التجربة الآسيوية في مجال التكامل الاقتصادي تعتبر من أنجح التجارب المعاصرة وأكثرها ثراء ، فقد حققت هذه الدول عبر استراتيجيات التكامل الاقتصادي الفعال ، مصالح اقتصادية كبيرة استطاعت من خلالها بناء وتطوير منظومات صناعية قوية و أسواق ذات قدرة كبيرة على جذب الاستثمارات. وقد انعكس نجاح التجربة الآسيوية بشكل إيجابي على طبقات المجتمع في هذه الدول ، حيث توسعت الطبقة المتوسطة وزادت انتاجية الفرد، وعرف القطاع الصناعي تحولا كبيرا ، وقويت القدرة التنافسية لهذه الاقتصادات ، فيما حققت مؤشرات التنمية نجاحا مهما مقارنة بالدول في القارات الأخرى.

 

استمرارية هذا النهج و حرص هذه الدول على المحافظة على درجة عالية من التكامل الاقتصادي جعل الاقتصاديات الآسيوية تحقق الريادة وتتربع كأكبر اقتصادات العالم خلال العام 2020، فقد أعلن تقرير صادر عن منتدى الاقتصاد العالمي والذي يتخذ من مدينة جنيفا السويسرية مقرا له أن الاقتصاديات الآسيوية ستكون أكبر من اقتصادات بقية العالم مجتمعة خلال 2020 ، ويشير التقرير الذي أعده وانغ هويو رئيس ومؤسس مركز الأبحاث الصيني ذائع الصيت والمعروف Center for China and Globalization أن صعود الاقتصاديات الآسيوية على هذا النحو الملفت سيكون من أهم الأحداث الاقتصادية في عصرنا الحالي.  تسلط هذه المقالة الضوء على دور التكامل الاقتصادي الفعال للدول الآسيوية وكيف ساهم هذا التكامل في تحقيق هذا الانجاز التاريخي.

السعي نحو المزيد من التكامل

تشير أغلب التحليلات الاقتصادية إلى أن آسيا ستكون قاطرة الاقتصاد العالمي خلال المرحلة المقبلة ، وهذا ما يحتم على الآسيويين الإتجاه نحو المزيد من العمل المشترك والتكامل الفعال خدمة لتحقيق أهداف ريادة الاقتصاد العالمي، وعلى الرغم مما تواجهه الدول الآسيوية من تحديات ديمغرافية ، وتاريخية و جيوسياسية إلا أن هذه الدول استطاعت عبر مجموعات التكامل الاقتصادي أن تتغلب على أغلب هذه العقبات وتحولت خلافاتها وتناقضاتها إلى عوامل نجاح تسهم في تحقيق أهداف هذه الدول الاقتصادية والاجتماعة والسياسية والأمنية،  وينعكس نجاح الآسيويين في رؤيتهم للتكامل الاقتصادي في تطوير وازدهار العلاقات بين الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية ، وكذلك انعكس نجاح هذه الرؤية في القمة الثلاثية بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية هذا بالإضافة إلى برامج التعاون الإقليمي بين دول المنطقة، هذه البرامج صممت خصيصا لتحقيق أهداف التكامل الاقتصادي بين دول المنطقة، من ضمن هذه التكتلات منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي  (APEC) – منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) – رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASIAN)  – لعبت هذه التكتلات الإقليمة دورا مهما في تثبيت وتوطيد علاقة التكامل بين الدول الآسيوية.

كسر القيود التجارية و تحرير السوق

 على الرغم من تبني العالم لفكرة كسر القيود التجارية والجدل الذي تحدثه هذه الاستراتيجية إلا أن الدول الآسيوية استطاعت تذليل العقبات التى تعيق حركة التجارة وتحرير السوق ، وحقق في هذا المضار نتائج مبهرة من خلال تطوير آليات التكامل الاقتصادي من خلال التجارة ، الاستثمار والسياحة. وقد حققت الدول الآسيوية العديد من أهداف تحرير التجارة ليس عبر اتفاقيات ومذكرات تفاهم كما حدث في أوربا  أمريكا الشمالية بل من خلال كسر القيود على حركة الناس والبضائع وتسهيل التنقل بين دول المنطقة هذا التوجه كان توجها شعبيا قبل أن يكون حكوميا،  هنا  نلاحظ أن الإرادة الشعبية ساهمت بقوة في تحقيق أهداف التكامل  وشكلت هذه الإرادة عنصر تحفيز للحكومات من أجل العمل أكثر ضمن المحيط الإقليمي لتحقيق تكامل أكبر بين الدول.

شراكات استراتيجية إقليمية ودولية

تحمل الدول الآسيوية اليوم على عاتقها مسؤولية تحرير التجارة الدولية بعد أن تراجعت الولايات المتحدة الأمريكية عن هذا الهدف من خلال فرضها للقيود على الصادرات الصينية ضمن ما يعرف ب: الحرب التجارية الأمريكية – الصينية. وهكذا سعت الدول الآسيوية إلى خلق شراكات استراتيجية على المستوى الإقليمي والدولي وتسعى من خلال هذه الشراكات إلى دعم التبادل التجاري وجعله أكثر مرونة وفاعلية ، في هذا الإطار أطلقت اتفاقية الشراكة الشاملة عبر المحيط الهادي والمعروفة إختصارا ب : (TPP)  حيث تقود الدول الآسيوية هذه الاتفاقية التى دخلت طور التطبيق هذا العام ، وبالرغم من مما تسهم به هذه الاتفاقية في تحقيق أهداف التكامل الاقتصادي بين هذه الدول  ، فإن هذه الاتفاقية يمكن أيضا أن تكون إطارا  استرايجيا مرنا للتبادل التجاري بين الاقتصادات المتقدمة. في مجال الشراكة الإقليمية تم الإعلان اتفاقية الشراكة الشاملة الإقليمية والمعروفة ب :   (RCEP)  وستسهم هذه الاتفاقية في خلق إطار استراتيجي يسمح للبلدان النامية بالمشاركة في التجارة الحرة.

هكذا استطاعت الدول الآسيوية خلق إطار شراكة استراتيجي ، عبر اتفاقيات ومذكرات تفاهم لتسهم هذه الاتفاقيات في دفع عجلة التنمية الاقتصادية في هذه البلدان عبر التكامل الاقتصادي القائم على التبادل التجاري وتبادل الخبرات والتجارب في مجال التنمية.

تقوم فلسفة التكامل الاقتصادي الآسيوي على قاعدة مفادها ، أن يكون هناك مجتمع آسيوي حريص التكامل بين دوله المتقدمة والنامية ورعاية هذا التكامل وتطويره لكونه أحد الأسس الاستراتيجية للبقاء في عالم شديد التنافس قائم على التحالفات و التكتلات الاستراتيجية، كما ترتكز هذه الفلسفة على خلق بيئة مفتوحة أمام مختلف النظم الاقتصادية و دعم سياسات الابتكار وتبادل المعلومات ، وتسهيل نقل التكنلوجيا وتحرير السوق ، وقد حققت الدول الآسيوية نجاحات مميزة في هذا الإطار وخلقت حلول فعالة لما يواجهها من مشاكل ، وبذلك تقدم هذه الدول  نماذج مفيدة لبقية دول العالم حول استراتيجيات التكامل الاقتصادي الفعال والمنضبط.