• – بدراسة الآثار الإسلامية نقرأ الماضي ونفسر حركة العمران فيه
  • – “علم العمران” هو علم الحياة الدنيا في الحضارة الإسلامية
  • ابن خلدون كتب في “علم العمران” جانبًا منه ولم يفرد له “المقدمة”
  • – يرتبط “علم العمران” فكريًا بـ”السياسة الشرعية” و”فقه العمارة”

ما هو “علم العمران”؟ وما غايته؟ وهل صحيح أن الإنسان خُلق للعبادة والاهتمام بالآخرة فحسب؟ وهل كتب علماؤنا قديمًا في “علم العمران”؟ وأين تقف إسهامات ابن خلدون في مسيرة هذا العلم؟ وكيف نستفيد من “علم العمران” في حياتنا المعاصرة؟.. هذه الأسئلة وغيرها نتعرف على إجاباتها من الدكتور خالد عزب، الذي أصدر مؤخرًا كتابه (العمران.. فلسفة الحياة في الحضارة الإسلامية)، عن الدار المصرية اللبنانية، بالقاهرة.

والدكتور خالد عزب، مدير المشروعات السابق بمكتبة الإسكندرية، وله العديد من الكتب والدراسات في الآثار الإسلامية؛ منها: (الآثار- شفرة الماضي.. اللغز والحل). (وعاء المعرفة- من الحجر إلى النشر الفوري). (الحجر والصولجان- السياسة والعمارة الإسلامية). (الفسطاط- النشأة، الازدهار، الانحسار). (العمارة الإسلامية من الصين إلى الأندلس). (فقه العمران- الدولة والمجتمع والعمارة في حضارة المسلمين).. فإلى الحوار:

كيف نشأت فكرة كتابكم (العمران.. فلسفة الحياة في العمارة الإسلامية)؟

في الثمانينيات كان هناك جدل دائر بين طلبة الجامعة، حول أن علم الآثار دراسته حرام شرعًا، حتى قام بعض الطلبة بالتحويل من كلية الآثار إلى كليات أخرى.. وهو ما دفعني للبحث والتساؤل: لماذا هو حرام شرعًا من وجهة نظر البعض؟ فوجدت أن هناك إشكاليات علمية وفلسفية تحتاج إلى حل.

أول هذه الإشكاليات أن علم الآثار بمفهومه المعاصر نشأ على يد الغربيين، وبالتالي هو حَمَل نظرتهم في تلك الفترة لهذا العلم، ولم يجرِ بناء نظرية عربية في فهم الماضي وتفسيره طبقًا للسياقات الزمنية والفكرية الخاصة بها.. بينما الغوص في كتب التراث يكشف عن أن علم الآثار كان موجودًا لدى العرب؛ حتى إن المقريزي كتب كتابه (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار)، متقدمًا في كتابه وتفسيره وتحليله على كل المناهج الغربية.

كتاب فلسفة الحياة في الحضارة الإسلامية
غلاف كتاب “العمران..فلسفة الحياة في الحضارة الإسلامية”

الآن، في وقتنا الراهن، دراسات الأثرية الإسلامية في الغرب، أفضل منها في بلادنا؛ ويعود الفضل في ذلك إلى تزاوج علم الآثار مع علم الأنثروبولوجيا.

أما هذا الكتاب فقد أخذ مني ما يقرب من خمسة وعشرين عامًا، لكي تنضج الفكرة ويخرج إلى النور، خاصة بعد أن أنجزت كتابي عن (فقه العمران)، والذي انتشر صيته. فقد رأيت أنه لابد من مقدمة لفقه العمران تَشرح ما هو علم العمران، وتُبينه للناس بمعناه الحقيقي الذي وُجد به منذ القرون المبكرة في الإسلام، وكما صاغه المفكرون والفلاسفة والفقهاء في بطون الكتب، وكان شعار علم العمران في هذه الكتب: أنه العلم الذي يسعى لتحقيق سعادة الإنسان في الحياة الدنيا.

وثمة علاقة وثيقة بين الآثار وعلم العمران؛ لأنه من خلال دراسة الآثار المادية الباقية من الحضارة الإسلامية، نستطيع أن نقرأ الماضي ونفسِّر حركة العمران في هذه الحضارة، ونستفيد من ذلك في واقعنا.

