التشويق للرحلة: مكانة الصلاة ومأدبتها

(1) الصلاة نعمة ورحمة وقرة عين

لا ريب أن الصلاة قرة عيون المحبين لله، ولذة أرواح الموحدين له، ومحك أحوال الصادقين معه، وميزان أحوال السالكين إليه، وهي رحمة الله المهداة إلى عبيده، هداهم إليها، وعرفهم بها، رحمة بهم، وإكرامًا لهم؛ لينالوا بها شرف كرامته، والفوز بقربه، لا حاجة منه إليهم، بل منه مَنًّا، وفضلًا منه عليهم، وتعبّد بها القلب والجوارح جميعًا، وجعل حظ القلب منها أكمل الحظين وأعظمهما، وهو إقباله على ربه سبحانه، وفرحه وتلذذه بقربه، وتنعمه بحبه، وابتهاجه بالقيام بين يديه، وانصرافه حال القيام بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميل حقوق عبوديته، حتى تقع على الوجه الذي يرضاه.

(2) الصلاة مأدبة متنوعة الأذواق والعطايا

ولما امتحن الله – سبحانه – عبده بالشهوات وأسبابها من داخلٍ فيه وخارجٍ عنه، اقتضت تمام رحمته به وإحسانه إليه أن هيَّأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان والتحف والخِلَع والعطايا، ودعاه إليه كل يوم خمس مرات، وجعل كل لون من ألوان تلك المأدبة لذة ومنفعة ومصلحة – لهذا العبد الذي قد دعاه إلى المأدبة – ليست في اللون الآخر؛ لتكمل لذة عبده في كل لون من ألوان العبودية، ويكرمه بكل صنف من أصناف الكرامة… وليثبه عليه نورًا خاصًا، وقوة في قلبه وجوارحه، وثوابًا خاصًا يوم لقائه… فدعا الله – سبحانه – الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس رحمة منه عليهم، وهيأ لهم فيها أنواع العبادة؛ لينال العبد من كل قول وفعل وحركة وسكون حظه من عطاياه.

التهيئة القلبية للرحلة: مفتاح تذوق الصلاة إقبال القلب على الله

وكان سِرُّ الصلاة ولبها إقبال القلب فيها على الله، وحضوره بكليته بين يديه، فإذا لم يُقبل عليه، واشتغل بغيره وَلَهًا بحديث النفس، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب المَلِك معتذرًا من خطئه وزللـِه، مستمطرًا لسحايب جوده ورحمته، مستطعمًا له ما يقوت قلبه؛ ليقوى على القيام في خدمته، فلما وصل إلى الباب، ولم يبق إلا مناجاة المَلِك، التفت عن الملك، وزاغ عنه يمينًا، أو ولّاه ظهره، واشتغل عنه بأمقت شيء إلى المَلِك، وأقله عنده قدرًا، فآثره عليه، وصيره قبلة قلبه، ومحل توجهه، وموضع سره.

تذوق مقدمات رحلة الصلاة

(1)  تذوق الدعوة لإقامة الصلاة، وفضل الخشوع فيها

فأُمرنا بإقامة الصلاة، وهو الإتيان بها قائمة تامة القيام والركوع والسجود والأذكار، وقد علق الله – سبحانه – الفلاح بخشوع المصلي في صلاته، فمن فاته خشوع الصلاة، لم يكن من أهل الفلاح، ويستحيل حصول الخشوع مع العجلة والنقر قطعًا، بل لا يحصل الخشوع قط إلا مع الطمأنينة، وكلما زاد طمأنينة ازداد خشوعًا، وكلما قل خشوعه اشتدت عجلته، حتى تصير حركة يديه بمنزلة العبث الذي لا يصحبه خشوع، ولا إقبال على العبودية.

والله – سبحانه – قد قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، وقال: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [المائدة: 55]، وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت: 45]، وقال: {فَإِذَا اطْمَأنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103]، وقال: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162]، وقال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم: 40]، وقال لموسى عليه السلام: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].

فلن تكاد تجد ذكر الصلاة في موضع من التنزيل إلا مقرونًا بإقامتها، فالمصلون في الناس قليل، ومقيم الصلاة منهم أقل القليل، كما قال عمر – رضي الله عنه – في الحج: “الحاج قليل، والركب كثير.

(2) تذوق الوضوء والتطهر للصلاة

فبالوضوء يتطهر العبد من الأوساخ، ويُقدم على ربه متطهرًا، والوضوء له ظاهر وباطن، وظاهره طهارة البدن وأعضاء العبادة، وباطنه وسره طهارة القلب من أوساخه وأدرانه بالتوبة؛ ولهذا يقرن – سبحانه – بين التوبة والطهارة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، وشرع النبي – صلى الله عليه وسلم – للمتطهر بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين». فكمل له مراتب الطهارة باطنًا وظاهرًا. فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة، فشرع أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرًا وباطنًا أُذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه.

(3) تذوق القيام بين يدي الله، واستقبال القبلة، والإقبال على الله للصلاة

فإذا وقف العبد بين يدي ربه موقف العبودية والتذلل والانكسار، فقد استدعى عَطْف سيده عليه، وإقباله عليه… وأُمر بأن يستقبل القبلة بيته الحرام بوجهه، ويستقبل الله بقلبه… ثم قام بين يديه مقام الذليل الخاضع المسكين، المستعطف لسيده، وألقى بيديه مسلمًا مستسلمًا، ناكس الرأس، خاشع القلب، مطرق الطرف، لا يلتفت قلبه عنه ولا طرفه يمنة ولا يسرة، بل قد توجه بقلبه كله إليه، وأقبل بكليته عليه. 

