قد تكون رواية “دون كيشوت” هي التي صنعت “قصة الكاتب سرفانتس، وقد تكون قصة سرفانتس هي التي صنعت رواية “دون كيشوت”. لكن الأكيد أن هذه الرواية التي ألفها الكاتب الأسباني الكبير “ميغيل دي سرفانتس” هي إحدى أعظم الروايات العالمية، إن لم تكن أعظمها وفقًا للزمن الذي كتبت به، ولأنها أدخلت كاتبها في خضم كبار الكتاب، وخلدت اسمه في تاريخ الأدب.

يقول المتابعون والمختصون في الأدب العالمي أن هناك روايتان فقط حصلتا على شهرة فاقت شهرة المؤلف، الأولى هي رواية “ألف ليلة وليلة” التي ضاع اسم مؤلفها واختلف الباحثون في أصلها، والثانية هي “دون كيشوت” والتي رغم أن اسم مؤلفها معلوم إلا أنه غير معروف، لأن روايته سرقت الشهرة منه. ومع ذلك، إذا كانت الفرنسية تُعرف بأنها لغة موليير، والإنجليزية لغة شكسبير، والألمانية لغة غوته..فإن الإسبانية لغة سرفانتس، كيف لا وروايته “دون كيشوت” لا تزال محل اهتمامات ودراسات وأبحاث نقدية بعد أكثر من أربعة قرون على تأليفها، فهي تمثل للكثير من النقاد كأول رواية أوروبية حديثة، وأول عمل مكتمل المعالم كرواية، بل ان فكرتها أسست لفن كتابة الرواية، وهي دون أدنى شك تمثل العصر الذهبي للأدب الإسباني.

ماذا تعرف عن رواية دون كيشوت؟

“دون كيشوت” كما هي معروفة بين العرب، أو “دون كيخوتي” بالإسبانية، هي رواية للأديب العالمي، ميغيل دي سرفانتس، تم نشرها على جزئين أحدهما عام 1605، والآخر 1615، أحد أشهر الأدباء بالأدب الغربي، وتعد أحد أهم الأعمال الروائية الإسبانية والعالمية المكتوبة لعدة أسباب:

  1. تعد الرواية من أعظم الأعمال الروائية الخيالية، التي تركز على تحقيق الأهداف وتطوير الشخصية، برغم ما يدور بها من أحداث.
  2. العديد من النقاد اعتبرها، أول رواية حديثة أوروبية، ومن أعظم روايات الأدب العالمي، حيث تم ترجمتها إلى لغات اجنبية متعددة
  3. اعتمدت أحد جوانب الرواية على عنصر السخرية، لتصبح قريبة من الناس، مما جعلها عملا مميزاً، حاول الكثير من مفكري وأدباء ذلك العصر تقليد مثل هذا العمل، وذلك لتغيير مجتمعهم مثلما فعل سرفانتس.
  4. انقلبت موازيين الروايات القديمة الرومانسية، وتطور أسلوب الكتابة فأصبح أكثر بساطة، وقريب إلي مستوى الانسان العادي، بسبب حس الفكاهة.

استغرق سرفانتيس في كتابة روايته الشهيرة ما يقارب العشر سنوات، حيث كتبت الرواية ما بين عام 1605م و1615م، وبطلها هو دون كيشوت، المعروف أيضاً بالرجل البارع دون كيشوت من لا مانشا، وهي من أعظم أعمال الخيال، ومن أقدم الروايات، وهي عبارة عن قصة نثرية طويلة تركز على العمل وتنمية الشخصية.

تقع الرواية في جزءين، الأول بعنوان “العبقري النبيل: دون كيشوت دي لا مانشا” وألفها سرفانتس سنة 1605، وأتى جزؤها الثاني عام 1615 بعنوان “العبقري الفارس: دون كيشوت دي لا مانتشا”.

ملخص الرواية

بطل الرواية هو ألونسو كيكسانو، وهو صاحب مزرعة وعنده ما يكفيه من المال ليستطيع البقاء ويغنيه عن العمل، وهو بذلك يقضي معظم وقته في القراءة، فيقرأ في الكتب التي تتحدث عن الفراسة والفرسان، وخصوصاً فرسان العصور الوسطى، أولئك الذين يركبون الخيل، ويذبحون التنانين، ويقبلون أيادي الأميرات، فأصبح يحلم بأن يكون فارسا مثلهم، فقرر ألونسو كيكسانو يوم ما أن يصبح فارسا مثلهم، فارتدى درعا وأطلع على نفسه اسم “دون كيشوت”، وامتطى فرسه وبدأ التجوال في القرى والأرياف بحثاً عن المغامرات، ولأنّ التنانين والعمالقة غير موجودين إلّا في رأسه، فإنّه بدأ يتخيل طواحين الهواء هم الأعداء والوحوش العملاقة.

