لا جدال في أن “العلم” أصبح دوره محوريًّا في حياتنا أكثر من ذي قبل؛ ولهذا نحتاج بالتوازي مع هذا إلى ترسيخ “الثقافة العلمية”، ومعرفة ما تحتاجه من تكامل الأدوار بين مؤسسات المجتمع.. كما نحتاج إلى المزج بين “العلم” و”الأدب”، فهذا المزج أصبح ضروريًّا لتكامل المعرفة، ولفتح آفاق جديدة في التفكير والخيال.. وذلك بحسب ما يوضحه الدكتور حسام الزمبيلي، أستاذ طب وجراحة العيون، رئيس “الجمعية المصرية للخيال العلمي”.

وابتداءً من المقصود بـ”الثقافة العلمية”، إلى أهميتها في النهوض بالمجتمع، إلى دور “الجمعية المصرية للخيال العلمي”، وأثر نشأة الدكتور حسام على اهتماماته العلمية والأدبية، وجهوده في تبسيط العلوم.. دار هذا الحوار.. فإلى التفاصيل:

لو بدأنا بتوضيح المقصود من “الثقافة العلمية”.. فماذا نقول؟

أستطيع تقسيم الثقافة العلمية إلى الثقافة العلمية للفرد والثقافة العلمية للمجتمع. وربما يكون تعميم الثقافة العلمية للفرد هو الطريق للثقافة العلمية للمجتمع؛ فتحقيق الثقافة العلمية للفرد يوجِد أفرادًا واثقين مستنيرين يملكون من الأدوات ما يمكّنهم من تغيير واقعهم وواقع أسرهم الصغيرة، ومن ثم التغيير المجتمعي لاحقًا. أما تحقيق الثقافة العلمية للمجتمع؛ فثماره هائلة، ومردوداته أعظم.

وما أهمية الثقافة العلمية في النهضة بالمجتمع؟

الثقافة العلمية سِمة جامعة للمجتمعات المتقدمة؛ فالعلم سر تقدمها، ويكون العلماء مكرَّمين، ومكانتهم رفيعة. والثقافة العلمية هي أم كل العلوم. والعلم نقل البشرية من قوة الحصان إلى قوة الصاروخ الذي يعادل ٤٠ مليون حصان.

مؤسسات المجتمع المدني لها دور مهم في استدامة “الثقافة العلمية”

هذه القوة الهائلة، قوة العلم، هي التي تنقل المجتمعات من الفقر إلى الغني، ومن الجوع إلى الشبع، ومن الشح إلى الوفرة. وخلاصة القول، أن الثقافة العلمية هي المادة الخام لصناعة وتشكيل علوم المستقبل.

لاشك أن “الثقافة العلمية” لها أسس تقوم عليها، ومتطلبات تحتاجها.. ما أهم هذه الأسس والمتطلبات؟

في البداية يجب أن تؤمن الدولة بقياداتها العليا بأهمية الثقافة العلمية، وتمنحها أولوية قصوى. وفي معظم المجتمعات الانسانية يتأثر الرعية بالقائد. من هنا تنبثق الثقافة العلمية (مرحلة الانبثاق).

المرحلة الثانية: دور المنظومات الإعلامية الحساسة في دعم الثقافة العلمية.. مثل التليفزيون، الإذاعة، السينما، المسرح.. فمنها تترعرع الثقافة العلمية (مرحلة النمو).

المرحلة الثالثة: دور المؤسسات الحكومية الثقافية والتعليمية في دعم الثقافة العلمية؛ وذلك عبر منتديات وصالونات ومسابقات ومؤتمرات ومبادرات.. وهنا تترسخ الثقافة العلمية (مرحلة الترسيخ).

المرحلة الرابعة: دور مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات غير الحكومية في استدامة الثقافة العلمية وجعلها خاصية مجتمعية أصيلة يصعب زوالها.. وهذه (مرحلة الاستدامة).

وأعتقد أنَّ مرحلة الانبثاق تعتبر بداية حرجة، يعقبها المراحل الثلاث التالية على التوالي أو على التوازي لو كانت هناك رغبة أو حاجة ملحة في التسريع بنشر الثقافة العلمية.