تذوق مقامات رحلة الصلاة

المقام الأول: تذوق تكبيرة الإحرام

وإذا قال العبد: “الله أكبر” شاهد كبرياء الله… وكَبَّرَه بالتعظيم والإجلال، وواطأ قلبه في التكبير لسانه، فكان الله أكبر في قلبه من كل شيء، وصِدق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله يشغله عنه، فإذا اشتغل عن الله بغيره، وكان ما اشتغل به أهم عنده من الله، كان تكبيره بلسانه دون قلبه. فالتكبير:

  • يخرجه من لبس رداء التكبر المنافي للعبودية،
  • ويمنعه من التفات قلبه إلى غير الله.

فإذا كان الله عنده وفي قلبه أكبر من كل شيء، منعه حق قول “الله أكبر” والقيام بعبودية التكبير عن هاتين الآفتين اللتين هما من أعظم الحجب بينه وبين الله.

المقام الثاني: تذوق دعاء الاستفتاح

فإذا قال المصلي: «سبحانك اللهم وبحمدك» وأثنى على الله بما هو أهله، فقد خرج عن الغفلة التي هي حجاب أيضًا بينه وبين الله. وأتى بالتحية والثناء الذي يخاطب به المَلِك عند الدخول عليه؛ تعظيمًا له وتمجيدًا، ومقدمة بين يدي حاجته، فكان في هذا الثناء من أدب العبودية ما يستجلب به إقباله عليه، ورضاه عنه، وإسعافه بحوائجه.

وبقول المصلي: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك ولا إله غيرك» يشاهد بقلبه ربًا منزهًا عن كل عيب، سالمًا من كل نقص، محمودًا بكل حمد، فحمده يتضمن وصفه بكل كمال، وذلك يستلزم براءته من كل نقص تبارك اسمه … وكمال الاسم من كمال مسماه، فإذا كان هذا شأن اسمه – الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء – فشأن المسمى أعلى وأجل.

وقول المصلي “وتعالى جَدُّك” أي: ارتفعت عظمة الرّب، وجلّت فوق كل عظمة، وعلا شأنه على كل شأن، وقهر سلطانه على كل سلطان، فتعالى جده أن يكون معه شريك في مُلكه وربوبيته، أو في إلاهيته، أو في أفعاله، أو في صفاته، كما قال مؤمن الجن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن: 3]، فكم في هذه الكلمات من تجلٍ لحقائق الأسماء والصفات على قلب العارف بها.

المقام الثالث: تذوق دلالة الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم

وقبل أن يشرع المصلي في القراءة، يقدم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان، فإنه أحرص ما يكون على العبد في مثل هذا المقام، الذي هو أشرف مقاماته، وأنفعها له في دنياه وآخرته، فهو أحرص شيء على صرفه عنه، واقتطاعه دونه بالبدن والقلب، فإن عجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه بالبدن، اقتطع قلبه وعطله عن القيام بين يدي الرب تعالى، فأُمر العبد بالاستعاذة بالله منه؛ ليسلم له مقامه بين يدي ربه، وليحيي قلبه، ويستنير بما يتدبره ويتفهمه من كلام سيده، الذي هو سبب حياته ونعيمه وفلاحه، فالشيطان أحرص على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة.

ولما علم – سبحانه – حسد العدو وتفرغه للعبد، وعجز العبد عنه، أمره بأن يستعيذ به سبحانه، ويلتجئ إليه في صرفه عنه، فيكتفي بالاستعاذة مؤنة محاربته ومقاومته، فكأنه قيل له: لا طاقة لك بهذا العدو، فاستعذ بي، واستجر بي، أكفيكه، وأمنعك منه…

فإذا استعاذ بالله من الشيطان بَعُدَ منه، فأفضى القلب إلى معاني القرآن، ووقع في رياضه المونقة، وشاهد عجائبه التي تبهر العقول، واستخرج من كنوزه وذخائره ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وكان الحائل بينه وبين ذلك النفس والشيطان، والنفس منفعلة للشيطان سامعة منه، فإذا أبعد عنها وطُرد لمَّ بها الملك، وثبتها، وذكرها بما فيه سعادتها ونجاتها.

فبقول المصلي: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» يكون قد آوى إلى ركنه الشديد، واعتصم بحوله وقوته من عدوه الذي يريد أن يقطعه عن ربه، ويباعده عن قربه؛ ليكون أسوأ حالًا.

المقام الرابع: استشعار مخاطبة الله ومناجاته في الصلاة

فإذا أخذ المصلي في قراءة القرآن فقد قام في مقام مخاطبة ربه ومناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرض لمقته وسخطه أن يناجيه ويخاطبه وهو معرض عنه ملتفت إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك مقته، ويكون بمنزلة رجل قربه ملك من ملوك الدنيا فأقامه بين يديه، فجعل يخاطبه الملك، وقد ولّاه قفاه، أو التفت عنه بوجهه يمنة ويسرة، فما الظن بمقت الملك لهذا، فما الظن بالملك الحق المبين الذي هو رب العالمين وقيوم السماوات والأرض.

