جاء أول تعرف للمثقفين اليابانيين على الإسلام عام 1877م عندما تُرجم إلى اليابانية كتاب عن حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ اليابانيون يتعرفون على الإسلام أكثر من خلال الاحتكاك بالمسلمين الصينيين من قبيلة “هوي” واقترن تصور اليابانيين عن الإسلام بالصين في ذلك الوقت المبكر لذا وصفوا الإسلام بأنه “كيكيو” أي “دين قبيلة هوي”. فماذا عن رحلة الحج اليابانية؟

وعلى الجانب الآخر كانت الآمال تحدو بعض المصلحين والدعاة المسلمين في أن يكون للإسلام موطأ قدم في اليابان، فرحلوا إليها وكتبوا عنها، مثل الشيخ عبد الرشيد إبراهيم، الذي اندمج لسنوات طويلة في المجتمع اليابان ووضع نواة للإسلام في تلك الأراضي البعيدة، وكذلك الشيخ علي الجرجاوي[1] مؤلف كتاب “الرحلة اليابانية” فكانت البدايات مبشرة إذ لا توجد ذاكرة تاريخية محملة بالدماء والأشلاء بين اليابانيين والمسلمين، كما أن الشرق في تلك الفترة كان يفتخر باليايان باعتبارها أول أمة شرقية تنهض وتنافس الأمم الغربية.

وهنا، وفي خضم الحديث عن رحلة الحج اليابانية، بدأ الإسلام يطرق أبواب اليابان، وأخذت شعائره وفرائضه تعرف طريقها إلى اليابانيين خاصة فريضة الحج،  وكان عمر ياما أوكا، هو أول ياباني، يؤدي الفريضة عام (1327هـ=1909م) بعد إسلامه على يد الداعية عبد الرشيد إبراهيم، وقال عمر بعد زيارته للمدينة المنورة:” لي الفخر بأن أكون أول ياباني تشرف بزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ” وسجل ذكرياته في كتاب بعنوان “رحلة عبر الجزيرة العربية” طبع عام 1912، ثم حج قام البروفيسور”تناكا أيبييه” الذي تسمى بالحاج “نور تناكا”[2] بالحج عام 1924م، وسجل رحلته في كتاب بعنوان “الحج في الإسلام: السحاب الأبيض الطافي في الأفق” في (320) صفحة، ثم جاءت رحلة ” إينوموتو موموتارو ” التي صدرت عام 1939 بعنوان “يوميات الحج في مكة” الذي أدى الحج مع تاكيشي سوزوكي، التي سيتناول المقال رحلته.

من هو تاكيشي؟

حج تاكيشي سوزوكي Takishi Suzuki أو ” الحاج محمد صالح ” ثلاث مرات، وكتب عن رحلته في المرة الثالثة عام 1938، أما رحلته الأولى فكانت عام 1935، والثانية عام 1937.

ولد تاكيشي في أبريل 1904م قريبا من طوكيو، سافر إلى العمل في إندونيسيا عام 1928، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وتأثر بالمسلمين الإندونيسيين، يقول:”وجدت نفسي مشدودا إلى الإسلام، وشعرت باهتمام شديد نحو هذا الدين” وقد استمر تاكيشي في العمل سنوات طاف فيها إندونيسيا وتعرف على كثير من المسلمين وتأثر بهم، فأخذ الإسلام يطرق قلبه، يقول عن تجربته:” شعرت بشيء يهزني من الداخل، يدفعني للتفكير، فرق قلبي وشعرت بالطمأنينة كأن شيئا ما يحتويني” بحث عن الإسلام وسط الإندونيسيين ثماني سنوات، فكانت رحلة تأمل وطمأنينة، وكان الصلاة ذات تأثير عميق في نفسه بعد إسلامه، كما تأثر بروح الإخاء التي كانت موجودة بين الإندونيسيين، في ذلك الوقت، والتي كانت أقرب إلى الفطرة السلمية التي لم تلوثها الصراعات المادية.