وهذه الرغبة الملحة تنبع من قيادة سياسية مستنيرة تدرك مواطن الخطر؛ خطر الجهل والجهلاء على الأمم.. وقد تنبع من مجتمع كان يومًا متحضرًا عظيمًا ثم انحدر به الحال.. فهذا الحنين إلى ماضٍ عظيم (النوستالجيا) يُعَد دافعًا جبارًا للعودة.. العودة إلى ريادة الأمم عبر العلم.. فلا تستهينوا بقوة الحنين.

هل “الثقافة العلمية” تختلف من مجتمع لآخر تبعًا لحالته الحضارية؟

نعم، تختلف من حيث الانتشار، فالمجتمعات المتحضرة تكون في النهاية العظمى لمقياس الانتشار، أما تلك المتخلفة فلديها “كحكة حمراء” على نفس المقياس.

“أدب الخيال العلمي” هو الجسر الرابط بين “العلم” و“الأدب

وتختلف أيضًا من حيث النوعية؛ فالمجتمعات الإنسانية الرائدة حضاريًا تتشبع ثقافتها العلمية بعلوم الفضاء والفمتوليزر وفيزياء الكوانتم وصناعات الجاذبية المنعدمة (Zero Gravity) وعلوم الروبوتات.. في حين أن المجتمعات الأخرى لا تلقي لها بالاً.

في “أزمة كورونا” برزت الحاجة لـ”الثقافة العلمية”.. كيف رصدتم ذلك؟

كانت أزمة كورونا كاشفة، كسرت غرور العلم الحديث الذي ظن أنه قادر عليها. فهذا الفيروس الضئيل وقف أمام قوى البشرية العظمى، واغتال من البشر كثيرين قبل أن ينجح العلم في السيطرة عليه جزئيًا. أدرك العلم ضآلته، وعرف أن التواضع ليس فضيلةً بل ضرورة للتقدم للأمام. فما الكرة الأرضية، بكل ما عليها من بشر وحيوانات ونباتات وجماد وعلم وثقافة وحضارة، إلا ذرة غبار في كون الله الفسيح.

على الجانب الآخر، بيّنت الأزمة أننا بحاجة للثقافة العلمية وللمعلومة الصحيحة الدقيقة؛ لأننا رأينا تضاربًا بشأن التعامل مع الفيروس في البداية.. وبينما عندنا الكثير من الصحف والمجلات التي تهتم بالمجالات المتنوعة- السياسية والفنية والرياضية.. إلخ- فإن ما يهتم منها بالثقافة العلمية قليل جدًا، لا يوازي ذلك أهميةَ العلم للمجتمع وللحضارة.

لو أتينا لمجال الأدب.. كيف تتصورون علاقة الأدب بالعلم؟

يعتمد العلمُ علي الدقة، ويعتمد الأدب علي الخيال. ويحتاج العلم للخيال كي يخترع ويبتكر ويرتاد مناطق جديدة. الأدب والعلم بمثابة نصفي المخ، لا غِنى لأي منهما عن الآخر؛ ويربطهما الـ”كوربس كالوزم” وهو الكوبري الذي يعبر ويربط بين النص الأيمن و الأيسر للمخ. وهناك أفراد يولدون بعيب في الكوربس كالوزم، فلا يكون موجودًا.. هؤلاء الأفراد يعانون من مشاكل وإعاقات ذهنية بدرجات متفاوتة، وقد تصل الأمور لنوبات الصرع.

وكذلك الأمم عندما تفقد ذلك الجزء في مكونها الواصل بين العلم والأدب؛ فإنها تصاب- أيضًا- بالإعاقة الذهنية، ويضطرب المجتمع. وهذه أعراض ترونها شائعة في مجتمعاتنا العربية. هذا الـ”كوربس كالوزم” الذي يربط بين العلم والأدب، هو “أدب الخيال العلمي”.

هل المزج بين عالمَيْ الأدب والعلم مفيد لكليهما؟ وكيف يمكن تكوين هذا المزج؟

بالقطع، هو مفيد لكليهما.. فالعلم يزداد خيالًا وإمتاعًا، فيتقدم سريعًا.. والأدب يزداد دقة وحرفية، وينتقل من خانة المتعة المجردة إلى خانة المتعة الهادفة.

ما دور “الجمعية المصرية للخيال العلمي” في ذلك؟

“الجمعية المصرية للخيال العلمي” منذ انطلاقها، عام ٢٠١٢م، وهي تعقد صالونها الثقافي بصورة شهرية. وقد بلغ عدد الصالونات حوالي ستين صالونًا، تمت فيها مناقشة ستين أديبًا، منهم المخضرم ومنهم المبتدئ.