ويصل به الهوس لمحاكاة دور الفرسان واتباع نهجهم، الذين يحاربوا المخلوقات العملاقة، ويخرجون لينصروا الضعفاء، ويدافعوا عن الفقراء والمساكين.

اتخذ دون كيشوت رجلا تابعا له يُدعي “سانشو بانزا”، وهو فلاح بسيط، ليرافقه أثناء رحلاته، لكن كيشوت كان يعلم بأن ما يفعله هذا بلا جدوى، بل وأن ما يحارب من أجله إنما هي أوهام.

وحين رأى الناس جنون دون كيشوت رغبوا في علاجه، ورسموا لذلك مخططات لجعله يعود إلى سريره، وفي نهاية القصة فإنّ دون كيشوت يعلم أنّه كان غبيّ لا فائدة مما يفعل، ولكن الأوان كان قد فات، حيث أُصيب بحمّى شديدة مات على إثرها وهو على سريره.

وتركز الرواية على أنه من الممكن أن الإنسان يتصارع مع خرافات وأوهام مؤمن بها، لتحقيق أهدافه، لكن ينتهي الأمر به الي فقدان أشياء كثيره أهمها حياته.

من هو ميغيل دي سرفانتس صاحب “دون كيشوت”؟

ميغيل دي سرفانتس سافيدرا مؤلفٌ إسباني وشاعرٌ وكاتب مسرحي. وتُعتبر رواية دون كيشوت الرواية النموذجية الأولى ذات الأسلوب الأدبي الحديث في عصره.

تأثيره على اللغة والأدب الإسبانيين ضخم جدا، حتى أن اللغة الإسبانية معروفة باسم لغة سرفتانتس. تشتهر كلٌّ من رواياته وشعره بالهجاء الذكي وسهولة فهمه بالنسبة للقارئ العادي، ومن هنا جاء لقبه بأمير الذكاء.

درس العمارة والأدب والفن في روما عندما كان شابًا، ثم انضم إلى البحرية الإسبانية، وأثناء خدمته في البحرية أُصيبت ذراعه اليسرى بجروحٍ بالغة ولم يتمكن من استخدامها بعد ذلك، واعتبر ذلك رمزا للشرف والتضحية.

وُلد ميغيل دي سرفانتس في 29 أيلول/ سبتمبر 1547، في مكان بالقرب من مدريد في إسبانيا. والداه هما الجرّاح دون ريدريغو دي سرفانتس وليونور دي كورتنس.

كان الطفل الرابع لوالديه اللذين تزوجا في ظروف صعبة عندما كان جده يبيع والدته لأحد النبلاء، ونظرا لطبيعة هذا النوع من العلاقات الزوجية، فقد عاشت والدته حياة زوجية تعيسة جدا لمَ كان لوالده من علاقات مع نساء أخريات، وتوفيت والدته في 1593.

لا يوجد معلومات دقيقة حول طفولة سرفانتس نظرا لكونها غير موثقة بشكلٍ صحيح، باستثناء حقيقة أنّه يتجول من مكان إلى مكان مع والديه بسبب بحث والده المستمر عن عمل. وكانت طفولته صعبة، حيث كافحت أسرته باستمرار مع الفقر. ولا معلومات واضحة حول إن كان قد درس في سنواته الأول أم لا، إلّا أن بعض الباحثين يقولون أنّه درس في جامعة سلامانكا.

تزوج عام 1584 من كاتالينا دي سالازار أي بالاسيوس التي كانت أصغر منه بكثير، واستمر زواجهما حتى وفاته.

منحته تجربة الاختطاف في الجزائر فكرة لروايته العالمية دون كيشوت ومسرحيتين أخرتين هما “معاهدة الجزائر” و”حمامات الجزائر” ونشرت كلتاهما في الجزائر.

توفي سرفانتس في عام 1616 في مدينة مدريد، ووفقا لرغبته فقد دفن في ديرٍ قريبٍ من منزله وكانت ابنته إيزابيل عضوة في هذا الدير. ثم انتقلت الراهبات إلى دير آخر ومن غير المعروف ما إذا كنّ قد أخذن الرفات معهن أم لا. ويقال أن سرفانتس توفي قبل يوم واحد من شكسبير، لذا اعتُبر يوم 23 نيسان/ أبريل يوما دوليا للكتاب.

