مما اشتهر عن أمة العرب أن ثقافتها شفوية وأنها لا تعرف الكتابة أو تعرفها في القليل النادر، ومما أثر عنهم  كتابة القصائد الشعرية التي بلغت الذروة في البيان وتكريما لها ولقائليها علقوها في جوف الكعبة، وكتبوا وثيقة يسجلون فيها مقاطعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه وعلقوها كذلك في جوف الكعبة، ولما نزل القرآن ابتدأ بقوله تعالى (اقرأ)، والقراءة تقتضي مكتوبا فازدهرت الكتابة، واحتلت مكانتها اللائقة بها في أمة مطلوب منها أن تقود العالم لما فيه الخير والرشاد، ولحرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن تنتشر الكتابة كان فداء من لم يستطع دفع الفداء من أسارى المشركين في غزوة بدر أن يعلم عشرة من صبيان المسلمين الكتابة.

تعد الكتابة أحد الوسائل التي استخدمها الإنسان لتوثيق الحقوق وأحداث التاريخ وأفكار البشر وتجاربهم بطريقة يمكن الاحتجاج بها.  

وأوجه الانتفاع من التوثيق فوق ما ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان القدرة على تطوير الأشياء والأفكار، فإذا عدنا إلى التجارب الإنسانية الناجحة أو الفاشلة، واطلعنا عليها بتؤدة وإنصاف، أمكننا أن نميز أوجه النجاح وأوجه القصور، نميز أوجه النجاح  فننميها ونميز أوجه القصور وأسباب الوقوع فيها، فنتلافاها أولا ونعالجها ثانيا، ولولا تدوين التجارب العلمية التي لم توصل إلى المقصود من إجرائها لبقي العلماء يدورون في حلقة مفرغة يكررون ما وقع فيه من سبقهم من أخطاء لتضيع آلاف الساعات والأيام وعشرات الجهود هدرا بينما يوفر علينا توثيق هذه التجارب كل هذه الخسائر .

إن تدوين الأفكار وتاريخها بالنسبة للكاتب يشكل رسما بيانيا للحالة العقلية والنفسية والاجتماعية له ومجتمعه أو رؤيته لمجتمعه، ولا يعجز المؤرخ المنصف العالم بسنن التاريخ وقواعده عن المقارنة بين هذه التوثيقات ليستخرج منها الصحيح أو الأقرب إلى الحق.

إننا نحتاج إلى التدوين ليس لتوثيق الحقوق فقط بل لتوثيق أفكارنا ومشاعرنا كذلك، وكم من فكرة كانت رائعة لكن صاحبها غفل عن توثيقها فهربت منه ولم يستطع تدوينها ولا الانتفاع منها، فبعض الأفكار كالبرق الخاطف وكان أحد كبار الأساتذة يوصي تلاميذه باصطحاب القلم ليكتبوا الأفكار التي تأتيهم على أي شيء حتى لو كان حائطا، وذلك قبل أن تنشر آلات التسجيل الصوتي، إن المعرفة هي القوة إذا سجلت ثم أحسن فهمها وتحقيق أقصى استفادة منها.  

ولا يمكن لعاقل أن يتخذ قرارا صائبا يتسم بالرشد إلا بعد أن يحيط علما بجوانب الموضوع وذلك من خلال الاطلاع على الوثائق المقروءة أو المسموعة أو المرئية.

وقد دعانا الله تعالى في كتابه الكريم إلى التوثيق والاستيثاق مما نسمع  أو نرى فكان قوله تعالى: (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا)، وقوله عز وجل: (وأشهدوا ذوي عدل منكم)، وحذر من التحريف، (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه)، ووثق أحداثا تختص بالأفراد والمجتمعات من مثل الآيات التي تناولت قصة صاحب الجنتين، وقصة أصحاب الأخدود، ووقائع من  غزوات النبي  صلى الله عليه وسلم، ووثقت السنة  في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كتابه صلى الله عليه وسلم لأبي شاة، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم الكتب إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام، وكتب التحالفات التي عقدها مع رؤساء القبائل داخل المدينة وخارجها.

بل طلب النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن يكتب لهم كتابا وذلك قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أن توثيق السنة كتابة كان قائما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولو بطريقة جزئية، أما الأغلب فحفظه المسلمون وتناقلوه فيما بينهم من خلال نقل الثقة عن الثقة، وكل راو يعتبر شاهدا على ما سمعه وأمينا عليه، وللتحقق من أمانته وحفظه والتي يسميها العلماء العدالة والضبط أنشأ علم الجرح والتعديل لينفي عن السنة المطهرة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

  وتعد العناية بأحاديث غزوات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – البداية التوثيقية الحديثية للسيرة النبوية حيث تعود إلى القرن الأول، عهد الصحابة والتابعين، الذين جمعوا رواياتها ومن ثم أفردوا لها كتباً مستقلة، وتذكر هذه الكتب أسماء عدد من التابعين كانوا من أبرز من اعتنى بأحاديث المغازي جمعاً ورواية، عروة بن الزبير :ت (94هـ): عالم المدينة، أحد الفقهاء السبعة، حدّث عن أبيه، وعن خالته أم المؤمنين عائشة، وأمه أسماء بنت أبي بكر، وهو من رجال الكتب الستة وكان صاحب منهج علمي دقيق ، يعتمد على التوثيق والتدقيق .

فكان يكتب كل رواية يسمعها، ثم يملي على تلامذته المرويات، ثم يعارضها لهم بعد الكتابة على الأصل الذي نسخوا منه، لذا أصبح قدوة يحتذى في كتابة السير، فقلّده الزهري، وابن إسحاق، وموسى بن عقبة، وهم أئمة هذا الفن.

