مرَّت بنا منذ أيامٍ ذكرى هجرة النبي عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وفي الهجرة دروس وعِبَر وأبعاد حضارية، فالهجرة النبوية حدث غيَّر مجرى التاريخ، فلولا الهجرة لَما كانت المدينة المنورة، وَلَما كان الفتح الإسلامي للجزيرة العربية ولا لغيرها من دمشق وبغداد وقرطبة … ولا للحضارة الإسلامية بجميع تجلياتها العلمية والعسكرية والفنية والتجارية والأخلاقية…

وسنقف عند بعض هذه الدلالات مُخصِّصين لكل دلالة مقالا صغيرا.

الذي يتابع هجرة النبي عليه الصلاة والسلام يجد أنّها تستند على العمل المادي المرتكز على الخضوع للغيب والمعجزات، وهذا أمر مهم، فقد قامت الهجرة كاملة على كل ما يمكن أنْ يقوم بها الإنسان العادي مع الاعتماد والاتكال على الله تعالى، فقد أخذ النبي عليه الصلاة والسلام بالأسباب المادية وكأنها كلُّ شيء، ثم يتَّجه إلى الله تعالى وكأنَّ الأسباب المادية لاشيء، وأكثر ما تجلَّى ذلك في قول النبي عليه الصلاة والسلام لأبي بكر رضي الله عنه فيما حكاه عنه ربنا في القرآن الكريم { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا (40) } [التوبة: 40].

ذكر البخاري هذه الآية في باب هجرة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه إلى المدينة، وذكر معها حديث أبي بكر رضي الله عنه قال :”  كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، قال: «اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما» [1] .

 يقول النبي لأبي بكر لا تحزن، ويقول له اثنان الله ثالثهما، وكلُّه ثقة برعاية الله تعالى وحفظه له، ولكنه لم يقل ذلك إلا بعد أنْ قام بكل ما يمكن أن يقوم به من يريد الهجرة من الأخذ بالأسباب المادية.

هذه الثنائية الجمع بين المادي والغيبي نلحظها من أوَّل خطوة خطاها النبي عليه الصلاة والسلام في الهجرة، وسار عليها في كل شأن من شؤون حياته.

ابتداءً خرج النبي ليلا متجها إلى جهة غار ثور جنوبا نحو اليمن بخلاف جهة المدينة، يقول المباركفوري (ت:1427ه) :”  ثم غادرا منزل الأخير – منزل أبي بكر- من باب خلفي، ليخرجا من مكة على عجل، وقبل أن يطلع الفجر، ولما كان النبي عليه السلام يعلم أن قريشا ستجدُّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا، فقد سلك الطريق الذي يضاده تماما، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن” ([2]).

الشخص الطبيعي بمعزل عن الوحي لا يخرج نهارا إلا في حالة التحدي، وهذا لم يكن مقصودا له صلى الله عليه وسلم، كما أنه يُستَبعد من الإنسان الطبيعي أن يخرج إلى جهة المدينة من جهة الشمال الشرقي؛ لأنَّ من يطارده سيتوجَّه أولا إلى طريق المدينة تتبُّعا له، ومن هنا خرج النبي إلى جهة اليَمن تعمية على قومه.

ثقة النبي عليه الصلاة والسلام بنصر الله له لاتصل إليها ثقة العالم كله ولو اجتمع، وكان بالإمكان أنْ يخرج النبي نهارا جهارا من وسط القوم من غير أنْ يناله أيُّ أذى، كأنْ تُشل اليد التي تمتد إليه، أو يركب النبي فرسا يعجز أعداؤه عن لحاقه أو… ولكّنَّ النبي أراد أنْ يعلمنا الأخذ بالأسباب وكأنها كلُّ شيء، وهذا هو المنهج الذي سار عليه النبي عليه الصلاة والسلام في كل شأنٍ من شؤون حياته، وهو ذات المنهج الذي حدَّثنا القرآن لِما حصل مع أنبيائه، ولأجل هذا نجد بعض الأنبياء يهاجرون ويجاهدون، يُجرحون ويُقتلون… وما أروع قوله الله تعالى مخاطبا مريم عليها السلام { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) } [مريم: 25]

أليس من الأجدى والأحرى بالمنظور البشري أن يُنزِل الله عليها الرطب من غير مدّ يدٍ !، وما ذا عساها أن تفعل اليد الضعيفة التي تعاني من ألم الولادة مع جذع شجرة النَّخل  التي قد يعجز العشرات من الرجال الأشداء في هزها!، لكَّنه الأخذ بالأسباب المادية مع الاعتماد والاتكال على الله تعالى.