ترك سرفانتس عائلته في صغره وذهب بعيدا إلى إيطاليا للدراسة في روما، ومن غير المعروف تمامًا سبب مغادرته إسبانيا والذهاب إلى إيطاليا، سواء أكان هاربا من أمر ملكي للقبض عليه أو لسبب غامض آخر.

في عام 1570 انضم إلى مشاة البحرية الإسبانية التي انتشرت في نابولي في ذاك الوقت. وقد خدم في الجيش لمدة عام. وفي 1571 أبحر مع اسطولٍ للمشاركة في معركة ليبانتو. وعلى الرغم من أنّه كان يعاني من الحمى في ذلك الوقت، لكنّه طلب السماح له بالمشاركة في المعركة.

أصيب خلال المعركة وبقي في المشفى لمدة 6 أشهر تقريبا. وخدم بلده بصفته جنديا حتى عام 1575 وكان متمركزا في نابولي أغلب الوقت. كانت حياته العسكرية مليئة بالمغامرات كالبعثات إلى كورفو ونافارين، كما شهد سقوط تونس.

أبحر عام 1575 من نابولي إلى برشلونة برفقة قوات المشاة البحرية، وفي منتصف الطريق هاجم قراصنةٌ جزائريون السفينة وأُسر مع بقية الركاب، وبقي عبدا لديهم لخمس سنوات. وبعد ما لا يقل عن 5 محاولات هرب، دفعت عائلته المال لتحريره وعاد إلى مدريد في 1580.

مؤلفات سرفانتس وأعماله الأدبية

ولد ميغيل دي سرفانتس سافيدر عام 1547م في إسبانيا، وتوفي في مدريد عام 1616م، وهو روائي وكاتب مسرحي إسباني، كاتب الرواية الشهيرة “دون كيشوت” والتي ترجمت لأكثر من 60 لغة، ولم يرد الكثير عن تعليم ميغيل المدرسي والجامعي أو حتّى طفولته، ولكنه عُرف بتعطشه لقراءة الكتب.  

في عام 1585، أعلن عن أول أعماله الأدبية “لا جالاتيا”، فجسد الرومنسية الرعوية لكنه فشل في كسب الاهتمام. وقد وعد سرفانتس جمهوره بأن يكتب تتمة لعمله ذاك، إلّا أنه لم يفِ بوعده. حاول الدخول في مجال المسرح، إلّا أنّه لم يحظَ بالشهرة والمال، وترك العمل هناك.

عاش حياته فقيرا وكافح للحصول على المال حتى نشر روايته “دون كيشوت” عام 1605. وقد كان هدفه الوحيد من الكتابة هو إعطاء القراء نسخة عن الحياة الواقعية والتعبير عن وجهة نظره بلغة واضحة يمكن أن تصل للجميع. وللأسف لم تجلب له الرواية الشهرة والمال اللذين استحقتهما، لكنها أصبحت فيما بعد الرواية الأكثر مبيعًا في العالم.

ويظهر تأثير الأسر والجزائر في أعمال مثل “سجون الجزائر” و”الحياة في الجزائر” و”معاملات الجزائر” و”الإسباني الشجاع” و”السلطانة العظيمة” و”الإسبانية الإنجليزية” و”محاورة الكلاب”… لقد عرف كاتب إسبانيا الأكبر زخم أدبه الحقيقي ونضجه الواضح بعد عودته من الجزائر، وبخاصة في رائعته “دون كيخوته دي لامانشا”، كما يقول كثير من دارسي أدبه.

ومن أبرز مؤلفاته مايلي:

  • رواية “لا جالاتيا” 1585
  • مسرحية “السلطانة العظيمة” 1600
  • رواية “دون كيخوتي” 1605 – 1615
  • رواية  “الغجرية” 1613
  • رواية “العاشق المتحرر”
  • رواية “الإسبانية الإنجليزية” 1613
  • رواية “قوة الدم”
  • رواية “الغيور الإكستـريمادوري” 1613
  • رواية “الخريج الهش”1613   
  • رواية “حوار الكلاب”
  • كتاب “جبل بارناسوس” 1614.
  • كتاب “حمامات الجزائر” 1582
  • مسرحية “معاهدة الجزائر” 1582
  • رواية “أعمال بيرسيليس وسيخيسموندا” 1616
  • رواية “العذراوات”

الجزائر بين سرفانتس وألبير كامو

لا أحد يمكنه أن يشكك ولو للحظة أن رواية “دون كيشوت” رواية إسبانية اللغة عالمية الرسالة جزائرية الروح، وإلا لما اختارت اسبانيا الجزائر لإحياء الذكرى المئوية الرابعة لوفاة صاحب أحد أشهر الروايات العالمية على مر التاريخ. إذ لماذا تحتفل اسبانيا بكاتبها الفذ في الجزائر تحديدا، وكان يكفيها أن تفعل ذلك على أرضها كما فعلت بريطانيا في الاحتفال بمئوية وفاة شكسبير. 