بالنسبة لتعريف علم العمران وغايته.. ماذا نقول؟

علم العمران هو علم الحياة الدنيا في الحضارة الإسلامية؛ فالله سبحانه وتعالى سخر للإنسان الأرض وما عليها لعمارة الأرض، وهيأ له الأرض بكل متطلبات هذه الحياة: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} (فصلت: 10)، {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} (الأعراف: 10).

وأما غاية علم العمران فهي تحقيق سعادة الإنسان في الحياة الدنيا. وفي هذا العلم نرى الإنسانَ هو محور الكون، الذي عليه أن يقوم بخلافة الله في الأرض بعمارتها: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30)، {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61). أي أن الخلافة هنا هي عمارة الأرض، وليست ممارسة سلطة من بعض البشر على الآخرين.

ما أهم المؤلفات في علم العمران قديمًا؟

علم العمران مفارق لنماذج الدراسات الإسلامية التقليدية؛ فقد نشأ في الحضارة الإسلامية منذ القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، نشأ بالممارسة وسطرته أقلام في بطون الكتب التراثية، فاستخرجنا ما في بطون هذه الكتب ليكون عونًا لبناء هذا العلم. فأساسات هذا العلم راسخة لكنها مغطاة، فلم ترها البصائر.

وقد تطرق كثيرون في تراثنا إلى علم العمران وما يتصل به، مثل الجاحظ في كتابه (الحيوان)؛ حيث ذكر أن الإنسان لن يقوم بعمران الأرض كفرد بل لابد له من الاجتماع؛ فقال: “اعلم، رحمك الله تعالى، أن حاجة بعض الناس إلى بعض، صفة لازمة في طبائعهم، وخلقة قائمة في جواهرهم، وثابتة لا تزايلهم، ومحيطة بجماعتهم، ومشتملة على أدناهم وأقصاهم. وحاجتهم إلى ما غاب عنهم، مما يعيشهم ويحييهم، ويمسك بأرماقهم، ويصلح بالهم، ويجمع شملهم، وإلى التعاون في درك ذلك والتوازر عليه، كحاجتهم إلى التعاون على معرفة ما يضرهم، والتوازر على ما يحتاجون من الارتفاق بأمورهم التي لم تغب عنهم؛ فحاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد، لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى، واحتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى، معانٍ متضمنة وأسباب متصلة، وحبال منعقدة”.

ومثل الراغب الأصفهاني في كتابه (تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين)؛ حيث شبَّه الذات الإنسانية بالعالَم، وأخذ يعدد ما في الإنسان مما يقابل الوجود الخارجي في العالَم؛ حتى قال: “والملك: العقل، ومنبعه من القلب. والوزير: القوة المفكرة، ومسكنها وسط الدماغ. وصاحب البريد: القوة المتخيلة، ومسكنها مقدم الدماغ. وأصحاب الأخبار: الحواس الخمس، ومسكنها الأعضاء الخمسة”.

كما كتب سعيد بن داده هرمز (رسالة في فضل الحياة الدنيا)، وكتب السيوطي مذكراته تحت عنوان (التحدث بنعمة الله)، أي نعمة الله في الحياة الدنيا؛ وكأنه يرد على من يرى أن الحياة الدنيا ليس بها سعادة يجب أن يدركها الانسان، وأننا نعيش لكي نجني في الأخرة فقط.

ما موقع “مقدمة ابن خلدون” من “علم العمران”؟

ابن خلدون في (المقدمة) كتب في علم العمران جانبًا منه، لكنه لم يكتب هذا العلم مفردًا له ومعرفًا به باستفاضة؛ إذ إن ابن خلدون حار الكثيرون في أمره وأمر مقدمته؛ فمن قال إنها فلسفة التاريخ، أو إنها مؤسِّسة لعلم الاجتماع، ورأى آخرون أن بها بذور الاقتصاد السياسي، حتى رأينا من يقول إن بها لمحة عن الأديان، بل نرى من يذكر أن ما جاء به في اللسانيات يتطابق مع الجديد في هذا العلم.