المقام الخامس: تذوق دلالات آيات الفاتحة وعبودية كل آية

من ذاق طعم الصلاة علم أن لكل آية من آيات الفاتحة عبودية وذوق ووجد يخصها.

  • تذوق دلالة {الْحَمْدُ}:

فعند قول المصلي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يجد تحت هذه الكلمة إثبات كل كمال للرب تعالى، فعلًا ووصفًا واسمًا، وتنزيهه عن كل سوء وعيب، فعلًا ووصفًا واسمًا، فهو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه، منزه عن العيوب والنقائص في أفعاله وأوصافه وأسمائه، فأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل، لا تخرج عن ذلك، وأوصافه كلها أوصاف كمال ونعوت جلال، وأسماؤه كلها حسنى، وحمده قد ملأ الدنيا والآخرة والسماوات والأرض وما بينهما وما فيهما، فالكون كله ناطق بحمده…

وهو المحمود لذاته، وإن لم يحمده العباد، كما أنه هو الواحد الأحد ولو لم يوحده العباد، والإله الحق وإن لم يؤلهوه…

فله الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فهذه المعرفة من عبودية الحمد.

ومن عبوديته أيضًا أن يعلم أن حمده لربه – سبحانه – نعمة منه عليه، يستحق عليها الحمد، فإذا حمده على هذه النعمة استوجب عليه حمدًا آخر على نعمة حمده، وهلم جرا. فالعبد، ولو استنفد أنفاسه كلها في حمده على نعمة من نعمه، كان ما يجب له من الحمد ويستحق فوق ذلك وأضعاف، ولا يُحصي أحد البتة ثناء عليه بمحامده.

  • تذوق دلالة اسم “الله”:

ومن ذِكر اسم {الله} تبارك وتعالى يشاهد المصلي بقلبه إلهًا معبودًا موجودًا، لا يستحق العبادة غيره، ولا تنبغي إلا له، قد عنت له الوجوه، وخضعت له الموجودات، وخشعت له الأصوات: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم:26].

  •  تذوق دلالة {رَبِّ الْعَالَمِينَ}:

ومن ذِكر {رَبِّ الْعَالَمِينَ} يشاهد المصلي بقلبه قيومًا قام بنفسه، وقام به كل شيء، فهو قائم على كل نفس… قد استوى على عرشه، وتفرد بتدبير ملكه، فالتدبير كله بيديه، ومصير الأمور كلها إليه، فمراسيم التدبيرات نازلة من عنده على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع، والخفض والرفع والإحياء والإماتة والتوبة والعزل، والقبض والبسط، وكشف الكروب، وإغاثة الملهوفين، وإجابة المضطرين {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ} [الرحمن : 29] لا مانع لما أعطى، ولما معطي لما منع، ولا معقب لحكمه، ولا راد لأمره، ولا مبدل لكلماته، تعرج الملائكة والروح إليه، وتعرض الأعمال أول النهار وآخره عليه، فيقدر المقادير ويوقت المواقيت ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها قائمًا بتدبير ذلك كله وحفظه ومصالحه.

  • تذوق دلالة {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}:

ولقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} عبودية تخصها، وهي شهود عموم رحمته وسعتها لكل شيء وأخذ كل موجود بنصيبه منها، ولا سيما الرحمة الخاصة التي أقامت عبده بين يديه في خدمته يناجيه بكلامه ويتملّقه ويسترحمه ويسأله هدايته ورحمته وإتمام نعمته عليه، فهذا من رحمته بعبده، فرحمته وسعت كل شيء، كما أن حمده وسع كل شيء.

ويشهد المصلي عند ذكر اسم { الرَّحْمَنِ} ربًا محسنًا إلى خلقه بأنواع الإحسان، متحببًّا إليهم بصنوف النعم، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأوسع كل مخلوق نعمة وفضلًا، فوسعت رحمته كل شيء، ووسعت نعمته كل حي، فبلغت رحمته حيث بلغ علمه… وخلق خلقه برحمته، وأنزل كتبه برحمته، وأرسل رسله برحمته، وشرع شرائعه برحمته، وخلق الجنة برحمته، والنار أيضًا برحمته، فإنها سوطه الذي يسوق به عباده المؤمنين إلى جنته، ويُطهر بها أدران الموحدين من أهل معصيته، وسجنه الذي يسجن فيه أعداءه من خليقته.

فتأمل ما في أمره ونهيه ووصاياه ومواعظه من الرحمة البالغة، والنعمة السابغة، وما في حشوها من الرحمة والنعمة، فالرحمة هي السبب المتصل منه بعباده، كما أن العبودية هي السبب المتصل منهم به، فمنهم إليه العبودية ومنه إليهم الرحمة.

ومن أخص مشاهد هذا الاسم شهود المصلي نصيبه من الرحمة الذي أقامه بها بين يدي ربه، وأهله لعبوديته ومناجاته، وأعطاه ومنع غيره وأقبل بقلبه وأعرض بقلب غيره وذلك من رحمته به.