وكان النبي بغنى أن يصحب أبا بكر وأن يخرج ليلا وأن يدخل الغار، فدخوله للغار والاحتماء به من حيث الظاهر هو هروب من قومه خشية اللحاق به، وهو تعليم لنا ليس إلا.

الهجرة نموذج لحياة النبي في الاعتماد على العمل المادي المرتكز على المعجزات

لم تكن المعجزات الآنية أصلا بارزا في حياة النبي عليه ىالصلاة والسلام، ونقصد بالمعجزات الآنية المعجزات التي كانت مؤقتة بوقت محدد وانتهت، وذلك كالإسراء والمعراج ونبع الماء من أصابعه… فقد كان العمل والجد والنشاط والتعامل مع ظواهر الأمور هو الأصل، فالنبي مرض واشتد عليه المرض وتطبّب، وأكل وشرب وجاع، وفرح وغضب، وباع واشترى وارتهن، وعاتبه ربُّه في أكثر من مواطن، واتُّهمت زوجه المصون الطاهرة عائشة رضي الله عنها، وكان بالإمكان أنْ تنزل براءتها مباشرة من غير الخوض في عرضها، وكم هو صعب على المرء الشريف أن يُتَّهم في عرضه فكيف بالنبي… وأُخرِج من قومه، وناصر وجُرِح وقاتل ،فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشُجَّ في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه، ويقول: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله؟»[3]، فأنزل الله عز وجل: {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران: 128]،

ومن المهم جدا أن أن نبين أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام ماكان ينتظر المعجزات وما كان يطلبها بل يستعد في الأخذ بالأسباب وكأنَّها لن تحصل معجزة البتة، والنماذج كثيرة من حياته التي تدل على ذلك وحسبنا موقفه في غزوة بدر، فالنبي استشار قومه وخاصة الأنصار ولبسه لباس الحرب، وعسكر في أدنى ماءٍ من بدر ، ” وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقّد الرجال، وينظّم الصفوف، ويسدي النصائح” [4] حتى إذا قام بما يقوم به البشر من الاستعداد التام لجأ إلى الرحمن طالبا العون والنصر والإمداد، ومن سُنَّة الله تعالى أن لايردّ دعاءً ولايخيب رجاءً فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ” لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاث مائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القِبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض»، فما زال يهتف بربه، مادا يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9] فأمده الله بالملائكة” [5] وحقَّق له النصر وأقر به عينه وأعين المسلمين.

 كل ذلك ليرسم النبي – بتوجيه من الله تعالى -حياة للمسلمين بالاعتماد على الظاهر وكأنه كلُّ شيء مع الاتكال على الله تعالى، وبذلك حقَّق المسلمون نهضة حضارية لاحدود لها، فلم يجلسوا في المدينة وينتظروا النصر من غير عدِّة له، فقد استعدوا للقتال حتى لبسوا الرقاع[6]،  ولم يجلسوا في بيوتهم طلبا للعمل من غير هجرة ومعاناة، فقد رأوا في العمل والعلم… أمورا لابدَّ منها ثم يأتي بعد ذلك الاعتماد على الله تعالى في التوفيق والتيسير.


[1] البخاري، صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، رقم: 3922

([2]) المباركفوري (صفي الرحمن)، الرحيق المختوم، دار الهلال – بيروت، الطبعة: الأولى، ص 148.

[3] مسلم، صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، رقم: 1791.

[4] الغزالي، فقه السيرة للغزالي، ص 232. 

[5] مسلم، صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم صحيح مسلم، رقم: 1763. 

[6] من ذلك غزرو ذات الرقاع، وسُميت بذلك، لأنهم لفوا على أقدامهم الخِرَق، انظر: محمد بن يوسف الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد: 5/ 180.