أن يعبر أهل الدار بألوان الطرب عن حال البهجة والسرور التي تصحب حفل زفاف أو عقيقة، فتلك عادة سائرة، سواء روعيت فيها توجيهات الإسلام أو ضجّت بالمخالفات الشرعية. لكن أن يتحول الصيف العربي برمته إلى ملحمة من الأهازيج والطرب المتواصل، برغم ما نعاينه ونعيشه من مآس وأزمات، فذلك وضع لا يحتمله عاقل، وشرود يلهي عن المخاطر الواردة والمحتملة.

تتناسل مهرجانات الطرب والرقص كالفطر في شتى أنحاء الوطن العربي ،حتى صار كل شبر أرضا للبهجة، والفنانون جزءا من العائلة. ويتم تسويق الأمر تحت مسمى الحدث الثقافي، وتعزيز الانفتاح، وتأكيد سلمية شعوب تحمل وصمة الإرهاب، إلى غير ذلك من التبريرات. وإذا كانت الفكرة الأساسية هي الترويح وملء ساعات من الفراغ، والابتعاد عن الهموم التي تولدها القضايا الجادة للعالم، فإن الحقيقة غير ذلك، يصرح إيريك بارنو مؤرخ التلفزيون الأمريكي، إذ أن هناك إيديولوجيا مضمرة لتشكيل آراء الناس، والترويج للوضع الراهن فضلا عن الإفلاس القيمي .

عاش المجتمع العباسي خلال منتصف القرن الثاني الهجري وضعا مماثلا نتيجة الخلطة الإثنية التي أعقبت الفتوحات الإسلامية، والتمركز الشديد لمختلف الأجناس في حواضر الإمبراطورية خاصة بغداد. بالإضافة إلى حالة اليسر التي عرفتها الطبقة الحاكمة ومختلف الفئات المرتبطة بها، مما عزز الإقبال على الملذات الحسية، وتشكُّل ظواهر اجتماعية غير مألوفة بتلك الحدة لدى العنصر العربي. وكانت مجالس الغناء والرقص من بين الظواهر المميزة التي عكست المزاج النفسي والثقافي العام، واكتست بعدا إيديولوجيا يُسهم عبر جملة من السلوكيات والتعبيرات في تثبيت الوضع الراهن، وإلهاء الشعوب عما يجري حولها من اضطراب وتقلبات.

هيمنت طقوس الغناء على كل فئات المجتمع فبرز اهتمام ملحوظ بالصنعة الغنائية. ونشطت سوق الجواري المغنيات فانكمشت الآداب العامة مقابل تطبيع شعبي مع المجون ،ومفردات اللهو وتحريك الغرائز، حيث صار من قواعد الصنعة ألا تكتفي القينة- الجارية المغنية- بالصوت الحسن، بل عليها أن تنكب على دراسة مكملات الغناء من مطارحة ومراودة. وفي كتاب (القيان) أسهب الجاحظ في وصف ألاعيبهن وطرق غوايتهن، ليختم بالقول:” وكيف تسلم القينة من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفة، وإنما تُكتسب الأهواء وتُتعلم الألسن و الأخلاق بالمنشأ، وهي تنشأ من لدن مولدها إلى وفاتها بما يصد عن ذكر الله من لهو الحديث، وصنوف اللعب و الأخانيث، وبين الخُلعاء والمُجّان، ومن لا يُسمَع منه كلمة جد ولا يُرجع منه إلى ثقة ولادين ولا صيانة مروءة”.

ما يود الجاحظ قوله بلغة عصرنا أن الحالة الإبداعية التي سايرت الركب الحضاري آنذاك لم تعتمد فقط على الموهبة والتمكن، بل احتاجت إلى التحلل من قيد الأخلاق حتى تصل رسالة الفن كاملة ! وهي الصورة التي نعاينها اليوم لدى جل أهل الطرب والفن الذين باتت أجسادهم وأقوالهم وأفعالهم رسائل تصدم الحس العام، بدفاعها عن العري والشذوذ والاستهزاء بتعاليم الدين.

سايرت الحالة الغنائية ركب بني العباس إلى أن طار سهم من جيوش التتار المحاصرة لبغداد، فأصاب جارية ترقص بين يدي الخليفة المستعصم. حينها أغلقت دار العرس (1) أبوابها إلى أجل مسمى، مفسحة المجال لنكبة جرت خلالها الدماء في الأزقة والجوامع، وأعادت ترتيب أوراق الأمة من جديد.

ليس العيب في الفن تحديدا وإنما في حالة الإسهال الفني التي تتجاوز مطلب الترويح إلى تغليب منطق الكم، وتبديد الوقت والمال بإغراق الفضاء العام بعدد هائل من الفعاليات الطربية، والأمسيات الغنائية. وإذا كانت وظيفة الفن هي تقديم التنوع وغير المتوقع لجذب الانتباه والحفاظ عليه، فإن للتنوع ضوابطه التي لا تخرج به عن نطاق الذوق السليم، ولا تلحق الضرر بعقل المسلم ووجدانه. أما ما يجري التسويق له اليوم في أغلب التظاهرات الفنية فلا يحيد عن دائرة الإسفاف، والهبوط المشين بالذوق العام، والتأسيس لبعد شهواني يقرن الفن بالرذيلة وتعاطي الممنوعات، وإشباع المتع على حساب مستقبل غير منظور.

إن الطرب والغناء شأنهما اليوم شأن أية سلعة أخرى في المجتمع المعاصر، وبالتالي ينجم عن استهلاكهما المفرط  فقدان القدرة على الإحساس بالمتعة، وربما تضخم مشاعر السخط والحرمان، خاصة حين يغفل الواقفون خلف الكواليس عن تبعات قانون غريشام الشهير: العملة الرديئة تطرد نظيرتها الجيدة من السوق.

يُؤثر عن الشيخ حسن العطار، أحد أعلام الأزهر في القرن الثالث عشر الهجري، أنه كان مولعا بالسماع، واشتهر قوله في أحد مصنفاته: “من لم يتأثر برقيق الأشعار، تُتلى بلسان الأوتار، على شطوط الأنهار، في ظلال الأشجار، فذلك جلف الطبع حمار.” وأغلب الظن أن الإمام لم يعاين رداءة الحناجر في زماننا، والصخب الذي تلوث به أغلب المهرجانات أسماع الخلق، ولو فَعل لكان له رأي آخر في الحمار الذي يثير الغبار، ويهدم بالكلام النابي رقيق الأشعار، فلا يَسعُ سليمَ الذوق إلا الفرار!


(1)  : كناية مغربية عن الموضع الذي لا يكف أهله عن الطرب والغناء صباحَ مساء.