حينما يشتد الظلم، ويطول ليله البهيم على المظلومين، وهم يرون أن ظالميهم يرفلون في  صولجانهم وقوتهم، وأن أنات المظلومين وجراحاتهم لا تجد من يسكنها أو يداويها، حينئذ يتجدد السؤال القديم الجديد : لماذا لا ينتقم الله  من الظالمين؟

لطالما تدخلت السماء

لطالما تدخلت السماء فأهلكت المكذبين الظالمين، قال تعالى : “{ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6]،

وقال تعالى : {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4]، وقال تعالى : “{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء: 11]،

وقال تعالى : {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء: 11]،

وقال تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ } [محمد: 13]، وقال تعالى :{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا } [الطلاق: 8 – 10]،

ومن أنواع العذاب التي عذب  الله بها المشركين المعتدين على مر التاريخ :

1- ما يكون عذابا من جراء الطبيعة، وما تأتي به السماء من عذاب، كالقواصف كما في حالة الرعد والصواعق والنيازك. أو كالعواصف، كالرياح والأعاصير المدمرة، والتي فيها النيران والمطر. والرجز، والكسف، والحاصب، أي النيازك وحجارة السماء، والصيحة أي الصوت المدوي المهلك، وغير ذلك .

2- ما تأتي به الأرض من عذاب كالزلازل، والبراكين والخسف والهطول، والخسف في الأرض كما في حالة قارون.

3- الهيجانات البحرية وفلق البحر كما حصل مع فرعون.

4- تسليط الدواب والحشرات لتفتك بالزرع كالجراد.

5- تسليط الدواب والحشرات لتفتك بالإنسان،كالذباب والجراثيم، والفايروسات غير المرئية.

6- الجدب والقحط، والأخذ بالسنين، ونقص الثمرات، والخسائر الاقتصادية الناجمة عنها.[ القوانين القرآنية للحضارات، ص104]

توقف سنة إهلاك المكذبين الظالمين

لكن سنة إهلاك الظالمين توقفت في منتصف فترة نبوة سيدنا موسى عليه السلام، يقول الشيخ رشيد رضا :
“وهذا النوع من الهلاك كان خاصا بأقوام الرسل أولي الدعوة الخاصة لأقوامهم، وقد انتهى ببعثة صاحب الدعوة العامة خاتم النبيين المخاطب بقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (21: 107)” [تفسير المنار (8/ 358)]

ويقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص: 43].

يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله موسى الكليم، عليه من ربه الصلاة والتسليم، من إنزال التوراة عليه بعدما أهلك فرعون وملأه.

وقوله: { مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى } يعني: أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمة بعامة، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين، كما قال: { وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً } [ الحاقة : 9 ، 10 ].

وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا محمد وعبد الوهاب قالا حدثنا عوف، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد الخُدْري قال: ما أهلك الله قومًا بعذاب من السماء ولا من الأرض بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض، غير القرية التي مسخوا قردة، ألم تر أن الله يقول: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى }  .

ورواه ابن أبي حاتم، من حديث عوف بن أبي جَميلة  الأعرابي، بنحوه. وهكذا رواه أبو بكر البزار في مسنده، عن عمرو بن علي الفلاس، عن يحيى القَطَّان، عن عوف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد موقوفًا  . ثم رواه عن نصر بن علي، عن عبد الأعلى، عن عوف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد -رفعه  إلى النبي صلى الله عليه وسلم -قال: “ما أهلكَ الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض إلا قبل موسى”، ثم قرأ: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى } . [تفسير ابن كثير (6/ 239)].

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ” إن الله – سبحانه وتعالى – كانت سنته قبل إنزال التوراة، إذا كذب نبي من الأنبياء ينتقم الله من أعدائه بعذاب من عنده، كما أهلك قوم نوح بالغرق، وقوم هود بالريح الصرصر، وقوم صالح بالصيحة، وقوم شعيب بالظلة، وقوم لوط بالحاصب، وقوم فرعون بالغرق قال تعالى:{ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون} [القصص: 43] .

فلما أنزل التوراة، أمر أهل الكتاب بالجهاد، فمنهم من نكل ومنهم من أطاع.وصار المقصود بالرسالة لا يحصل إلا بالعلم والقدرة.[ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (5/ 101)].

ويقول الشيخ الشعراوي في تفسير الآية ذاتها : ” يعني: أن موسى – عليه السلام – جاء بَرْزخاً وواسطة بين رسل كذَّبتهم أممهم، فأخذهم الله بالعذاب، ولم يقاتل الرسل قبل موسى، إنما كان الرسول منهم يُبلِّغ الرسالة ويُظهر الحجة، وكانوا هم يقترحون الآيات، فإنْ أجابهم الله وكذَّبوا أوقع الله بهم العذاب.

كما قال سبحانه:{فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] .

وهذا كله عذاب استئصال، لا يُبقي من المكذبين أحداً.

ثم جاء موسى – عليه السلام – برزخاً بين عذاب الاستئصال من الله تعالى للمكذِّبين دون تدخُّل من الرسل في مسألة العذاب، وبين رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حيث أمره الله بقتال الكفار والمكذّبين دون أن ينزل بهم عذاب الاستئصال، ذلك لأن رسالته عامة في الزمان وفي المكان إلى أن تقوم الساعة، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مأمون على حياة الخَلْق أجمعين.

لذلك يقول تعالى في مسألة القتال في عهد موسى عليه السلام: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى … } [البقرة: 246] إنما في عهده وعصره {إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 246] .

وقد ورد أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال «ما عذَّب الله قوماً ولا قرناً، ولا أمة، ولا أهلَ قرية منذ أنزل الله التوراة على موسى» .

كأن عذاب الاستئصال انتهى بنزول التوراة، ولم يستثْن من ذلك إلا قرية واحدة هي (أيلة) التي بين مدين والأردن.

والحق – تبارك وتعالى – يعطينا أول تجربة لمهمة، وتدخّل الرسل في قصة موسى عليه السلام. [تفسير الشعراوي (18/ 10936)]

 

والمراد : أن انتظار المؤمنين أن يُعاقب الله لهم الأمم المكذبة بدينه، والتي تجمع إلى ذلك ظلمهم وسومهم سوء العذاب، انتظار في غير موضعه، وطمع في غير مطمع، فقد شرع الله عز وجل الجهاد منذ أمد طويل في منتصف فترة نبوة سيدنا موسى، وصار عقاب الله الأمم المكذبة الظالمة يكون بأيدي المسلمين.

الانتقام الجزئي

لكن إهلاك الظالمين جزئيا لم يتوقف، فهناك قوانين للتدخل الإله ، مودعة في قوانين ثابتة، مثل قانون البطر، وقانون المترفين والأكابر، وسنة تدافع الأمم.

ربما يكون بعضها في صورة مؤازرة للمظلومين إذا قاموا بالجهاد والمقاومة، وربما يكون بعضها تدخلا إلهيا مباشرة دون أن تكون هناك مقاومة أو جهاد من المظلومين.

فلماذا يتصور البعض أن الله لا ينتقم من الظالمين حتى على هذا النحو الجزئي؟

في رأيي أن ذلك يعود إلى عدة أسباب، نذكرها تباعا في مقالات قادمة إن شاء الله.