تقول الكاتبة بسمة كراشة أن قصة سرفانتس وروايته تبدأ في أعالي مدينة الجزائر وتحديدا في حي بلوزداد (بلكور سابقا) حيث سيدلك الأهالي على مغارة مخبأة في خضرة هضبة مرتفعة ومتطلعة إلى زرقة البحر أسفلها، في منظر بديع يليق بخيال الشعراء ويفتق قرائحهم! هنالك حيث أقام السجين الإسباني ميغيل دي سرفانتيس فترة طويلة ومن هنالك حاول الهرب والعودة إلى بلده.

كانت أياما طويلة ومقلقة زودت السجين والكاتب الشاب بما يحتاج إليه من مشاعر وتجارب وصدمات تلهمه أشهر رواية اسبانية في العالم. ومن صدف الأدب أن يرتبط نفس الحي (بلكور) أربعة قرون بعد مولد سرفانتس، بالكاتب الفرنسي الفائز بجائزة نوبل للآداب، ألبير كامو، صاحب رواية “الغريب” التي يعدها كثيرون أشهر رواية فرنسية في العالم (تدور أحداثها في الجزائر).

من سفينة الشمس إلى مغارة الحامّة

كل شيء بدأ في السادس والعشرين من شهر سبتمبر/أيلول 1572 عندما حاصرت ثلاث سفن حربية تابعة للأسطول الجزائري تحت إمرة الرايس مامي، سفينة “إل صُل” (الشمس) التي كان على متنها سرفانتس وهو في طريقه رفقة شقيقه رودريغو إلى بلاده اسبانيا من إيطاليا. سيطر القراصنة الجزائريون والأتراك على السفينة وأسروا من فيها.

كان سرفانتس يحمل رسائل من نائب ملك صقلية كارلوس دي اراغون والقس دون خوان النمساوي الوكيل العام للممتلكات العامة الاسبانية في ايطاليا إلى ملك اسبانيا فيليبي الثاني تشيد بشجاعة الشاب وبالخدمات التي قدمها خاصة في الحملة التي سقطت فيها مدينة تونس ويطلبان من الملك أن يوليه قيادة الفرقة العسكرية المتوجهة من اسبانيا إلى ايطاليا.

مغارة الحامة في الجزائر التي مكث بها سارفنتس 5 سنوات

واعتقد “الرايس” بعد الاطلاع على الرسائل أن صيدا ثمينا قد ساقته الأقدار إليه، وسيتيح له أن يجني من ورائه مالا كثيرا، فطالب بفدية كبيرة من عائلة سرفانتس البسيطة، لكن الفدية تأخرت خمس سنوات كاملة، فعاش الاسباني الشاب عبدا لخاطفيه طيلة هذه المدة التي بدأها من “سجن البايلك” على أرض الجزائر وأنهاها في مغارة الحامّة بأعالي العاصمة لا تزال حتى اليوم شاهدة على مآثره. 

سرفانتيس الأسير وقراصنة الجزائر

يقول الروائي الجزائري واسيني الأعرج، وهو مؤلف كتاب “على خطى سرفانتيس”، إن قصة سرفانتس حقيقية وموثّقة، “تعود الحكاية إلى القرنين 16 و17م، وتتعلق بجندي إسباني ألقى عليه القراصنة الجزائريون والعثمانيون القبض بنواحي مرسيليا الفرنسية رفقة أخيه بيدرو، بينما كانا عائدين من معركة ضد العثمانيين أصيب فيها ذراعه، واقتادوه إلى الجزائر، وهناك عرضوه للبيع في سوق العبيد، فاشتراه أحد رياس البحر ثم وباعه لحاكم الجزائر حسان باشا بـ 500 قطعة ذهبية، وهو مبلغ كبير. واكتشف حاكم الجزائر وحاشيته أنّ الذي بين أيديهم ليس مجرد جندي أسير، كما يبدو، بل هو شاب مثقف جدا.