  • تذوق دلالة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}:

فإذا قال المصلي: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فهنا شهد المجد الذي لا يليق بسوى الملك الحق المبين، فيشهد ملكًا قاهرًا قد دانت له الخليقة، وعنت له الوجوه، وذلت لعظمته الجبابرة، وخضع لعزته كل عزيز… يرضى على من يستحق الرضا، ويثيبه ويكرمه ويدنيه، ويغضب على من يستحق الغضب، ويعاقبه ويهينه ويقصيه… له دار عذاب، وهي النار، وله دار سعادة عظيمة، وهي الجنة…

ثم يُعطي المصلي قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} عبوديتها ويتأمل تضمنها لإثبات المعاد، وتفرد الرب فيه بالحكم بين خلقه، وأنه يوم يدين فيه العباد بأعمالهم في الخير والشر وذلك من تفاصيل حمده، وموجبه…

  • تذوق دلالة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :

فإذا قال المصلي: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } تأمّل عبودية هاتين الكلمتين وحقوقهما، ومَيَّزَ الكلمة التي لله والكلمة التي للعبد، وَفَقِهَ سرَّ كون إحداهما لله والأخرى للعبد، وميز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، والتوحيد الذي تقتضيه كلمة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وَفَقِهَ سرَّ كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما والدعاء بعدهما، وَفَقِهَ تقديم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وتقديم المعمول على الفعل مع الإتيان به مؤخرًا أوجز وأشد اختصارًا، وسر إعادة الضمير مرة بعد مرة… وَعَلِمَ كيف يدور القرآن من أوله إلى آخره على هاتين الكلمتين، بل كيف يدور عليهما الخلق والأمر والثواب والعقاب والدنيا والآخرة، وكيف تضمنتا لأجلِّ الغايات وأكمل الوسائل… فأجل الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجل الوسائل…

  • تذوق المصلي دلالة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ…} ومدى حاجته إلى طلب هذه الهداية :

ثم تأمّل شدة فاقته وضرورته إلى هذه المسألة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} التي ليس هو إلى شيء أشد فاقة وحاجة منه إليها البتة، فإنه محتاج إليه في كل نفس وطرفة عين، وهذا المطلوب من هذا الدعاء لا يتم إلا بالهداية إلى الطريق الموصل إليه سبحانه… فالعبد مفتقر إلى هذه الهداية في ظاهره وباطنه في جميع ما يأتيه ويذره من:

  • أمور قد فعلها على غير الهداية علمًا وعملًا وإرادة، فهو محتاج إلى التوبة منها، وتوبته منها هي الهداية.
  • وأمور قد هُدي إلى أصلها دون تفصيلها، فهو محتاج إلى هداية تفاصيلها.
  • وأمور قد هُدي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها؛ لتتم له الهداية ويزداد هدى إلى هداه.
  • وأمور هو يحتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها بالمستقبل، مثل ما حصل له في الماضي.
  • وأمور هو خال عن اعتقاد فيها، فهو يحتاج إلى الهداية فيها.
  • وأمور يعتقد فيها بخلاف ما هي عليه، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد، وتثبت فيه ضده.
  • وأمور لم يفعلها، فهو يحتاج إلى فعلها على وجه الهداية.
  • وأمور قد هُدي إلى الاعتقاد الحق والعمل الصواب فيها، فهو محتاج إلى الثبات عليها.
  • وأمور من الهداية هو قادر عليها، ولكن ليس عنده إرادة فعلها، فهو محتاج في تمام الهداية إلى إرادة يفعلها بها.
  • وأمور منها هو غير قادر على فعلها مع كونه مريدًا، فهو محتاج في هدايته إلى إقداره عليها.

إلى غير ذلك من أنواع الهدايات.

ولذا؛ فَرَضَ الله – سبحانه – على عبده أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله – وهي الصلاة – مرات متعددة في اليوم والليلة.

ومضمون {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} :

  • معرفة الحق،
  • وقصده وإرادته،
  • والعمل به،
  • والثبات عليه،
  • والدعوة إليه، والصبر على أذى المدعو.

فباستكمال هذه المراتب الخمس تستكمل الهداية، وما نقص منها نقص من هدايته.

ثم بين أن أهل هذه الهداية هم المختصون بنعمته، دون {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وهم الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه، ودون {الضَّالِّينَ}، وهم الذين عبدوا الله بغير علم… فسبيل المُنعَم عليه مغايرة لسبيل أهل الباطل كلها علمًا وعملًا.

  • تذوق دلالة “آمين”:

ثم شرع له التأمين عند هذا الدعاء؛ تفاؤلًا بإجابته وحصوله، وطابعًا عليه، وتحقيقًا له، ولهذا اشتد حسد اليهود للمسلمين عليه حين سمعوهم يجهرون به في صلاتهم… وهذا التأمين من زينة الصلاة، كرفع اليدين الذي هو زينة الصلاة، واتباع للسنة، وتعظيم أمر الله…

 المقام السادس: تذوق حلاوة المناجاة في الفاتحة وما تيسر من القرآن

وليقف عند كل آية من الفاتحة ينتظر جواب ربه له، وكأنه سمعه يقول: “حمدني عبدي”، حين يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وقف لحظة ينتظر قوله: “أثنى علي عبدي”، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، انتظر قوله: «مجّدني عبدي»، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، انتظر قوله: “هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل”، فإذا قال:  {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر الفاتحة، انتظر قوله: “هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل”، كما جاء في الحديث القدسي الصحيح، الذي أوله ((قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل…)).

