضدوا قولهم بقاعدة: “تنزل الديون في الذمم منزلة الأعيان”[3] وإذا كان الدين في الذمة بمنزلة العين فإنه يجوز رهنه كالعين على سواء.

ولعل هذا القول هو المترجح، لموافقته تحصيل مصلحة لا مضرة فيها للراهن والمرتهن معا، ولجريانه على إباحة أصلية رهن الدين في صورتيه، ولاسيما قد يترتب على الأخذ بقول الجمهور الضيق والحرج في معاملات الناس بعضهم بعضا، مع العلم أن من مقاصد الشريعة رفع الحرج وجلب التيسير للعباد. 

وقد تبنت هذا القول هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، حيث جاء في معيارها الشرعي رقم (39)، في البند 3/2/2 (الأصل أن يكون المرهون عيناً، ويجوز أن يكون ديناً أو نقدا أو مالا مثليا أو استهلاكيا)[4] وجاء في البند 3/2/11 (يجوز رهن الدين، سواء أكان ذلك الدين على المرتهن أم على غيره)[5]

وهناك بعض المعاملات المعاصرة ممكن أن تتخرج على مسألة رهن الديون فتأخذ حكمها، ومن جملتها:

رهن الحساب الجارى أو الوديعة الجارية

أولا: التكييف الفقهي للوديعة المصرفية

لم تكن الحسابات الجارية حسابات استثمارية بل هي عبارة عن ” المبالغ التي يودعها أصحابها في البنوك بقصد أن تكون حاضرة التداول، والسحب عليها لحظة الحاجة بحيث ترد بمجرد الطلب، ودون توقف على أي إخطار سابق من أي نوع”[6]

وكان لكل من العميل والمصارف فوائد يجنيها جراء الحساب الجارى، والعميل يجد الاطمئنان علىحفظ أمواله وحمايته من أي التعدى والانتهاك أو التلف، مع سهولة سحبها في أي وقت شاء، ولذا كان من أسمائه: الحساب تحت الطلب أو الودائع تحت الطلب، وكذا تستفيد منه البنوك أو المؤسسات في تعزيز مواردها من أوجه متعددة، مثل الخدمات المقدمة لأصحاب الحسابات الجارية، أو استثمار تلك الأموال وخاصة في الحسابات المستقرة.

وللفقهاء المعاصرين في تكييف حقيقة الحسابات الجارية قولان – إذا لم ينص على العقد الموقع بين البنك وبين العميل على أنه وديعة – والقول الصحيح الذي عليه أكثر العلماء والباحثين أن الوديعة في الحساب الجاري قرض، فالمودع (العميل) هو المقرض، والمصرف هو المقترض.

وهذا هو المعتمد في مجمع الفقه الإسلامي بنص رقم 90/3  الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) سواء أكانت لدى البنوك الإسلامية، أو البنوك الربوية هي قروض بالمنظور الفقهي، حيث إن المصرف المستلم لهذه الودائع يده يد ضمان لها، هو ملزم شرعاً بالرد عند الطلب، ولا يؤثر على حكم القرض كون البنك المقترض مليئاً” إذن، فلا عبارة بتسميتها بالودائع نظرا لواقعها التطبيق العملي، وإنما العبرة بالمعاني والمقاصد.

ثانيا:حكم رهن الحساب الجاري

وإذا كان التوصيف الفقهى للوديعة المصرفية على أنه قرض، وإنه يتخرج حكم رهن الحساب الجارى على مسألة رهن الدين السالف الذكر، وكما سبق القول بجواز رهن الدين بصورتيه وكذا يتجه القول هنا بالجواز، “فإن كان المرتهن غير المصرف (المفتوح فيه الحساب)، فقبضه للمرهون (وديعة الحساب الجاري)  يكون بإجراء يقوم به المصرف (المفتوح فيه الحساب) يمنع  صاحب الحساب من الصرف منه، أو التحويل، أو نحو ذلك مدة بقاء الدين. وإن كان المرتهن هو المصرف  (المفتوح فيه الحساب)، فقبضه يكون بما تقدم”[7]   

وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي -في دورته التاسعة بأبو ظبي- بشأن الودائع المصرفية (حسابات المصارف) ما يلي: “إن رهن الودائع جائز، سواء أكانت من الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) أم الودائع الاستثمارية، ولا يتم الرهن على مبالغها إلا بإجراءٍ يمنع صاحب الحساب من التصرف فيه طيلة مدة الرهن. وإذا كان البنك الذي لديه الحساب الجاري هو المرتهن، لزم نقل المبالغ إلى حساب استثماري، بحيث ينتفي الضمان للتحول من القرض إلى القراض (المضاربة)، ويستحق أرباح الحساب صاحبه تجنباً لانتفاع المرتهن (الدائن) بنماء الرهن.” [8]  

نخلص في نهاية هذا المطلب إلى القول بأن الأصل في الوديعة المصرفية وديعة حقيقية ما لم يتصرف فيها البنك أو المصرف، وإذا تصرف فيها البنك – كما هو الواقع المشاهد – فحينه ينقلب حكمها إلى القرض في الذمة، وعليه يتحول الحساب الجارى إلى الاستثمارى فى عقد الرهن سدا لذريعة الانتفاع به من قبل البنك إذا كان هو المرتهن، وإذا كان غيره فلا بأس بالبقاء على الجارى بشرط منع الراهن من التصرف فيه إلى نهاية عقد الرهن.


[1]- مختصر الخليل ص:166

[2]- مواهب الجليل 5/3.

[3]- المصدر السابق. وقال ابن عبد البر:” الذمة تقوم مقام العين الحاضرة”. 6 /290. وقال ابن القيم:” والدين في الذمة يقوم مقام العين”. إعلام الموقعين 4/3

[4] – المعايير الشرعية، ص:985

[5]- المعايير الشرعية، ص: 988. وينظر أيضا المقالة بعنوان رهن الدين وتطبيقاته المعاصرة لعياد بن عساف بن مقبل العنزي، مجلة البحوث الإسلامية العدد (110).

[6]  الودائع المصرفية النقدية، واستثمارها في الإسلام، د. حسن عبد الله الأمين. ص:209

[7]  المقالة بعنوان: رهن الدين وتطبيقاته المعاصرة” لعياد بن عساف بن مقبل العنزي، مجلة البحوث الإسلامية العدد (110).

[8] – مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد التاسع 9/702.