من جهته يقول الروائي الجزائري جمال غلاّب، وهو صاحب رواية “سرفانتس في الحامّة” (الحامّة هي المنطقة التي تتواجد بها المغارة التي سُجن بها سرفانتس) إن والد سرفانتيس كان بائع أعشاب “جمع يوما ما أبناءه الثلاثة وقال لهم إن لديه ثروة صغيرة يريد أن يمنح كلا منهم نصيبا منها، شريطة أن يخبروه بما يريدون أن يصيروا في المستقبل، فقال سرفانتس لوالده إنه يريد أن يصير جنديا في الجيش الملكي وكذلك رغب أخوه بيدرو، بينما اختار الثالث أن يكون راهبا، “وبالفعل، فقد انضم سرفانتس للجيش الملكي وسافر لمحاربة العثمانيين في إيطاليا، وهناك أصيب في ذراعه، ثم أسر سنة 1575م واقتيد إلى الجزائر”. 

ومنذ هذا التاريخ كانت هناك عدة محاولات لإطلاق سراحه، لكنها فشلت كلها، سواء عبر دفع فدية، إذ طلب العثمانيون أموالا كبيرة لإطلاق سراحه، أو من خلال الحلول العسكرية.

روح الثقافة العربية الإسلامية في الأرجاء

ظل سرفانتس في الجزائر 5 سنوات أطلق بعدها سراحه، بعدما تغيّر حاكم الجزائر، فانتقل إلى إسبانيا وهناك كتب روايته المشهورة لكنه عانى من تضييق الكنيسة والجيش، حيث كانت محاكم التفتيش ضد المسلمين واليهود ناشطة آنذاك، وطلبوا منه شهادة نقاوة الدم ليثبت أنه مسيحي، واتهموه بقرابة دم مع المسلمين، وقد نجح في استخراج هذه الوثيقة لكنه ظل محل شكوك.

وهكذا ترك سرفانتس الجزائر ومعه ما لم يكن قد جاء للبحث عنه، الكثير من الأشعار والكتابات، وأكثر من ذلك شحنة ضخمة من التجارب والذكريات والصور سيغرف منها في كتاباته المقبلة. ولذلك، تحدث كثير من الباحثين عن شخصيات حقيقية عرفها خلال سجنه في الجزائر ووظفها في كتاباته إضافة إلى الإشارة إلى الثقافة العربية والدين الاسلامي.

المغارة.. ​الأغلال.. والغرام

في سجنه كان سرفانتس يقدم رشوة للسجانين حتى لا يخرجوه للعمل رفقة السجناء الآخرين، فكان يستغل الفرصة لصعود سطح السجن ومراقبة المدينة، رأته شابة فأُعجبت به وأرسلت له رسالة وتبادلا الرسائل مرات عدة، وتبيّن أن الشابّة ابنة رجل من وجهاء البلد. وتظهر في الرواية باسم ثُريدا (بضم الثاء) وهي في الأصل فتاة جزائرية اسمها “ثريا” أحبت سرفانتس وحاولت مساعدته على الهرب وهي من ألهمته للوصول إلى المغارة.”

ويقول الروائي الجزائري جمال غلاب “وعدتْ الشابة سريفانتيس بمساعدته في الخروج من السجن رفقة بعض الأسرى، واستعدّ الكل للهرب لكنهم قُتلوا جميعا إلا سرفانتس الذي لم يعد إلى السجن بل وجد نفسه في مغارة، وهناك كان يطل على المدينة، وكان يسجّل ملاحظاته عن نمط الحياة وطبائع السكان، وكلها كانت أرضية ساعدته في كتابة روايته. وكان يُسمح له من حين لآخر بأن يتجول في المدينة وفي الأسواق، حيث كان يرتاد حلقات المدّاحين يستمع إلى القصص التي يروونها ويسجّلها في أوراق، فتعلم منهم أسلوب السرد والحوار وبناء القصة والشخوص والخيال.

وللإشارة ما يعرف اليوم بـ “مغارة سرفانتس” بالعاصمة الجزائر، هي معلم ثقافي تحافظ عليها الحكومة الجزائرية والسلطات الإسبانية على السواء.