والحقيقة أن ابن خلدون كان متجاوزًا لعصره، وهو مؤسِّس “الدراسات البينية الإنسانية”؛ وبالتالي جاء كل ما سبق داخلاً في “المقدمة”، بما فيها تعرضه لعلم العمران من منظور محدود هو الاجتماع الإنساني. وهذه عبقرية إدراكه، مع نضج العلوم في عصره، أن هناك شيئًا ما يَجمع هذه العلوم، وحين يجتمع أكثر من علم فيتلاقى- أو يتلاقوا- فينتجا لنا نتائج جديدة تقود إلى تقدم علمي.

ما الأطر الفكرية لـ”علم العمران”؟

ارتبط علم العمران بإطارين حاكمين له من الناحية الفكرية:

الإطار الأول: هو (السياسة الشرعية)، وهى السياسة التي يتبعها الحاكم في المجال العمراني، سواء كانت تتعلق بالأمور السياسية العامة، أو بالعمران مباشرة؛ وكلاهما يترك أثره على العمارة.

الإطار الثانى: هو (فقه العمارة)، والمقصود به مجموعة القواعد التي ترتبت على حركية العمران، نتيجة للاحتكاك بين الأفراد ورغبتهم في العمارة وما ينتج عن ذلك من تساؤلات، يجيب عنها فقهاء المسلمين، مستنبطين أحكامًا فقهية من خلال علم أصول الفقه. ويمتد ذلك إلى فقه المياه في الحضارة الإسلامية. وقد جاءت تساؤلات المسلمين للفقهاء في هذا المجال لرغبتهم في تشييد عمائر تتناسب مع قيمهم وحضارتهم، وتراكمت أحكام الفقهاء بمرور الزمن لتشكل إطارًا قانونيًّا لحركة العمران في المجتمع، يلتزم به الحكام والمحكومون على السواء.

وتمثل رؤية السياسة الشرعية للعمارة أو العمران إطارًا عامًّا حاكمًا يتناول الكليات، وليس له علاقة بالجزئيات، وهو يتداخل مع فقه العمارة في العديد من نقاط التماس، نتيجة لارتكاز فقه العمارة على أسس شرعية وقيم حضارية خاصة بالأمة الإسلامية.

ففقه العمارة الإسلامية لديه كليات، على السياسة الشرعية احترامها، وإن كان القائمون على السياسة يتجاوزون هذه الكليات لاعتمادهم على السلطة في تنفيذ رغابتهم.. فالسياسة تقوم على سلطة الدولة التي تسعى إلى تنفيذها؛ بينما فقه العمارة يقوم على المجتمع الذي يسعى إلى الحفاظ على قواعد فقه العمارة وتنفيذها كما يراها الفقهاء.

وقد حظيت (السياسة الشرعية) بمؤلفات لا حصر لها، كان أبرزها مقدمة ابن خلدون، والتي تعد إلى اليوم أنضج ما كتب في هذا المجال.. بينما لم يحظ (فقه العمارة) في المقابل بمثل هذا الاهتمام.. ومرد ذلك إلى أن فقه العمارة علم تطبيقي ارتبط بالمجتمع ولم يرتبط بالسلطة. وبالتالي كان الجدل الدائر حوله ضمن كتب الفتاوى والنوازل، ولم يستقل بمؤلفات إلا بعدد محدود مقارنة بمؤلفات علم السياسة الشرعية.

إذا جئنا للإطار الأول “السياسة الشرعية”.. فما علاقته بـ”علم العمران”؟

تقوم السياسة على الفاعلية الحركية للحاكم والتي يسعى من خلالها إلى تحقيق مصالح المحكومين، وقد تنبَّه فقهاء السياسة الشرعية إلى ذلك، فذكروا بأن “للسلطان سلوك سياسة، وهى الحزم عندنا، ولا تقف على ما نطق به الشرع”.

وهو الأمر الذي فصله ابن عقيل الحنبلي صاحب التعريف السابق، من خلال إحدى مجادلاته لفقيه شافعي قال: “لا سياسة إلا ما وافق الشرع” فرد عليه: “بأن السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك: لا سياسة إلا ما وافق الشرع: أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح؛ وإن أردت: ما نطق به الشرع، فغلط وتغليط للصحابة”.