فيا لذة قلبه وقرة عينه وسرور نفسه بقول ربه “عبدي” خمس مرات، فو الله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات وغيم النفوس لاستطيرت فرحًا وسرورًا بقول ربها وفاطرها ومعبودها: “حمدني عبدي، وأثنى علي عبدي، ومجّدني عبدي، هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل”.

ولما كان قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إخبارًا عن حمده تعالى، قال الله: “حمدني عبدي”، ولما كان قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إعادة وتكريراً لأوصاف كماله، قال: “أثنى علي عبدي”، فإن الثناء إنما يكون بتكرار المحامد وتعداد أوصاف المحمود، ولما وصفه سبحانه بتفرده بـ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، وهو الملك الحق المتضمن لظهور عدله وكبريائه وعظمته ووحدانيته وصدق رسله، سمى هذا الثناء مجدًا، فقال: “مجّدني عبدي”، فإن التمجيد هو الثناء بصفات العظمة والجلال.

وبعد الفاتحة يأخذ المصلي في مناجاة ربه بكلامه سبحانه، واستماعه من الإمام، بالإنصات وحضور القلب وشهوده، وأفضل أذكار الصلاة ذكر القيام، وأحسن هيئة المصلي هيئة القيام، فخصت بتلاوة كلام الرب ﷻ، ولهذا نهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود؛ لأنهما حالتا ذل وخضوع وتطامن وانخفاض، ولهذا شرع فيهما من الذكر ما يناسب هيئتهما.

المقام السابع: تذوق عبودية رفع اليدين والتكبير عند الركوع:

ثم شرع للمصلي رفع اليدين عند الركوع؛ تعظيمًا لأمر الله، وزينة للصلاة، وعبودية خاصة لليدين، كعبودية باقي الجوارح، واتباعًا لسنة رسول الله ، فهو حلية الصلاة، وزينتها، وتعظيمًا لشعائرها.

ثم شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من ركن إلى ركن كالتلبية في انتقالات الحاج من مَشعر إلى مَشعر، فهو شعار الصلاة، كما أن التلبية شعار الحج؛ ليعلم العبد أن سر الصلاة هو تعظيم الرب تعالى وتكبيره بعبادته وحده.

كلما صحبتُ ابن القيم في هذه الرحلة تجدّد تذوقي للصلاة

محمد المصلح

المقام الثامن: تذوق الركوع وتعظيم الله فيه وتسبيحه

ثم شرع له بأن يخضع للمعبود – سبحانه – بالركوع خضوعًا لعظمته، واستكانة لهيبته، وتذللًا لعزته، فثنى العبد له صُلبه، ووضع له قامته، ونكّس له رأسه، وحنى له ظهره، معظِّمًا له، ناطقًا بتسبيحه المقترن بتعظيمه، فاجتمع له خضوع القلب، وخضوع الجوارح، وخضوع القول، على أتم الأحوال، وجمع له في هذا الذكر بين الخضوع والتعظيم لربه، والتنزيه له عن خضوع العبيد، وأن الخضوع وصف العبد، والعظمة وصف الرب.

وتمام عبودية الركوع أن يتصاغر العبد ويتضاءل، بحيث يمحو تصاغره كل تعظيم منه لنفسه، ويثبت مكانه تعظيمه لربه، وكلما استولى على قلبه تعظيم الرب ازداد تصاغره هو عند نفسه…

وشرع للراكع أن يذكر عظمة ربه في حال انخفاضه هو وتطامنه وخضوعه… وأفضل ما يقول الراكع على الإطلاق «سبحان ربي العظيم» فإن الله – سبحانه – أمر العباد بذلك، وعين المبلغ عنه السفير بينه وبين عباده هذا المحل لهذا الذكر لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال : “اجعلوها في ركوعكم”.

وبالجملة، فسِر الركوع تعظيم الرب جل جلاله بالقلب والقالب والقول؛ ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم – “أما الركوع فعظموا فيه الرب”.

المقام التاسع: تذوق الاعتدال من الركوع وأذكاره

ثم يرفع المصلي رأسه عائدًا إلى أكمل هيئاته منتصب القامة معتدلها، فيحمد ربه ويثني عليه بأن وفقه لذلك الخضوع، ثم نقله منه إلى مقام الاعتدال والاستواء بين يديه، واقفًا في خدمته كما كان في حال القراءة…

وجعل شعار هذا الركن حمدًا لله، والثناء عليه، وتحميده، فافتتح هذا الشعار بقول المصلي: «سمع الله لمن حمده» أي سَمِعَ سَمْعَ قبول وإجابة، ثم شفع بقوله: «ربنا ولك الحمد»، ولا يهمل أمر هذه “الواو” في قوله: «ربنا ولك الحمد»، فإنه قد ندب الأمر بها في الصحيحين، وهي تجعل الكلام في تقدير جملتين قائمتين بأنفسهما، فإن قوله: «ربنا» متضمن في المعنى: “أنت الرب والملك القيوم الذي بيديه أَزِمَّةُ الأمور، وإليه مرجعها”، فعطفها على هذا المعنى المفهوم من قوله: «ربنا» على قوله: «ولك الحمد» فتضمن ذلك معنى قول الموحد له الملك وله الحمد.