طواحين الهواء والمهمة المقدسة للفارس الأحمق

 أجمل ما في قصة سرفانتس أنها لا تنتهي، إذ ما زالت رواية مفتوحة بعد أربعة قرون. ويمكن لأحدنا أن يضفي عليها نظرات فلسفية فيقول هي رواية تنقل تاريخ تلك الفترة، هي رواية اجتماعية تكشف المجتمع الاسباني، هي رواية عن مقاومة شر البشر والانتصار للضعيف، هي رواية عن الصداقة والحب والنجاة التي لا تتحقق في الحياة دون رفيق صادق إذ أن ما حمى الفارس وهو يحارب حتى الطواحين، ليس إلا صديقه البسيط العاقل سانشو. وهي في كل الحالات رواية ساخرة جعلت الجنون جميلا.

مات سرفانتس لكن دون كيشوت بقي حيا إلى الأبد، وبينما حصد الأول مجد تجاربه وموهبته الأدبية كما تمنى، عاشت شخصية “دون كيشوت” علامة فارقة في تاريخ تطور السرد الروائي من جهة، وعلامة على النقلة المعرفية التي حدثت في تلك الحقبة والقطيعة بين الزمن التقليدي بكل منجزاته الثقافية والفكرية والأدبية، والولوج إلى الزمن الحديث.

 فكان من طرائف “دون كيشوت” ذلك الفارس الطويل النحيل، أنه توهم بأن طواحين الهواء شياطين تنشر الشر في العالم، فقرر أن يحاربها وكانت هذه نهايته.

ومن هنا أمست “الدونكيشوتية” مصطلحا معمما ونزعة فردانية يكنى بها كل سلوك مبني على حلم غير قابل للتحقق. وتزحزحت الوجودية عن موقعها في أكثر من سياق فأصبحت تعني جنون العظمة، والنرجسية المطلقة، والتطاول على الأقدار والطبيعة، وغير ذلك من المعاني التي تناسلت من هذه الرواية التي لا ينطفئ بريقها.

رواية “دون كيشوت” كقيمة أدبية تاريخية وإنسانية

في التاريخ الروائي الحديث لا يؤرخ لرواية “دون كيشوت” باعتبارها إحدى أبرز الروايات المكرسة لهوية وحقيقة الإنسان ضد انهيارات القيم المجتمعية، وضد كل ما يستل ذاته الفطرية والنقية في صراعه مع العالم فقط، وإنما اعتبرت بداية لتاريخ الواقعية الأدبية، رغم اعتمادها على الخط الملحمي والغناء والكوميديا والمأساة والملهاة معا في بنائها الفني والسردي.

وقد تميزت رواية دون كيشوت بخلق شخصية روائية من أكثر الشخصيات نموذجية في الأدب العالمي بالرغم من أن محاربة الطواحين ليس سلوكاً مألوفاً في الحياة اليومية، فالسمة المتطرفة للأحوال النموذجية تنتح عن ضرورة استخراج الأعمق والأبعد في الشخصيات الإنسانية مع كل التناقضات المتضمنة فيها.

ولهذا خرج البطل ليلتقي ببشرٍ لا ينتمي إليهم ليخوض معركته في الوصول إلى غايته وهي محاربة القبح في هذا العالم، كفارس شهم يبحث عن مغامرة تنتظره، مع حصانه الضعيف “روسينانتي” وتابعه “سانشو بانثا”- وهو جاره القروي البسيط الذي أقنعه بمرافقته في رحلته العامرة بقيم وأخلاق الفروسية وصولاً إلى المملكة المنشودة، وأنه سيمنحه حكماً على جزيرةٍ مكافأة له على أن يظل معه، وقد لُقب في رحلته هذه بفارس الظل الحزين، وهو ينشد اللقاء بحبيبته دولسين.

استطاعت هذه الرواية أن تُقلّدَ قِصصَ الفروسيةِ تقليدا جديدا يعتمد على السخرية أو نقل الأحداث من ألوان المثالية التي تتمثل في المأساة إلى لون هزلي يصطدم فيها المثال بالواقع الأليم. فبطل العمل يشعر بقدرته على تغيير العالم من خلال اعتماده على خياله الحُر وقيمه النبيلة وأفكاره التي لا تتوقف عن كيفية محاربة الشر وتغيير صورة العالم، رغم بساطة حاله، وموقعه وظروفه غير المتناسبة مع تطلعاته المستحيلة.

ومن مكامن عبقرية الرواية أيضا، والتي أدخلت الفن الروائي عصر الواقعية، أنها تعتمد على صورة البطل الرومانسي الفردي، وعلى وحدة الصوت والرؤية، وكونها تحمل قيما لم تكن هي مركز الإبداع الروائي لأي عمل (شكليٍّ) ينشد البناء الفني أكثر من قيمة المضمون.