كان تاكيشي يصر على أن الإسلام دين شديد الوضوح وليس دينا غامضا، يقول:” الإسلام أوضح دين بين أديان الأرض وأبسطها وأسهلها”، وقبل اكتمال مسجد طوكيو عام 1938 عقد عقد قرآنه في المسجد، فكان حدثا فريدا وأنجب ثلاثة أطفال، ثم سافر إلى جزيرة جاوة الإندويسية وكان عمره (35) عاما، بترتيب مع الحكومة اليابانية وساهم في العمل العسكري من أجل استقلال إندونيسيا،وأصبح قائدا في جماعة جاوة الإسلامية، فكان  للرجل دور في قيادة حركة الجهاد الإندونيسية حتى العام 1945، ووقع خلاف بينه وبين حكومته عام 1945، فقد كان حريصا على وضع البسملة في الدستور الإندونيسي بعد الاستقلال، لكن المسؤلين اليابانيين عارضوا هذا التوجه، فأصر تاكيشي على موقفه، ووقع الصدام بينه وبين العسكريين اليابانيين الموجودين هناك، فقرر أن يسافر إلى اليابان  لعرض الخلاف على مستوى أعلى من المسؤولين في طوكيو، لكنه توفي أثناء ركوبه السفينة المتجه إلى اليابان، بعدما تعرضت لتدمير من قبل غواصة أمريكية في أبريل 1945، وتوفي معه مسلم آخر هو السيد “أكئيو كاساما” الذي كان عضوا في الجمعية الإسلامية العظمى في اليابان، وهي جمعية كان يدعمها رئيس الوزراء الياباني “سنجورو هياتشي”.

ياباني في مكة

كتب تاكيشي عن رحلته الثالثة للحج عام 1938 كتابا عنوانه باليابانية “الحج إلى مكة المكرمة” نشره عام 1943، وجاء ترجمته بالعربية بعنوان “ياباني في مكة[3]، وهدف أن يقدم صورة لليابانيين عن الحج، وعن الجزيرة العربية التي لها صورة ذهنية سيئة في العقلية اليابانية، إذ يتخيلها اليابانيون –في تلك الفترة- بأنها مكان مظلم مجهول ومخيف وغامض، ورأى أن الكتاب يمكن أن يساهم في تقديم إضاءات عن هذا الدين.

الكتاب تضمن وصفا دقيقا لمعالم مكة المكرمة، قبل ثمانين عاما، من الناحية العمرانية والسكانية، ومشكلات الحج، والعقبات التي تواجه الحجيج، والطريف أن تاكيشي قدم شرحا مبسطا لبعض الأحكام الفقهية المتعلقة بالحج، كشفت عن عمق ثقافته الإسلامية، كما تناول بعض قضايا السياسة الدولية التي كانت موجودة في زمنه مثل الحرب الصينية-اليابانية، وعلاقة بريطانيا بالعالم الإسلامي.

وفي إطار الحديث عن رحلة الحج اليابانية، يجب أن نقول أن بداية الحج كانت مؤلمة لـ”تاكيشي” فقد كان يرافقه أحد الشخصيات الإسلامية من إقليم منشوريا، وهو السيد تشان، وكانت جزءا من الصين، ولم تكن مصر تعترف بذلك الإقليم،وحاول الحصول على تأشيرة لدخول الأراضي المصرية للإنطلاق منها إلى الحج، ولكن لم تفلح جهوده، كان تاكيشي يناقش المسؤلين المصريين من منطلق الأخوة الإسلامية ونجح في الحصول على التأشيرة لصديقه بعد مفاوضات استمرت ثلاث ساعات، وقال للضابط:”نحن ذاهبون إلى الحج، واللهُ لم يضع حدودا بين المسلمين..فإذا اعترضتهم فسوف أناجي الله في صلواتي وأخبره بأننا قدمنا لأداء فريضة الحج ولكنكم منعتمونا”، فتأثر الضباط وأعطاه التأشيرة، ثم انطلق هو وصديقه إلى مكة المكرمة في رحلة مفعمة بالإيمان.

أبحرت السفينة ثلاثة أيام وعلى متنها استمع إلى الدعاء والابتهال من الحجيج واندمج مع المسلمين من الجنسيات المختلفة، وكان الحجيج يقابلونه بمشاعر الود والحفاوة عندما علموا أنه من اليابان.