كما يترابط معه تعريف ابن نجيم الحنفي في (البحر الرائق): “وظاهر كلامهم هنا أن السياسة: فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يَرِد بها دليلٌ جزئي”.

ومن هذه التعريفات يمكن الوصول إلى مضمون السياسة وجوهرها في النقاط التالية:

– أن شرعية السياسة تستند في حد ذاتها إلى ضرورتها المبدئية، قبل أى معنى لبناء شرعيتها على أساس القبول الفردي أو الجماعي.

– أن العلاقات الإنسانية التي تتناولها السياسة ليست علاقات فردية بقدر ما هي تعبير عن علاقات جماعية: فرد بجماعة وجماعة بجماعة.

– أن السياسة بجوهرها لا تنفصل عن مقصدها وغاياتها، فتصبح غاياتها غايات بوسائل.

فإذا ما حاولنا تطبيق تلك الأسس في رؤية السياسة الشرعية، لأمكننا مجدداً التأكيد على عدة عناصر أساسية تشكل الدلالات الإصطلاحية لمفهوم السياسة الشرعية منها: أن السياسة تقوم على فقه المصالح فيما لا نص فيه؛ فإن أساس السياسة هي المصلحة المعتبرة. وهي فاعلية حركية تستهدف التوافق مع مضمون الشرع. فالسياسة إذن تخضع لرؤية الحاكم لمصلحة الأمة المرتبطة بضوابط شرعية. وفي هذا الإطار نستطيع أن نستقرأ رؤية علماء السياسة الشرعية لدور الحاكم في المجال العمراني.

فالماوردي وضع ضوابط عامة لمواطن الاستقرار، بمعنى أنه لا يمكن اعتبار المكان صالحًا للاستيطان ما لم يتضمن هذه الضوابط التي حددها عند حديثه عن المقصود بالمِصْر، أي المدينة، حيث يذكر أن المقصود بالمصر خمسة أمور:

أحدها: أن يستوطنها أهلها طلبًا للسكون والدعة.

الثاني: حفظ الأموال فيها من استهلاك وإضاعة.

الثالث: صيانة الحريم والحرم من انتهاك ومذلة.

الرابع: التماس ما تدعو إليه الحاجة من متاع وصناعة.

والخامس: التعرض للكسب وطلب المادة.

والمتأمل لهذه الضوابط يجدها صالحة لكل زمان؛ فإنك لا تجد موطنًا صالحًا للاستقرار يخلو من هذه الضوابط الجامعة المانعة؛ لأنها تشمل السكون، وحفظ الأموال، وحفظ الحرمات، والتماس الصناعة والحاجات الأساسية، وأخيرًا طلب الكسب والسعي لطلب مواده. وقد غطى الماوردي، الحياة الاجتماعية، والاقتصادية والأمنية. ولهذا تجده يجزم على أن المكان الذي يخلو من هذه الضوابط لا يصلح لاستقرار الإنسان، كما في قوله: “فإن عدم أحد هذه الأمور الخمسة، فليست من مواطن الاستقرار، وهي منزلة قيعة ودمار”.

وقد حدد علماء السياسة الضوابط الواجب مراعاتها من قبل الحاكم عند اتخاذ المدن والحواضر وإنشائها وفقًا لشروط دقيقة، من هذا ما ذكره ابن خلدون في شروط اختيار مواضع المدن وهي:

– أن تحاط بسور يدفع المضار عنها.

– أن تحتل موضعًا متمنعًا من الأمكنة على هضبة أو على نهر أو باستدارة بحر… إلخ.

– مراعاة الموقع الذي يتمتع بطيب الهواء للسلامة من الأمراض.

– جلب الماء، بأن يكون البلد على نهر أو بإزائه عيون عذبة.

– طيب المراعي، لسائمتهم.

– مراعاة المزارع؛ فان الزروع هي الأقوات.