كما قمنا بعمل سلسلة “شمس الغد”؛ لتكون شمسًا للأجيال القادمة، ونبراسًا لفكرهم. مجموعات من القصص القصيرة في “أدب الخيال العلمي” لكتاب مصريين وعرب.

نريد أن نتعرف على تجربتكم في المزج بين العلم والأدب، وكيف بدأت؟

بدأت هذه التجربة منذ الميلاد حقيقة. فأمي أديبةٌ بخلفية علمية، وأبي أديبٌ بخلفية أدبية أزهرية. وفي سنوات دراستي الأولى مِلتُ للمواد العلمية وعشقت قراءة ألف ليلة وليلة وسيرة الأميرة ذات الهمة، فأحببت الأدب وأدمنت متعته.

ثم سافرت لبريطانيا بصحبة والدي عام 1981م حيث درستُ جزءا كبيرًا من المرحلة الإعدادية. وهناك تعرفت على الخيال العلمي من منبعه. ومن بلاد إتش جي ويلز تعرفتُ على سلسلة حرب النجوم، وعشقت النظر في كون الله الفسيح. تملكني الفضول لمعرفة المزيد. هذا الفضول كان عملاقًا لم يستطع العلم على عِظَمِهِ أن يسبرَ أغواره. لم يكن هناك التليسكوب هابل ولا التليسكوب جيمس ويب، بل خيال جورج لوكس وتجسيد أستديوهات القرن العشرين السنيمائية. زرت معهم عوالم أخرى والتقيت بكائنات أخرى. ومرت سنوات تواجدي بلندن سِراعَا. وعدتُ للوطن .. عدت لمصر.

أسستُ “جمعية الخيال العلمي” عام 2012م لتقود “الموجة الرابعة

وفي مصر عام 1983م، كانت تمر الموجة الثانية والثالثة من أدب الخيال العلمي. أخذني والدي لزيارتين فارقتين؛ الأولى للدكتور مصطفى محمود والثانية للأستاذ نهاد شريف رواد الموجة الثانية “موجة التأسيس”. تحدثت مع الدكتور مصطفى محمود وأطلعته على مسودات أعمالي الروائية الأولى. وتطرق الحديث حول روايتيه “العنكبوت” و”رجل تحت الصفر”. ثم التقينا بالأديب الهادئ نهاد شريف في منزله بالدقي. رحب بنا وأهداني العديد من كتبه. هنا ولد الإصرار.. الإصرار على استكمال رسالة الخيال العلمي بمصر والعالم العربي والإسلامي.

تابعت وقرأت لاحقًا رواد الموجة الثالثة “موجة الانتشار”، الدكتور نبيل فاروق والدكتور أحمد خالد توفيق. أعجبتني سلسلة ملف المستقبل. وأدركت أننا على الطريق الصحيح. أكملت دراستي بكلية الطب المرهقة، وأصبحت عضو هيئة تدريس وطبيب عيون بجامعة المنيا.

جاء عام 2001م وسافرت للولايات المتحدة لاستكمال الدكتوراه، حيث التقيت بالبروفيسور هربرت كاوفمان أكبر علماء عصره في أمراض القرنية. كانت “مطحنة علمية” فريدة، شاهدت آلافًا من أمراض القرنية، وتعجبت لعملياتها وشاركت في عمليات زراعة القرنية في الإنسان وفي الفئران. أتقنت زراعة القرنية بالإنسان عندما استطعت إجرائها بالفئران. فارق الحجم منحني المهارة.

وفي أمريكا كتبت ونشرت أول ثلاث روايات في الخيال العلمي لليافعة: ملحمة الفضاء الكبرى.. الكوكب العجيب- أول حوار مع فيروس عاقل.. أمريكا 2030 قصة نهاية العالم.

عدت لمصر .. وقامت ثورة يناير .. وترددت هتافات عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية. تُقْتُ للكرامة الإنسانية، بعدما ذُقتُ وعايشت معناها بإنجلترا وأمريكا. وحلمت لمصر ولبلادي ولأهلي ولأولادي بالمثل، ولمَ لا؟! ألم نكن يومًا في مقدمة الركب الحضاري.