وهكذا انتقلت هذه الرواية بالإنسان إلى آفاقٍ أخرى لتحريره من سطوة الأفكار المادية، وأن الإنسان غير قادرٍ على صنع مصيره، أو مجابهة العالم بالأحلام والسعي لتغييره من خلال أفكاره وتطلعاته رغم بؤس الواقع، وقد تحولت الشخصية التي أبدعها سرفانتيس إلى أيقونة للخير والحق والجمال، في مواجهة قبح الواقع، وأنها تدعو للتقدم وتحرير الإنسان والإيمان بالموقف، تماماً كما أنها أبدعت قيماً شكليةً جديدةً لبناء الرواية، اعتبرها الرومانسيون محققةً لشكلٍ جديدٍ من محتوى الرواية بدفاعها عن قيم الإنسان الحرة، واعتبرها الواقعيون شكلاً جديداً للرواية الفردية، وكان للاجتماعيينَ رأيٌ آخر أيضاً. 

“دون كيشوت” رواية إسبانية بأسلوب جزائري

يقول جمال غلاّب أن سرفانتس كان يرغب في كتابة عمل أدبي كبير، مثل الكوميديا الإلهية لدانتي، لذلك بدأ يؤلف روايته دونكيشوت، وقد نال الموافقة من الملك فيليب الثاني ليبدأ كتابتها، وكانت المفاجأة أن بيعت الطبعة الأولى من الرواية في وقت قياسي، ما اضطره لطبعة ثانية، نفذت بشكل سريع أيضا.

​​ويؤكّد غلاب أن أسلوب رواية “دون كيشوت” ليس إسبانيا، إذ يقول “بشهادة أدباء إسبان تحدّثتُ إليهم عندما زاروا معهد سرفانتس بالجزائر، فإن هذا النوع من الرواية ليس إسبانيًّا، بل هو جزائري.. لقد أكدوا لي أن الأدب الإسباني لا يُكتب على هذا النحو”.

وفي الأخير حققت الرواية نجاحا كبيرا وترجمت إلى أكثر من 60 لغة في العالم، وتم وضعها في مصاف الأعمال الكبرى، وخصص ثلاثة فصول كاملة منها للجزائر.

ويقول المختصون أن رواية دون كيشوت تكتسي أهميتها الأدبية من حيث أنها أول عمل يؤسس لنوع أدبي جديد يسمى “الرواية”،” نوع لم يكن موجودا قبل دون كيشوت، ولذلك يذهب بعض الكتاب، خاصة الجزائريين منهم، إلى أن دون كيشوت “من مواليد الجزائر” رغبة في الانتساب لهذا المجد الأدبي الكبير. ويعززون حجتهم بديباجة سرفانتس نفسه في الجزء الأول من “دون كيشوت” الذي يقول فيها إن “هذا الكتاب نشأ في السجن حيث المشقة كاملة”. كما يقول المؤرخ البريطاني والمختص في الأدب الاسباني دابليو جي انتوسل “إن كتابات سرفانتس لا تخلو من ذكر مدينة الجزائر والأسر وأبناء المنطقة.” 

عظماء يتحدثون عن رواية “دون كيشوت”

لم يغفل كتاب العالم ولم يتوانوا عن الحديث عن “دون كيشوت”، بل والانتماء إليها، باعتباره إرثا إنسانيا، يحق للجميع أخذ نصيبه منه. يكفي الإشارة إلى المقولة الشهيرة للشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس:”كتابان كبيران لا يبعثان على الملل، هما دون كيشوت وألف ليلة وليلة”.

أما فيودور دوستويفسكي الفيلسوف والروائي الروسي الكبير فيقال إنه كان مسكونا بشخصية “دون كيشوت” إلى الحد الذي كتب فيه “في العالم كلِّه لا يوجد مؤلَّف أعمق وأقوى من هذا، هذه هي الكلمة الأخيرة والأسمى للفكر الإنساني، إنها أكثر أنواع السخرية التي يمكن للإنسان التعبير عنها مرارة وإذا انتهت الحياة على الأرض، وسُئل البشر هناك في مكان ما: ماذا! هل فهمتم حياتكم على الأرض؟ وما الذي استخلصتموه منها؟ فيمكن للإنسان تقديم دون كيشوت في صمت: هذه هي خلاصة حياتي، فهل يمكن لكم إدانتي عليها؟”.