ثم أخبر عن شأن هذا الحمد وعظمته قدرًا وصفة، فقال: «ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد» أي: قدر ملء العالم العلوي والسفلي والفضاء الذي بينهما، فهذا الحمد قد ملأ الخلق الموجود، وهو يملأ ما يخلقه الرب – تبارك وتعالى – بعد ذلك، وما يشاؤه، فحمده قد ملأ كل موجود، وملأ ما سيوجد…

ثم أتبع ذلك بقوله: «أهل الثناء والمجد»، فعاد الأمر بعد الركعة إلى ما افتتح به الصلاة قبل الركعة، من الحمد والثناء والمجد.

ثم أتبع ذلك بقوله: «أحق ما قال العبد»، تقريرًا لحمده، وتمجيده، والثناء عليه، وأن ذلك أحق ما نطق به العبد.

ثم أتبع ذلك بالاعتراف بالعبودية، وأن ذلك حكم عام لجميع العبيد «وكلنا لك عبد».

ثم عقب ذلك بقوله: «لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما مَنعتَ، ولا ينفعُ ذا الجَدَّ منك الجَد»، وكان يقول ذلك بعد انقضاء الصلاة أيضًا، فيقوله في هذين الموضعين؛ اعترافًا بتوحيده، وأن النعم كلها منه، وهذا يتضمن أمورًا:

أحدها: أنه المنفرد بالعطاء والمنع.

الثاني: أنه إذا أعطى لم يطق أحد منع من أعطاه، وإذا منع لم يطق أحد إعطاء من منعه.

الثالث: أنه لا ينفع عنده، ولا يخلص من عذابه، ولا يدني من كرامته جدود بني آدم وحظوظهم من الملك والرئاسة والغنى وطيب العيش وغير ذلك، إنما ينفعهم عنده التقريب إليه بطاعته وإيثار مرضاته.

ثم ختم ذلك بقوله: «اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد»، كما افتتح به الركعة في أول الاستفتاح، وكما كان يختم الصلاة بالاستغفار، فكان الاستغفار في أول الصلاة ووسطها وآخرها، فاشتمل هذا الركن على أفضل الأذكار وأنفع الدعاء: من حمده وتمجيده والثناء عليه والاعتراف له بالعبودية والتوحيد والتنصل إليه من الذنوب والخطايا…

ولذلك الاعتدال ذوق خاص وحال يحصل للقلب سوى ذوق الركوع وحاله، وهو ركن مقصود لذاته، كَرُكْن الركوع والسجود سواء؛ ولهذا كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يطيله، كما يطيل الركوع والسجود، ويكثر فيه من الثناء والحمد والتمجيد… وكان في قيام الليل يكثر فيه من قول: «لربي الحمد، لربي الحمد» يكررها.

المقام العاشر: تذوق السجود وأذكاره والقرب فيه من الله

“ثم شرع للمصلي أن يكبر ويخر لله ساجدًا غير رافع يديه، لأن اليدين تنحطان للسجود كما ينحط الوجه فهما تنحطان لعبوديتهما فأغنى ذلك عن رفعهما، ولذلك لم يشرع رفعهما عند رفع الرأس من السجود؛ لأنهما يرفعان معه كما يوضعان معه…

وشرع السجود على أكمل الهيئة وأبلغها في العبودية، وأعمها لسائر الأعضاء بحيث يأخذ كل جزء من البدن بحظه من العبودية…

فيعطي المصلي في سجوده كل عضو من أعضائه حظه من العبودية فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه… راغمًا له أنفه خاضعًا له قلبه وجوارحه، ويضع أشرف ما فيه وهو وجهه بالأرض… متذللًا لعظمته، خاضعًا لعزته مستكينًا بين يديه… مسبحًا له بعلوه في أعظم سفوله، قد صارت أعاليه ملوية لأسافله ذلًا وخضوعًا وانكسارًا وقد طابق قلبه حال جسمه، فسجد القلب كما سجد الوجه، وقد سجد معه أنفه ويداه وركبتاه ورجلاه.

وشرع له أن يقل (يرفع) فخذيه عن ساقيه، وبطنه عن فخذيه، وعضديه عن جنبيه، ليأخذ كل جزء منه حظه من الخضوع ولا يحمل بعضه بعضًا…

وشرع في السجود من الثناء على الله ما يناسبه، وهو قول العبد: «سبحان ربي الأعلى» فهذا أفضل ما يقال فيه، ولم يرد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمره في السجود بغيره حيث قال: “اجعلوها في سجودكم”.

وكان وصف الرب بالعلو في هذه الحال في غاية المناسبة لحال الساجد الذي قد انحط إلى السفل على وجهه، فذكر علو ربه في حال سقوطه… ونزه ربه عما لا يليق به مما يضاد علوه…

فأحرى به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها من الأحوال كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد”… وأفضل الأحوال للعبد حال يكون فيها أقرب إلى الله؛ ولهذا كان الدعاء في هذا المحل أقرب إلى الإجابة…

ولذلك إذا رأى الشيطان ابن آدم ساجدًا لله اعتزل ناحية يبكي، ويقول: يا ويلي أُمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنة، وأُمرت بالسجود فعصيت فلي النار (كما أخبر الصادق المصدوق في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم)…