كان أول ما تلقاه عند وصوله إلى جدة هو لفحات الحر الشديد، لكن شوقه لرؤية البيت الحرام فاقت أشعة الشمس الحارقة، واستوقفه تأقلم الحجيج مع لفح الحر الشديد، والرمال الساخنة التي تضرب الأجساد، وهم يقابلون ذلك بصبر وقوة ومحبة، وبعضهم قادم من ثلوج سيبيريا، والآخر من أفريقيا الإستوائية، فكانت تلك المشاهد تهزه هزا عنيفا وتجعل الدمع ينهمر من عينيه كثيرا.

كانت رحلة الحج اليابانية رحلة قاسية، في تلك الفترة قبل ثمانين عاما، فالطرق أغلبها غير ممهد، والخدمات قليلة، والمخاطر متعددة، ورغم ذلك كان يشعر بمتعة كبيرة، ثم إزدادت مشاعره مع دخوله للحرم الشريف، يقول:”لم أجرب مثل هذا الشعور في حياتي من قبل، كنت أشعر بأن ذراعين كبيرتين تحيطان بي، تعانقاني، تضفيان على كياني شعورا بالأمان والطمأنينة” .

عاني تاكيشي من الحرارة الشديدة يوم عرفة، والتي لم يرى مثلها في حياته، لكن الإيمان كان يخفف عنه تلك الضغوط، ومن المعلومات الطريفة التي ذكرها أن عدد الحجاج عام 1938 كان حوالي (150) ألف حاج، ولا توجد إلا ألف سيارة لنقلهم، فكان يتم اللجوء إلى الإبل والسير على الأقدام كثيرا، وفي هذه اثناء اختلط تاكيشي مع سكان مكة وكتب عن عاداتهم الاجتماعية، وحفاوتهم به عندما علموا أنه من مسلمي اليابان، وفي أثناء حجه شاهد عملية اغتيال فاشلة للملك عبد العزيز آل سعود أثناء طوافه في الحرم، ومن الأشياء التي تحدث عنها أنه زار في مكة سوق الجواري والعبيد، ورصد السيول التي تتعرض لها مكة في بعض الأحيان عقب انتهاء موسم الحج، وكأن المطر يطهر الأرض ويغسلها بعد هذا الاجتماع الكبير.


[1] الشيخ علي أحمد الجرجاوي قام برحلة إلى اليابان عام ١٩٠٦م لحضور مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني علماءَ الأديان لعرض عقائدهم على الشعب الياباني، وقد أنفق الجرجاوي على رحلته من ماله الخاص فباع خمسة أفدنة من أرضه لينفق على الرحلة، يُعَدُّ الجرجاوي أول داعية للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث؛ فقد أسس هو وأحد الدعاة من بلاد الهند مركزًا للدعوة الإسلامية بمدينة طوكيو، وأسلم على يديه الكثير من اليابانيين.

[2] الحاج تناكا: وهو أحد رواد الدراسات الإسلامية في اليابان، وهو ثاني مسلم ياباني يؤدي فريضة الحج، ولد عام 1882 وأسلم في الصين في يناير عام 1924 ثم أدى فريضة الحج لأول مرة في نفس العام وبعد عشر سنوات ذهب للحج ثانية عام  1933، وبعدها بثلاثة أشهر توفي عن عمر ينهز 52 عاما، وهو من الرموز الثقافية الكبيرة لمسلمي اليابان.

[3] نشر الكتاب بالعربية عام 2010 ترجمه الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم، وسارة تاكاهاشي، وكان عدد صفحاته (284)، ويحوي (11) صورة.


المراجع

(1) – تاكيشي سوزوكي-ياباني في مكة-ترجمة: سمير عبد الحميد إبراهيم وسارة تاكاهاتشي-مكتبة الملك عبد العزيز العامة-الرياض-الطبعة الأولى-2010

(2) – كرم حلمي فرحات- الثقافة العربية و الإسلامية فى اليابان-الدار الثقافية للنشر-القاهرة-2008

(3) – تركي بن عبد الله السكران-نماذج من الرحلات اليابانية إلى الجزيرة العربية:دراسة تحليلية-مجلة كلية أصول الدين والدعوة-العدد (34)-2016