بل أن دوستويفسكي استلهم من شخصية دون كيشوت معالم شخصيته الطيبة ذات المشاعر المتدفقة والحساسية العالية تجاه الخير والعدل والقيم النبيلة التي كرس نفسه لنشرها في هذا العالم الموحش، وهي شخصية الأمير ميشكين في رواية “الأبله” والذي كان يطرب حين يناديه أحد باسم “الفارس الفقير” في إشارة إلى دون كيشوت.

أما الكاتب الإكوادوري خوان مونتالفو فيستعير شخصية دون كيشوت بطل قصة الإسباني سرفانتس، ليكتب رواية بعنوان “فصول من دونكيشوت نسيها سرفانتس”. 

وفي تصديره لترجمة الطبعة العربية للرواية يقول عبد الرحمن بدوي إن “روائع الأدب العالمي أربع هي الإلياذة لهوميروس، والكوميديا الإلهية لدانتي، ودون كيشوت لسرفانتس، وفاوست لغوته”، وفي واقع الحال فإن بدوي لم يخطئ في وضع دون كيشوت ضمن مصاف روائع الأدب العالمي؛ حيث تثبت الرواية بعد أربعة قرون من إنتاجها أنها لا تزال غنية وثرية، وقادرة على الانفتاح أمام تأويلات عصرية وراهنة، وليس أدل على ذلك من حرص النقاد والفلاسفة والمؤرخين على دراستها حتى يومنا هذا.

ويشير الناقد إبراهيم العريس إلى أن الرواية بجزأيها قد وضعت الكاتب ميغيل دي سرفانتس على خارطة تاريخ الأدب العالمي، جنبا إلى جنب مع كل من دانتي أليغييري وويليام شكسبير وميشيل دي مونتين، الذين تم اعتبارهم من منظري الأدب الغربي في رائعة هارولد بلوم “المجمع الغربي”.

وتحضر شخصية دون كيشوت في الأدب العربي المعاصر في أكثر من نص أدبي، وقد تعددت دلالات حضوره بحسب السياق الذي يورده صاحبه، فتارة يظهر دون كيشوت كرمز يدل على الفوات والغفلة، كما يشير لذلك الشاعر العراقي وليد الصراف في بيت شعري له إذ يقول: 

جاء المغول و”دون كيشوت” منتفضاً ** ما زال يضرب أعناق الطواحين! 

بينما يأتي في قصيدة للشاعر السوري ممدوح عدوان حملت عنوان “دون كيشوت في رحلته الأخيرة” كرمز/بطل يحمل جذوة الحق في روحه، ويقرر مواجهة العالم المتداعي والبارد/القاحل وحيداً حتى النهاية، رغم كل أحزانه في المنفى وهزالة جسده وتقوس ظهره ووجهه الشاحب، لكنه مع ذلك يبقى الفارس الأخير لهذا العالم.

ويبرر أحد الروائيين العرب بقوله إن الاستعارة جائزة لسببين: الأول أن شخصيتيها الرئيسيتين، دون كيشوت وسانشو، تجاوزتا الرواية وأصبحتا إرثا إنسانيا وسينمائيا وتلفزيونيا. والثاني، هو القرابة اللغوية مع راوي العمل المتخيّل، الذي أطلق عليه سريفانتيس اسم سيدي حامد بن الأيل، وهو اسم جزائري أو مغاربي صريح.

“دون كيشوت”..الاستثناء الوحيد

نكاد لا نعثر على ثقافة اليوم لا تحضر فيها شخصية دون كيشوت، ويرجع هذا الحضور الكثيف لهذه الشخصية لما تمثله من أسلوب ونمط في الرؤية إلى العالم وتمثّله، فكل إنسان مهما بلغت عقلانيته وموضوعيته في التعاطي مع الواقع، فإنه يظل يحلم بعالم مواز عالم مثالي تتطابق فيه تصوراته وأحلامه الذاتية مع العالم الخارجي وهو ما دأب دون كيشوت على فعله.

ولعل هذا المستوى الذي بلغته رواية دون كيشوت، هو الذي جعل هيئة الكتب النرويجية تطلب في عام 2002، عمل قائمة بأفضل الأعمال الأدبية على مر العصور بتصويت مئة كاتب من الكتاب العمالقة من 54 دولة مختلفة. وظهرت الأعمال مرتبة ترتيبا أبجديا دون غلبة لعمل على آخر، ولكن باستثناء وحيد كان لصالح رواية “دون كيشوت” التي تصدرت القائمة باعتبارها أفضل عمل أدبي تمت كتابته في التاريخ في ذلك الوقت.