المقام الحادي عشر: تذوق الجلوس بين السجدتين والتضرع فيه إلى الله

“ثم شرع للمصلي بعد السجدة الأولى أن يرفع رأسه ويعتدل جالسًا، ويجثو بين يدي الله… راغبًا إليه أن يرحمه ويغفر له ويهديه ويرزقه ويعافيه وهذه الخمس هي جماع خير الدنيا والآخرة.  فإن العبد محتاج بل مضطر إلى تحصيل مصالحه في الدنيا وفي الآخرة، ودفع المضار عنه في الدنيا والآخرة، وقد تضمنها هذا الدعاء، فإن الرزق يجلب له ما به قوام البدن في الدنيا من الطعام والشراب، وما به قوام الروح والقلب من العلم والإيمان، والعافية تدفع عنه مضار الدنيا، والهداية تجلب له مصالح أخراه، والمغفرة تدفع عنه مضارها، والرحمة تجمع ذلك كله…

ولما كان هذا الاعتدال محفوفًا بسجودين: سجود قبله وسجود بعده، فينتقل من السجود إليه ثم منه إلى السجود كان له شأن.  فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يطيله بقدر السجود يتضرع فيه إلى ربه، ويستغفره، ويسأله رحمته وهدايته ورزقه وعافيته، وله ذوق خاص وحال للقلب غير ذوق السجود وحاله…  وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يكرر الاستغفار في هذه القعدة، ويكثر رغبته إلى الله فيها…

فهذا الركن مقصود الدعاء فيه، فهو ركن وضع للرغبة وطلب العفو والمغفرة والرحمة، فإن العبد لما أتى بالقيام والحمد والثناء والمجد، ثم أتى بالخضوع وتنزيه الرب وتعظيمه، ثم عاد إلى الحمد والثناء، ثم كمل ذلك بغاية التذلل والخضوع والاستكانة، بقي سؤال حاجته واعتذاره وتنصله، فشرع له أن يتمثل في الخدمة، فيقعد فعل العبد الذليل جاثيًا على ركبتيه كهيئة الملقي نفسه بين يدي سيده راغبًا راهبًا معتذرًا إليه…”.

المقام الثاني عشر: تذوق تكرار السجود وفضله

وشرع للمصلي أن يعود ساجدًا كما كان ولا يكتفي منه بسجدة واحدة في الركعة، كما اكتفى منه بركوع واحد، لفضل السجود وشرفه وموقعه من الله حتى إنه أقرب ما يكون إلى عبده وهو ساجد، وهو أدخل في العبودية، وأعرق فيها من غيره… فالسجود سر الصلاة وركنها الأعظم وخاتمة الركعة، وما قبله من الأركان كالمقدمات له…  ولهذا – والله أعلم – جعل الركوع قبل السجود تدريجًا وانتقالًا من الشيء إلى ما هو أعلى منه…”.

المقام الثالث عشر: تذوق جلسة التشهد وأذكارها

“وقبل الانصراف من الصلاة شُرع للمصلي الجلوس بين يدي ربه جلسة المتخشع المتذلل المستكين جاثياً على ركبتيه، مثنياً عليه بأفضل التحيات وأكملها، والتي لا تصلح إلا له، ولا تليق بغيره.

“وشرعت جلسة التشهد في وسط الصلاة – إذا زادت على ركعتين – تشبيهاً لها بجلسة الفصل بين السجدتين، وفيها مع الفصل راحة للمصلي؛ لاستقباله الركعتين الآخرتين بنشاط وقوة، بخلاف ما إذا والى بين الركعات، ولهذا كان الأفضل في النفل مثنى مثنى، وإن تطوع بأربع جلس في وسطهن”.

ويثني المصلي على ربه في التشهد بقوله:

  • “التحيات لله”

فلما كان عادة الملوك أن يحيوا بأنواع التحيات من الأفعال والأقوال المتضمنة للخضوع والثناء وطلب البقاء ودوام الملك، فمنهم من يحيى بالسجود، ومنهم من يحيى بالثناء عليه، ومنهم من يحيى بطلب البقاء والدوام له، ومنهم من يجمع له ذلك كله، فكان الملك الحق – سبحانه – أولى بالتحيات كلها من جميع خلقه، وهي له بالحقيقة، ولهذا فُسّرت التحيات بالملك، وفُسّرت بالبقاء والدوام، وحقيقتها ما ذكرته وهي تحيات الملك، فالملك الحق المبين أولى بها.  قال الحسن: كان أهل الجاهلية يتمسحون بأصنامهم ويقولون: لك الحياة الدائمة، فلما جاء الإسلام أُمروا أن يجعلوا أطيب تلك التحيات وأزكاها وأفضلها الله. فكل تحية يحيى بها ملك من سجود أو ثناء أو بقاء ودوام فهي لله عز وجل، ولهذا أتى بها مجموعة معرفة باللام أداة العموم وهي جمع تحية، وهي تفعيلة من الحياة… وإذا كان أصلها من الحياة فالمطلوب لمن يُحيَّى بها دوام الحياة. وكانوا يقولون لملوكهم: لك الحياة الباقية ولك الحياة الدائمة… واشتق منها أدام الله أيامك، وأطال الله بقاءك، نحو ذلك مما يراد به دوام الحياة والملك. وذلك لا ينبغي إلا للحي الذي لا يموت وللملك الذي كل ملك زائل غير ملكه.

فالتحيات هي تحية من العبد للحي الذي لا يموت، وهو – سبحانه – أولى بتلك التحيات من كل ما سواه، فإنها تتضمن الحياة والبقاء والدوام، ولا يستحق أحَدٌ هذه التحيات إلا الحي الباقي الذي لا يموت ولا يزول ملكه.

