في العام 1906 رسم الفنان التركي “عثمان حمدي بيه” لوحته الشهيرة “مدرب السلاحف” التي تعد أغلى لوحة في تاريخ الفن التركي حيث بيعت بحوالي ثلاثة ملايين ونصف المليون دولار.

تصور اللوحة رجلا كبيرا منحي الظهر يمسك عصاه وهو يدرب السلاحف، وقد تحدث البعض أن اللوحة جاءت نذيرا للدولة العثمانية التي كانت توشك على الانهيار بعد ما يقرب من ستة قرون من الحضور في التاريخ، لذا رسم “عثمان” لوحته ليشير إلى أن الفرصة قد فاتت في الإصلاح، فأني للرجل الكبير أن يبلغ أمله من تعليم السلاحف الصغار؟! فالسلاحف بطيئة الحركة وتحمل على ظهرها درقة عظمية تثقل حركتها، فير أن الأمل هو ما أوجد الحماسة في نفس الشيخ ليمارس دوره حتى وإن لم تظهر النتائج في حياته.

ويبدو أن نبوءة الفنان تحققت، فبعد سنوات عُزل السلطان عبد الحميد الثاني عن الحكم، ووضع تحت الإقامة الجبرية في أحد القصور، ومضت سنوات أخرى ثم ألغيت الخلافة العثمانية، وصارت حاضرة الإسلام في اسطنبول محرومة من سماع الآذان باللغة العربية، لتأتي عقود من الإجداب الديني في اسطنبول، ثم تعود روح الإسلام مرة أخرى إلى تركيا، ويسمع فيها صوت الإسلام عاليا، وكأن حلم “عثمان بيه ” تحقق وتعلمت السلاحف من مدربها رغم غبار السنين الطويلة.

ما علاقة “لوحة السلاحف” بالدعاة والمصلحين؟

هذه اللوحة البديعة توحي بقدرة الأمل الجبار على الاستمرار والتشبث بالحياة، حتى وإن بدا للجميع أن أفق الإصلاح غائب ومستحيل، فالنفوس الكبيرة تصر أن تضع بصمتها في التاريخ، وتبذل جهدها حتى وإن رآه الآخرون حرثا في البحر، فعبء المسؤولية وأمانة الرسالة تفرض على المُصلح أن يؤدى رسالته حتى وإن درب السلاحف الصغيرة وهو إن عمره في غروب، فاليأس لا يتسلل إلى نفوس الدعاة الحقيقيين، فقد يغمض الموت أجفانهم، لكن أرواحهم تبصر انتصار دعوتهم وأفكارهم، فالبذور التي نثروها بالأمس تختبئ في الأرض منتظرة قطرات المطر وحبات الندى، فمن يزرع شجرة اليوم ينام في ظلها في الغد، وطبيعة الأفكار والدعوات العظيمة أنها دائما تسبح ضد التيار السائد لترسم مسارا جديدا لحياة مبهرة، فالطبيعة تهتف أن موتى الأسماك هي من يسبح فقط مع التيار، أما الأحياء فيرفضون أن ترمي بهم الأمواج على الشواطئ موتى أو فرائس سهلة.

 

والقرآن الكريم منذ اللحظة الأولى في نزوله نبه النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، ألا يقنط ولا ييأس وهو يسبح بدعوته عكس تيارات الكفر والشرك في مكة وبقية العالم، وأعطاه الدرس مبكرا في قصة عظيمة هي قصة يونس عليه السلام، فكانت سورة “القلم ” هي ثاني أو ثالث ما نزل من القرآن الكريم، وأمرت النبي محمد ، صلى الله عليه وسلم، بقولها” فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ” (القلم:48)

فيونس عليه السلام بعثه الله تعالى في مدينة نينوى الكبيرة في العراق، والتي جاء وصفها في الكتب السماوية القديمة بالمدنية العظيمة، نظرا لحضارتها الراقية في ظل الآشوريين الذين بنوا فيها المعابد الضخمة ونصبوا فيها الأصنام، وشيدوا فيها القصور الفارهة التي كانت أعجوبة زمانهم، وبلغ علمهم أن غيروا مجرى النهر حتى لا يؤذيهم الفيضان، فكانت “نينوى” مدينة كثيفة السكان جيدة التحضر، وجاء يونس عليه السلام، ورأى كل هذه البهرجة الكبيرة فصدح بصوت الدعوة، وبعد أكثر من ثلاثين عاما من الدعوة، كما تشير كتب التفاسير، يأس من إمكانية إصلاحهم وترك المدينة مهموما حزينا دون أن تأذن له السماء.

وهنا تبدأ القصة، إذ لم يتكلم القرآن عن يونس إلا لحظة خروجه مغاضبا، لينتهي الأمر به في بطن الحوت، الذي يرجح علماء الأحياء أنه الحوت الأزرق الذي يبلغ طوله ما يقرب من الثلاثين مترا ويقترب وزنه من المائة طن، وفي بطن الحوت، وفي عمق البحر تنعدم أي فرصة للنجاة، ويغيب أي أمل في الحياة، ومع ذلك ينجو يونس من بطن الحوت، ليجد قومه البالغ عددهم أكثر مائة ألف قد آمنوا…ليأتي الدرس الكبير أن النجاة تمت في ظل استحالة أسبابها، فلا تتعجب أن يأتي إيمان قومك بلا سبب منك، لذا كان درسا عظيما للنبي، صلى الله عليه وسلم، في بداية الدعوة، في ضرورة أن يطرد اليأس، ويتحلى بالأمل الفسيح.

وهكذا الدعاة والمصلحون الحقيقيون فإنهم يرون الأمل كالمنار حتى وإن كانوا في وسط البحر الهائج، يرون نوره ويبصرون الأمان بهدايته، وإذا آمنوا بذلك صاروا هم أنفسهم منارات، يصلحون ما أنهدم من جدران الروح في أنفس البائسين في هذا العالم، وكما قال جبران خليل “هناك من يتذمر لأن للورد شوكاً، وهناك من يتفاءل لأن فوق الشوك وردة” ، لذا كان الخليفة الخامس عمر بن العزيز رائعا عندما قال:” لو أن الناس كلما استصعبوا أمرا تركوه ما قام للناس دنيا ولا دين” فالدعاة الذين يرون كل شيء صعب ومستحيل هم دعاة وضعت قشرة ذهبية على حديدهم الصدأ لا تلبث أن تتعرى مع أول احتكاك، وما أجمل ما كتبه الأديب أحمد حسن الزيات قائلا “الكروانُ يموتُ فرخهُ في المساءِ، وفي الصباحِ يرقصُ ويصدَح، والشاةُ يُذبحُ حملها في الحظيرة، وفي المروجِ تثغو وتمرح”، فالحيوان لا يعرف اليأس حتى مع ذبح أولاده، بل ينطلق في المروج يأكل ويتكاثر وفي أعماقه البعيدة تشبث عجيب بالحياة..فلماذا ييأس المصلحون بهذه السهولة؟! لذا فلا تخف من الغرق ما دام الحوت في الماء والرب في السماء.