وماذا عن “علم العمران” والإطار الثاني، أي “العمارة”؟

يقوم الإطار الثاني على تراكم التجربة العمرانية والمعمارية لدى المسلمين وما يواجهها من مشاكل تعرض على الفقهاء، فيطرحون لها حلولاً سرعان ما تكونت منها قواعد عامة، احترمها أهل السلطة لاحترام المجتمع لها، واعتباره إياها قانونًا شرعيًّا، ويفسر هذا الإطار حركية العمران في المدينة الإسلامية وكذلك القواعد التي شيدت وفقها العمائر. وقد سجل الفقهاء قواعد فقه العمارة منذ وقت مبكر؛ فعبد الله بن عبد الحكم، الفقيه المصري (ت214هـ /829م)، له (كتاب البنيان) الذي ورد ذكره في عدد من المصادر الفقهية ولم يعثر على مخطوط منه بعد، ولكنه مؤشر هام مبكر على تبلور “فقه العمارة” في مدينة الفسطاط التي عاش فيها بن عبد الحكم.

وهذا الإطار لم ينل حظه من الدراسة بصورة كافية إلى الآن، وهو ما جعل دراسة المدينة الإسلامية تنقسم إلى نزعتين، أنصار النزعة الأولى: هم من المدرسة الاستشراقية القديمة الذين لم يروا فى المدينة- التي اختلفوا في تسميتهم لها بين إسلامية وعربية وشرقية- إلا سككها الضيقة، وتعدد أزقتها وحارتها الملتوية كالتواء المتاهة، ومساكنها المنغلقة على نفسها.

ولم يروا في المشهد الحضري لهذه المدن إلا مشهدًا مضطربًا فوضويًّا غير منظم، تتداخل فيه كتل سكنية قليلة التهوية بسبب نوافذ دورها المطلة على الداخل؛ فأصحاب هذه النزعة لم يروا في المدينة الإسلامية غير السلبيات، ولم يحاولوا فهم المجتمع وقوانينه وتفكيك العوامل المتداخلة التي أعطت للمدينة مظهرها العام، سواء كانت سياسية أو بيئية أو جغرافية أو اجتماعية أو دينية… إلخ، وبدونها مجتمعة لا يمكن فهم المدينة وعمارتها.

ولذا نشأت النزعة الثانية الأكثر موضوعية، والتي ترى أن المدينة الإسلامية ليست مجرد تجمع فوضوي للأحياء والمساكن، بل أنها تنظيم للمجال الحضري، يأخذ بعين الاعتبار الرغبات والحاجيات الحقيقية للسكان، في انسجام تام مع تركيبة اجتماعية متماسكة. ثم إن ما بدا للبعض أنه غير مرتب، فلعله على عكس ذلك هو نمط من التنظيم الذي يختلف عن التنظيم الهندسي والذي له جماليته الخاصة به.

وهنا نشير إلى أن المدن القديمة التي دخلها المسلمون فاتحين تركوها على حالها وأحدثوا فيها ما يحتاجه الإسلام من بنايات كالمساجد؛ وتعاملهم مع بناياتها القديمة جاء وفقًا لأحكام الشرع، التى قسّمت البنايات إلى:

– البناء الواجب: مثل بناء دور العبادة، وبناء الحصون والأسوار.

– البناء المندوب: كبناء المنائر للأذان، وبناء الأسواق.

– البناء المباح: مثل بناء المساكن والدور.

– البناء المحظور: كبناء دور المنكر كالخمارات، والبناء على المقابر والبناء في أرض الغير. وهذا النوع من الأبنية هو الذي أزاله المسلمون في المدن القديمة.

أما المدن الجديدة، كمدينة الفسطاط على سبيل المثال، فنرى فيها مخططًا عامًّا تحدده السلطة، يقف عند حدود الخطة أو الحي أو الحارة، ولكن فيه طرق تكفي احتياج المسلمين طبقاً لظروف عصر التخطيط ولوسائل المواصلات التي كانت مستخدمة آنذاك.

وكيف تعامل الفقهاء مع ما استلزمه “البنيان” من أحكام؟

اعتمد الفقهاء في تناولهم لأحكام البنيان على آية قرآنية كريمة، وعلى حديث نبوي شريف. أما الآية الكريم فهي قول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199).

