شرف الله تعالى نبيه إبراهيم – عليه السلام- بخدمة بيته المسجد الحرام والكعبة المشرفة، فأمره وابنه إسماعيل ببنائها، ثم دعوة الناس إليها، فيأتون رجالاً وركباناً، كما أمرهما أيضاً بأن يطهّرا بيته الحرام لقاصديه، قال تعالى:

{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]:

قول السعدي:

{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} أي: أوحينا إليهما وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك والكفر والمعاصي، ومن الرجس والنجاسات والأقذار ليكون {لِلطَّائِفِينَ}فيه {وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي المصلين، قدم الطواف لاختصاصه بالمسجد الحرام، ثم الاعتكاف؛ لأنّ من شرطه المسجد مطلقاً، ثم الصلاة، مع أنّها أفضل لهذا المعنى، وأضاف الباريّ البيت إليه لفوائد منها:

  • أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره لكونه بيت الله، فيبذلان جهدهما ويستغرقان وسعهما في ذلك.
  • أن الإضافة تقتضي الشريف والإكرام ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه.
  • أن هذه الإضافة هي السبب الجالب للقلوب إليه. [تفسير السعدي “تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان”، ص92].

قول الدكتور فؤاد محمود بن سندي:

جاء في القرآن الكريم أمر الله تعالى لخليله إبراهيم – عليه السّلام – بتطهير بيته الحرام مرتين؛ المرة الأولى: وجه الأمر إلى إبراهيم وحده وذلك في سورة الحج قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].

والمرة الثانية وجه الأمر لإبراهيم وابنه إسماعيل – عليهما السلام – بعد أن بنيا البيت، وعُرف المقام وكثر الناس في مكة، وذلك في سورة البقرة، قال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].

ففي الآية الأولى أمر إبراهيم عليه السلام بتطهير بيت الله للطائفين به والمصلين إليه، قال الإمام القرطبي: ذكر الله تعالى في هذه الآية من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود وهذه هيئات الصلاة. [تفسير القرطبي “الجامع لأحكام القرآن”، القرطبي، 12/37]

هذا وفي الثانية أمر إبراهيم وإسماعيل – عليهما السّلام – بتطهير بيت الله تعالى للطائفين حوله والمعتكفين الملازمين له والمصلين فيه، فآية سورة الحج جمعت صنفين من العابدين في البيت الحرام “طائفين ومصلين”، وأما سورة البقرة فقد جمعت ثلاثة أصناف منهم: طائفين ومعتكفين ومصلين. [من لطائف التعبير القرآني حول سير الأنبياء والمرسلين، محمد فؤاد سندي، ص256].

قول ابن قيّم الجوزية:

بدأ بـــ “الطائفين”، وهم أقرب العابدين إلى بيت الله تعالى، وهم أقل المذكورين في الآية، إذ لا يُشرع الطواف إلا حول هذا البيت، وتلاهم “العاكفين”، وهؤلاء يكونون في المسجد الحرام كله، بل وفي كل مسجد، ويختصُّ الاعتكاف الشرعي بالمساجد لا يتعداها، فالعاكفون أكثر عدداً من الطائفين، وهم أبعد رتبة منهم عن البيت الحرام.

ثم ذكر المصلين والصلاة بركوعها وسجودها تكون في البيت وعنده وفي المسجد كله وفي كل مسجد بل تعمّ سائر بقاع الأرض سوى ما منع منه مانع أو استثنى شرعاً، فالمصلون أكثر من العاكفين وهم أبعد رتبة عنهم من البيت. [بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية، 1/81]

قول الطاهر بن عاشور:

والمراد من تطهير البيت: ما يدلُّ على لفظ التطهير من تطهير محسوس بأن يحفظ من القاذورات والأوساخ؛ ليكون المتعبد فيه مقبلاً على العبادة دون تكدير، ومن تطهير معنوي وهو أن يبتعد عنه ما لا يليق بالقصد من بنائه من الأصنام والأفعال المنافية للحق، كالعدوان والفسوق والمنافية للمروءة، كالطواف عرياً دون ثياب الرجال والنساء، وفي هذا تعريض بأن المشركين ليسوا أهلاً لعمارة المسجد الحرام لأنهم لم يطهرون مما يجب تطهيره منه، حيث قال تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34]، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. [تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، 1/114].

وإذا كان الله تعالى قد منح شرف بناء الكعبة وتطهيرها إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فقد منح نبينا وحبيبنا محمداً صلّى الله عليه وسلّم شرف تطهير البيت من أدران الشرك، ومما أحاطه به الكفار والمشركون من أوثان تعبد من دون الله تعالى.

فإذا كان إبراهيم – عليه السّلام – قد بناه ابتداءً خالصاً لله تعالى لا يشرك به شيء فقد أحاطه المشركون مع تتابع السنين ومرور الأزمان بأوثان تعبد مع الله جلّ في علاه، فكانت مهمة عُظمى ومسؤولية كبرى في عنق محمد صلّى الله عليه وسلّم أدّاها على أكمل وجه. [الكعبة المشرفة، محمود أحمد الدوسري، ص126].


ملاحظة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “إبراهيم عليه السلام”، للدكتور علي الصلابي.

المراجع:

– إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.

– بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية، (1/81).

– تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور.

– تفسير السعدي “تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان”، ص92.

– تفسير القرطبي “الجامع لأحكام القرآن”، القرطبي، (12/37).

– الكعبة المشرفة، محمود أحمد الدوسري، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، ط1، 2017م.

– من لطائف التعبير القرآني حول سير الأنبياء والمرسلين، محمد فؤاد سندي.