قد يتبدى للمتأمل أول وهلة أن المحاولات المتكررة للأمم في الوصول لحالة النهضة تضيع هدرا إذا لم تهتد طريق الصواب في أول وهلاتها.

وقد يكون لهذا الرأي مستند من الوجاهة، خاصة أنه تشهد له حالات اليأس وتبدل العزائم التي تصيب الأمم في هذه الظروف ، لكن هذا الأمر ليس ضربة لازب، بل إن الغالب أنه حتى في حالة تملك اليأس والوقوف دون حد النهوض المطلوب فإن الجهود المبذولة تثمر درجة معينة من مفارقة الدرك الحضاري بقدر الجهد المبذول.

أما الأغلب فهو أن الأمم تراكم في محاولاتها هذه خبرة كبيرة في طرق النهوض إذا وعت بها كما ينبغي فإنه تتأهل مباشرة للعبور إلى خط الارتقاء الذي إن عبرته أمة لم يزل شأنها في علو مثل ما عبر عنه القائد العربي “كل قوم في بدء أمرهم شجعان”.

وإذا أخذنا الأمة الإسلامية نموذجا فإننا نقول إن النهوض الحضاري يتطلب عادة أمران: أحدهما هو امتلاك الخبرة الحضارية الموجودة في ذلك العصر وحذقها، بدرجة تؤهل الأمة على تبيئتها في مجالها العمراني والثقافي، والإسهام الإبداعي فيها، وهذا ما يسميه المفكر الحضاري مالك بن نبي “الفكر الفني الذي يعجل حركة التاريخ”، وهو الذي عبر عنه العنوان بالإجراءات، وهو أمر قصدنا إليه قصدا، لأن امتزاج العلوم الإدراية مع الفكر أصبح ضروريا للقضاء على الفصام النكد بين هذين الجناحين اللذين لا تحلق الأمم الناهضة في سماء الحضارة إلا بهما.

أما الأمر الثاني فهو امتلاك الهوية الثقافية الحاضة على النهوض، وليس الهوية المتقوقعة ولا ذوبان الذات، وهذه الهوية تتميز بقيامها على عنصري الثقة بالذات والثقة بالدور (أي القدرة على الإنجاز في الحاضر).

بعد شرح هذين العنصرين: لنر الآن ما تمتلكه الأمة منهما، حتى نقدر قدر التراكم الإيجابي الذي قطعته في سبيل تحقيق النهضة، وأن كل الجهود التي مرت بها من مختلف فاعليها لم تكن أبدا هدرا، بل كانت رصيدا  هائلا من التجارب الناجحة والفاشلة يستوي في النهاية في كونه عبرة حضارية توضح السبل المناسبة وتلك التي لا تناسب.

1-لو بدأنا بامتلاك الهوية النهضوية أو ما عبرنا عنه باختمار الحوافز الثقافية، لوجدنا أن الحالة السائدة الآن تحيل بوضوح إلى مجاوزة الأمة لمتاهات الهويات المعيقة، ليس فقط في عناوينها الكبرى مثل التبعية للغرب أو الارتهان للماضي، كما كان سائدا في بدايات طرح السؤال النهضوي، وإنما في أسئلة أكثر تحديدا من قبيل: ماذا نأخذ من التراث وماذا نترك؟ (النظم الإدارية مثلا) ماذا نأخذ من الغرب وماذا نترك؟ (الأخلاق مثلا) بل وفي أسئلة أخرى أكثر تفصيلا: ما هي الأمور التي يمكننا أخذها من التراث، ولكن قد تعيق نهوضنا؟ وما هي الأمور التي يمكننا أخذها من الغرب، ولكنها مجرد قشور تحول بيينا وبين الإبداع؟ (مثل السلوكيات الاستهلاكية).

وعبرت بالحالة السائدة لأن التحسن في إدراك الهوية النهضوية أصبح حالة سائدة، لا تختص بالمفكرين والفلاسفة، وإنما تقتسمها الأمة بدرجات من الوعي تتفاوت، ولكنها تتناسب  مع دور كل فئات الأمة.

2-أما الأساليب العملية للنهوض  فالتجارب التي راكمت الامة منها خلال العقود لم تذهب سدى، وإنما اكتسبت منها معرفة بالخطأ عظيمة الفائدة، تماما كما هو الحال بالنسبة للأفراد (كما يقال عن أديسون مخترع المصباح الكهربائي) فضلا عن أنها مرنتها على وسائل العصر، ففي المجال السياسي مثلا جربت الأمة أساليب الانتظام من حزب واحد وتعددية حزبية، وجربت وسائل التغيير من انقلابات وثورات شعبية وانتخابات متحكم فيها، وفي المجال الاقتصادي جربت الاشتراكية واقتصاد السوق، هذا فضلا عن احتكاك قادة ونخب الأمة بأساليب الإدارة ومران العمل المجتمعي، والناظر لحال الأحزاب الإسلامية مثلا –بوصفها أطول الكيانات السياسية في الأمة عمرا- يرى الفرق بين خبرات أفرادها في السياسة الآن وخبراتهم فيها في الستينات مثلا، كما أن الناظر إلى رجال الأعمال في الأمة يرى قدراتهم في التسيير بعيدة في التميز عما كان عليه أوائل رجال الأعمال.

على أن أهم ما في التجربة التراكمية للإصلاح في الأمة، ليس فقط امتلاك خبرات عملية و ثقافة سليمة؛ بل اقتناع القطاعات المؤثرة في الأمة إن النهضة الحقيقية لا تقوم إلا بهما معا، وهي قناعة لو انطلقت بها الامة من أول يوم لكانت اختصرت الكثير من الجهد والوقت، ولكن قضى الله أن البشر خطاؤون، ومن خطأهم يتعلمون.