والدي صاحب “نظرية الوسطية”، وتعلمت منه أصالة أمتنا وعراقتها

وفي عام 2012م أسستُ “الجمعية المصرية للخيال العلمي”؛ ليقود فرسان هذه الجمعية الموجةَ الرابعة “موجة الهوية” في الخيال العلمي.. ليتمايز كتاب الخيال العلمي المصريون عن نظرائهم في الغرب. وترعرع صالون الجمعية المصرية للخيال العلمي عبر 10 سنوات، ولتكبر سلسلة “شمس الغد” لتبلغ حوالي عشرة أعداد.

وفي عام 2022م فازت روايتي “الرحلة الأخيرة” بجائزة الرواية في مسابقة أكاديمية البحث العلمي لرواية الخيال العلمي بالقاهرة.

وهل كان للوالد الراحل د. عبد الحميد إبراهيم، وهو صاحب إسهام مميز في النقد والأدب والفكر.. دور في ذلك؟

بالطبع.. أولًا: جيناته الأدبية أطلّت بقوة في حياتي.. ثانيًا: قراءته لي القصص منذ الطفولة؛ قصص كامل الكيلاني وألف ليلة وليلة.. ثالثًا: تشجيعه لي على كتابة أول قصة فانتازيا في حياتي وأنا في الصف الخامس الابتدائي “قصة الأمير والزهرات السبع” من حوالي 80 صفحة.. رابعًا: رحلة لندن، التي سبقت الإشارة إليها.. خامسًا: اصطحابه لي في زيارة الدكتور مصطفى محمود والأستاذ نهاد شريف.. سادسًا: طباعة أعمالي الأدبية الأولى التي كتبتها في أمريكا بعد مراجعتها، وذلك عام 2001- 2002م.. سابعًا: حضوري لصالونه الأدبي الشهير الذي ألهمني لاحقًا بصالون الخيال العلمي.. وثامنًا: تشبعت بفكره الوسطي، وهو صاحب “نظرية الوسطية”؛ وتعلمت منه أصالة أمتنا وعراقتها، فأعاد لي الأمل.. وعدت أحلم بعدما توقفت الأحلام لوهلة.

وماذا أثمرت تجربتكم في المزج بين العلم والأدب؟

هذه التجربة أثمرت عن قائمة طعام أدبية تتكون من 3 أجزاء رئيسية:

الجزء الأول: الخيال العلمي؛ حيث 4 روايات للكبار واليافعة ومجموعة من القصص القصيرة.

الجزء الثاني: تبسيط العلوم، وقد أثمر عن الموسوعة العربية لأمراض العيون، صدر منها ثلاثة أجزاء؛ المياه البيضاء والمياه الزرقاء والليزك، وما زال العديد في الطريق. كما نشرت لي مؤخرًا الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب “حكيم عيون”.

الجزء الثالث: القصة العلمية، وقد كتبت منها قصص قصيرة؛ مثل سما وعطارد وبطل البيزك في غرفة الليزك وأميمة في غرفة العمليات.

وأخيرًا: “الحلو في نهاية قائمة الطعام الأدبية” كتاب (Arab and Muslim Science Fiction) (أدب الخيال العلمي في العالم العربي والإسلامي) باللغة الإنجليزية وصدر عن دار نشر ماكفارلاند الأمريكية عام 2022م. أشرف عليه وشاركت في كتابته بمشاركة ما يقرب من 35 أديبًا من العالم العربي والإسلامي.

أخطط لتكون “الموسوعة العربية لأمراض العيون” 12 جزءًا

وماذا عن جهودكم في تبسيط العلوم الطبية؟

هي جزء من القائمة.. الموسوعة العربية لأمراض العيون، التي أخطط لها أن تكون 12 جزءًا. وكذلك كتاب حكيم عيون، وتحت الطبع كتاب المياه الزرقاء والزهايمر. والعديد من المقالات العلمية المبسطة في علوم الطب والفضاء التي نُشرت في المجلات والصحف المصرية والعربية.

وفي ختام هذا الحوار.. أعود بنظري وفكري للخلف عبر حياة تخطت نصف القرن.. لأدرك أن هناك حكمة من تواجدي، هناك رسالة لكل منا، عليه أن يتمها.. وأنا أدعو الله أن يمنحني الصحة والرشاد لأكمل المسيرة .. وأتم الرسالة التي خلقني الله من أجلها.. وأحاول أن أكون لبنة في بناء حضارتنا.