لقد رأى العبد الحبشي بلال بن رباح في الاسلام حلما يفوق حالة الإيمان و العبادة و الانتقال من دين الى دين، لقد وجده حالة متفردة فوق السائد من الأنظمة الدينية و السياسية، فالإسلام يقدم المرء لذاته و عمله فوق كل اعتبارات أخرى لا يكون له فضل في تحصيلها كالنسب والثروة و المكانة الاجتماعية!

لقد أبصر باستشراف المؤمن ما حصل لاحقا فتحمل أشد أنواع العذاب لأن هذا الدين عندما سيتمكن سيمكنه من أن يصبح سيدا يصعد على سطح أقدس حرم للعرب لينصت له الجميع وهو يصدح بأذان الحق، كان دين الاسلام و التمكين له مشروعه الخاص وحلمه الشخصي وإنجازه الذاتي.

و ماذا لنا إن فعلنا ذلك؟” سألها الصحابة في بيعة العقبة يستفسرون عن مكاسب هذه البيعة التي سيبذلون لها أنفسهم و أموالهم وأهلهم، فلما علموا أنها الجنة عقدوا عقدا لا رجعة ولا إقالة ولا استقالة فيه، المعرفة كانت ضرورية في الدنيا لأن العمل والتقديم سيكون فيها، وهذا الدين نزل ليحيا به الناس حياة طيبة في الأولى يعملون فيها لحياة أطيب في الآخرة، ولذا قيل إن العابد لله ملِك في الدنيا ملِك في الآخرة، إن الإسلام يريد لك أن تعيش ملِكا بقوانين مالك الملك، تسخر ما أعطاك إياه بأعظم قوة و أكبر فائدة.

لكن لم يكن كل الصحابة مثل أبي بكر وعمر ولا العشرةَ المبشرين بالجنة، ولكن كلا منهم وجد له مكانا ومكانة ووظيفة في مشروع الدولة الإسلامية، وبعضهم لا تذكر له السيرة سوى موقف واحد اشتهر به كموقف نعيم بن مسعود في غزوة الخندق في التفريق بين يهود والمشركين وقومه من غطفان.

ومن غاب من الأسماء و الشخصيات في الخطوط الخلفية لصناعة الانجازات أكثر ممن حضروا و وثقت أسماؤهم في كتب التاريخ، فكل جيش كان يصحبه من يداوي الجرحى ومن يطبخ لهم و من يسن السيوف و من يدفن الشهداء و و و.  وكلهم بلا استثناء كانوا جزءا من المشروع أيا كانت مواقعهم في المقدمة أوالمؤخرة أو الميمنة أو الميسرة، كلهم كان يحمي ثغرته و كأنه الجندي الوحيد في الجيش، و كلهم كان يرى نفسه المدافع الأول عن الدين.

كان هناك أناس كثر ليس لهم كثير عمل و لكنهم كانوا أنصارا بقلوبهم ينتظمون في السياق العام للدولة يصيبون أحيانا ويخطئون أخرى ويخلطون أعمالا صالحة وأخرى سيئة، ولكنهم لا يخرجون عن مظلة الاسلام، هذا هو النجاح الذي حققه الاسلام في العصور الأولى في جعل الناس على اختلاف أحوالهم من الالتزام بالدين يرون لهم مكانا ودورا  ومواطنة كاملة يكون فيها التقديم للمكين الأمين أكثر من المتدين ضعيف التدبير.

بل إن هذه السياسة في توسيع قاعدة الأنصار والحلفاء والأتباع تشمل المخالفين أيضا، والضمانة أن العدل هو أساس الفصل بين الناس دون أي اعتبارات أخرى بما فيها الدين، وهذا ما جعل المسلمين ينصفون النصارى و اليهود على أبناء دينهم وما جعل أهل سمرقند يدخلون في الاسلام زرافات ووحدانا بعد أن قضى القاضي المسلم لهم بخروج جيش المسلمين من أرضهم لأنه لم يتبع معهم قوانين الفتح في الإمهال وعرض الجزية.
بهذا الفهم جعل عمر بن عبد العزيز يكفل النصارى من كبار السن من بيت مال المسلمين، فالمحتاج نسد حاجته دون النظر إلى دينه، إن هذه الفسحة جعلت سيدا كأبي سفيان يقتنع بدخول دين ناصبه العداء طوال عمره،  لكنه أدرك أن هذا الدين لن ينتقص من قدره، وأن بيته سيظل مكفولا له الاحترام و المكانة، ومن دخله كان آمنا.

إن على المشروع الاسلامي أن يوسع للناس بحسب إقبالهم ورغبتهم وقدرتهم، فمن يريد العمل مع الاسلام لعدالته السياسية والاقتصادية، فذلك نصير يسهم في التمكين النهائي للإسلام، ومن يجد في الاسلام جمالا فكريا وروحانية عالية أوتنمية لمواهبه فذلك أيضا عنصر قوة في المحصلة، فهناك أناس يعملون في دائرة المركز وهناك أناس يعملون على الأطراف وهناك آخرون يراقبون دون أذى، و الله سبحانه و تعالى”لا يشترط أن يكون كل المجتمع نماذج عالية في الإيمان و العبادة و الخضوع للأحكام الشرعية حتى يأذن بنزول رحمته التي تكون الحرية السياسية شكلا من أشكالها بل هو سبحانه أوفر رحمة و أحنى و أعظم شفقة و تكفيه وترضيه سيرة إيمانية مزدانة بفقه العمل، تظهرها أرهاط من الناس، فيهب المسيء للمحسن، فتنتشر أنوار الحرية في الآفاق، والذي يشترط إيمان الجميع متنطع، بل لا يفهم الحياة لأن الله خلق الهمم والعقول والقلوب درجات.

وحسب الدعاة أنهم يقودون الطاعات” جمع الاسلام في سيرته الأولى ما بين المقربين الشهود، وآخر رجل يدخل الجنة، وحتى الموقوفين على الأعراف وعدهم بالرحمة، فما بال القائمين بالدعوة إلى الإسلام يضيقون الواسع ويوغلون بغلظة ويصنفون الناس بالمسميات المختلفة ويحكمون على التزامهم ودينهم، وهو أمر لا يعلمه إلا الله و ما لنا سوى الظاهر، فيدخلونهم و يخرجونهم من باحة الاسلام و كأنهم يملكون المفاتيح إلى الجنة أو صكوك الغفران أو الخسران؟!

عندما يشعر الناس أنهم شركاء أصيلون في رسالة الاسلام و لو بموطئ قدم؛ عندها بإذن الله سيكون التمكين لهذا الدين في الأرض صك ملكية الاسلام، صك رباني كتبه الله لجميع عباده المؤمنين، و ما نحن إلا شهداء على الناس أفضلنا من أطمع الناس بفضل الله، ولم يقنطهم من رحمته.