ونحن اليوم لا نملك لعروة كتاباً مستقلاً في المغازي، لكننا نجد مادته مبثوثة في روايات كثيرة حوتها كتب الحديث، ويكفي أن ننظر مثالاً على ذلك مارواه الإمام البخاري في صحيحه عن عروة في كتاب المغازي الذي يضم تسعين باباً، فقد روى في هذه الأبواب التسعين خمساً وأربعين حديثاً ويبدو أن عروة هو أول من جمع روايات عدة في المغازي، وبين أسانيدها أولاً، ثم مزج متونها ليؤلف منها حدثاً كاملاً[1]، وتوالى توثيق السنة  فيما بعد وانتقل التوثيق من السنة إلى حياة المسلمين فكانت الدواوين التي أنشأها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولعلها امتداد لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحصاء من تلفظ بالإسلام.

 ووثقت أحداث التاريخ إلا أن آفة تدوين التاريخ أن تسجيل الحدث أحيانا يختلط عند البعض بتسجيل موقفه أو رأيه ويظهران كأنهما شيء، واحد والإنصاف والأمانة يقتضيان الفصل، فالرأي والرؤية شخصية تقبل الجدل حولها وهي متاحة لمن يؤرخ للحدث أو من يقرؤه من بعد، أما الحقائق فينبغي أن تسجل كما هي.

ومن آفات التدوين التاريخي أن المنتصر هو الذي يكتب التاريخ، ومن ثم يصف مخالفيه بأبشع الأوصاف وينسب لنفسه كل مجد وإحسان، ولا يغيب عن المحقق الكذب من الصدق، والحق من الباطل، وذلك من خلال ابتغاء الحق أولا والمقارنة بين النصوص وعدم قبول شهادة العدو على عدوه والأخذ ممن عاصر، وكم تسببت الأباطيل التاريخية في إشعال نيران العداوة والبغضاء بين الناس.

ثم أخذ التوثيق منحى آخر فبعد أن كانت الكتابة هي وسيلة التوثيق الأولى انضم إليها في العصر الحديث الصورة الثابتة والمتحركة والصوت، وبعد أن كان يقوم بالتوثيق  المتخصص فقط سواء كان صحفيا أو مثقفا أو أديبا أو مؤرخا شاركه بعد انتشار كاميرات الهواتف، كل من يملك كاميرا لينضم إلى سلسلة الموثقين فيما يعرف بمذيع الشارع  الذي يوثق لحظة ما، لحدث مهم أو تافه، وأصبح لهذا التوثيق أهميته ورواجه فبعض هذه المقاطع تحصد ملايين المشاهدات، لكن بعد دخول التقنيات الحديثه في التصوير والمونتاج هل تصدق مقولة الصورة لا تكذب أم أن الخداع والتضليل قد يصاحب الصورة الثابتة والمتحركة من خلال استخدام تقنيات أصبحت متاحة لدى الكثيرين وبشكل مجاني، لذلك لا يمكن الاعتماد على المادة الفلمية إلا بعد التأكد من صدقها  وعدم فبركتها كما يقال.  

وفي التوثيق الشخصي للأحداث أحيانا نحرم أنفسنا من المشاركة في الحدث عندما ننشغل بتوثيقه عبر الكاميرا، فنراه بعد من خلال الشاشة بينما كان بإمكاننا أن نراه بأعيننا، ونعيش كل لحظة فيه ونسجله في ذاكرتنا بكل تفاصيله ودقائقه التي تعجز الكاميرات عن التقاطها.

والحق يقال أن التزييف عمل إنساني قديم موجود في الحضارة الانسانية.

عبر عنه قول القائل:”الدنيا إذا أقبلت على إنسان أعارته محاسن غيره وإذا أدبرت عن إنسان سلبته محاسن نفسه”.

اتخذ تحريف الوثائق والحقائق صورا عدة  منها اقتطاع النصوص من سياقها وأوضح مثالا على ذلك قول الشاعر الماجن:

ما قال ربك ويل للأولى سكروا    ولكن قال ويل للمصلين

ومن صور التحريف إيهام المستمع أو المشاهد بمعان يراد لهم الاقتناع بها فتؤول التصرفات والأقوال تأويلا يخدم غرضا ما وهو تأويل باطل على كل حال لكن كثرة المأولين تجعله محتملا عند البعض وقابلا للنقاش عند آخرين ومقبولا  عند البعض الثالث.

وللأسف أصبح التحريف صنعة كبيرة مع اشتداد المعارك التي تدور على مختلف الساحات الثقافية والاجتماعية والسياسية.

إن حاجتنا للتوثيق متزايدة لا تتوقف عند ما يتصل بالمال والحقوق فقط بل تتعداها إلى التجارب الناجحة في العمل الخيري ومشاعر الناس تجاه حدث ما والسيرة الذاتية لعظمائنا الذين خاضوا رحلات كفاح وهناك من حظي بما لا يستحقه من تقدير  لكن المقصود هو توثيق حياة البسطاء من الناس الذين صبروا وصابروا حتى حققوا أمانيهم  لعل في هذا التوثيق ما يحمل أصحاب الظروف المتشابهة على الصبر والسعي وتجاوز الأزمات.


[1] التوثيق الحديثي لغزوة بدر (ص: 1) والثاني موسى بن عقبة : توفي(141هـ) والثالث محمد بن إسحاق بن يسار توفي(151هـ)