وهم يفسرون “العُرف” في الآية- بالنسبة لأحكام البنيان- بما جرى عليه الناس وارتضوه ولم يعترضوا عليه، ما دام لا يتعارض ذلك مع القرآن أو السنة؛ لأن العرف والعادة أصل يُرجع إليه في التنازع إذا لم يكن ثمة أصل يرجع إليه. والعرف في اللغة ضد النكر، وفي الاصطلاح: “ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول”. وهو عبارة عما يتعارفه الناس بينهم. وأما بالنسبة للبيئة العمرانية، فالعرف يحتمل ثلاثة معانٍ:

الأول: هو ما يقصده الفقهاء عند استنباط الأحكام فيما ليس فيه نص، من المسائل العامة التي قد تؤثر في البيئة العمرانية.

والثاني: وهو أكثر تأثيرًا من المعنى السابق على المدينة الإسلامية، وهو إقرار الشريعة لما هو متعارف عليه بين الجيران لتحديد الأملاك، والحقوق. فوضع اليد مثلاً دليل على القرب والاتصال.

والثالث: هو الأنماط البنائية، وهو أكثر الأنواع الثلاثة تأثيرًا في البيئة العمرانية؛ فعندما يتصرف الناس في البناء بطريقة متشابهة نقول بأن هناك عرفًا بنائيًّا، أو نمطًا ما.

وأما الحديث النبوى الشريف، الذي يعتمد عليه الفقهاء في أحكام البنيان، فهو: “لا ضرر ولا ضرار. وهذا الحديث يعد أحد الأحاديث الخمسة التي يقوم عليها الفقة الإسلامي، حتى صار قاعدة فقهية مقررة، واحتلت هذه القاعدة (لا ضرر ولا ضرار) بابًا واسعًا في فقه العمارة الإسلامية، وعليها قامت أحكام لاحصر لها، وأثرت هذه القاعدة على حركية العمران.

وقد ذكر القرطبي أن: “الضرر هو ما لك فيه منفعة وعلى جارك فيه مضرة. وشرح ابن الرامي في كتابه (الإعلان بأحكام البنيان)، أن الضرار ما قصد الإنسان به منفعة نفسه فكان فيه ضرر على غيره، وأن الضرر ما قصد به الإضرار بغيره.

كيف نستفيد من “علم العمران” في حياتنا المعاصرة؟

لا بد من إحياء علم العمران وفقه العمران في حياتنا المعاصرة؛ لأن هذا العلم يدحض النظريات التي تذهب إلى أن الله تعالى خلق الإنسان لعبادته فحسب.. ولو كان الله تعالى قد خلق الإنسان للعبادة فحسب، لكان خَلْقُ الملائكة- الذين يعبدون الله ليلاً ونهارًا- كافيًا في تحقيق العبادة له سبحانه، ولَمَا خلق الإنسان.

ولكن الله تعالى خلق الإنسان لخلافته في الأرض، لعمارة وإحياء الأرض؛ وبالتالي على الإنسان أن يسعى لعمارة الأرض، وهي- أي العمارة- جزءٌ من عبادة الله سبحانه وتعالى، المكلَّف بها الإنسان.. وهذا يحل إشكاليات ضخمة متعلقة بفكرة أن العديد من المفسرين للإسلام ذهبوا إلى أنه دين للآخرة وليس دينًا للدنيا.

لكن، بما أن الإسلام دين للدنيا أيضًا، فهو يحضّ على العمل والكد والسعي في الحياة الدنيا، لتحقيق الرفاهية للإنسان. ولذا، كان أبو حامد الغزالي صريحًا حين ذكر أنه عندما لا يتوافر للإنسان قوت يومه ومسكنه وملبسه، فإنه لن يستطيع عبادة الله. وبالتالي، فهذه من ضروريات الحياة التي يجب أن نعمل على القيام بها.

وهذا كان مدخلَ المسلمين للتفوق في الإنتاج والعمل وإعطاء جودة لكل منتج في الحياة؛ فأصبح (علم العمران) هو الذي أوجد المقاييس والمعايير لكل حرفة وصناعة وعلم في العالم.. فعلينا أن نستعيد ذلك لكي ننهض، ونحقق السعادة للشعوب الإسلامية.