  • “والصلوات”

ثم يعطف عليها الصلوات بلفظ الجمع والتعريف؛ ليشمل كل ما أطلق عليه لفظ الصلاة خصوصًا وعمومًا، فكلها لله لا تنبغي إلا له، فالتحيات له ملكًا، والصلوات له عبودية واستحقاقًا، فالتحيات لا تكون إلا له، والصلوات لا تنبغي إلا له. فإنه لا يستحق أحد الصلاة إلا الله سبحانه وتعالى.

  • “والطيبات”

ثم يعطف عليها الطيبات كذلك، وهذا يتناول أمرين: الوصف والملك. فأما الوصف فإنه – سبحانه – طيب، وكلامه طيب، وفعله كله طيب، ولا يصدر منه إلا الطيب، ولا يضاف إليه إلا الطيب، ولا يصعد إليه إلا الطيب فالطيبات له وصفًا وفعلًا وقولًا ونسبة، وكل طيب مضاف إليه، وكل مضاف إليه طيب، فله الكلمات الطيبة والأفعال الطيبات، وكل مضاف إليه كبيته وعبده وجنته فهي طيبات. قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : “إن الله طيبٌ، لا يقبل إلا طيبًا”.

وأيضًا فمعاني الكلمات الطيبات لله وحده، فإن الكلمات الطيبات تتضمن تسبيحه وتحميده وتكبيره وتمجيده والثناء عليه بآلائه وأوصافه، فهذه الكلمات الطيبات التي يثنى عليه بها ومعانيها له وحده، لا يشركه فيها غيره…  فكل طيب فله وعنده ومنه وإليه، وهو طيب لا يقبل إلا طيبًا، وهو إله الطيبين، وجيرانه في دار كرامته هم الطيبون.

فتأمل أطيب الكلمات بعد القرآن كيف لا تنبغي إلا لله، وهي “سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله”. فإن “سبحان الله” تتضمن تنزيهه عن كل نقص وعيب وسوء، وعن خصائص المخلوقين وشبههم. و”الحمد لله” تتضمن إثبات كل كمال له قولًا وفعلًا ووصفًا على أتم الوجوه وأكملها أزلًا وأبدًا. و”لا إله إلا الله” تتضمن انفراده بالإلهية، وأن كل معبود سواه فباطل، وأنه وحده الإله الحق وأنه من تأله غيره فهو بمنزلة من اتخذ بيتًا من بيوت العنكبوت يأوي إليه ويسكنه. و”الله أكبر” تتضمن أنه أكبر من كل شيء وأجل وأعظم وأعز وأقوى وأقدر وأعلم وأحكم، فهذه الكلمات الطيبات لا تصلح هي ومعانيها إلا لله وحده.

فإذا كان هو – سبحانه – الطيب على الإطلاق، فالكلمات الطيبات، والأفعال الطيبات، والصفات الطيبات، والأسماء الطيبات كلها له سبحانه، لا يستحقها أحد سواه، بل ما طاب شيء قط إلا بطيبته سبحانه، فطيب كل ما سواه من آثار طيبته، ولا تصلح هذه التحية الطيبة إلا له.

  • السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين

ولما كان السلام من أنواع التحية، وكان المسلم داعياً لمن يحييه، وكان الله – سبحانه – هو الذي يطلب منه السلام لعباده الذين اختصهم بعبوديته، وارتضاهم لنفسه شُرع للمصلي أن يسلم على عباد الله الذين اصطفى بعد تقدم الحمد والثناء عليه بما هو أهله، فطابق ذلك قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، وكأنه امتثال له. وأيضًا فإن هذه تحية المخلوق فشرعت بعد تحية الخالق، وقدم في هذه التحية أولى الخلق بها، وهو النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي نالت أمته على يده كل خير، وعلى نفسه بعده، وعلى سائر عباد الله الصالحين وأخصهم بهذه التحية الأنبياء، ثم أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، مع عمومها لكل عبد لله صالح في الأرض والسماء.

  • أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله

ثم شرع له بعد ذكر هذه التحية والتسليم على من يستحق التسليم خصوصًا وعمومًا أن يشهد شهادة الحق التي بنيت عليها الصلاة، وهي حق من حقوقها ولا تنفعه إلا بقرينتها وهي شهادة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالرسالة …

  • اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد

وشرعت الصلاة على آل محمد مع الصلاة عليه تكميلًا لقرة عينه بإكرام آله والصلاة عليهم، وأن يصلي عليه وعلى آله كما صلى على أبيه إبراهيم وآله…   وهذه الصلاة أكمل ما يصلي على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بها وأفضل.

  • اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال

ثم أمر المصلي أن يستعيذ بالله من مجامع الشر كله، فإن الشر إما عذاب الآخرة وإما سببه، فليس الشر إلا العذاب وأسبابه، والعذاب نوعان: عذاب في البرزخ، وعذاب في الآخرة، وأسبابه: الفتنة، وهي نوعان: كبرى، وصغرى، فالكبرى: فتنة الدجال، وفتنة الممات، والصغرى: فتنة الحياة التي يمكن تداركها بالتوبة، بخلاف فتنة الممات، وفتنة الدجال، فإن المفتون فيهما لا يتداركها.

المقام الرابع عشر: تذوق الدعاء قبل السلام

“ثم شرع للمصلي أن يتخير من الدعاء ما يختاره من مصالح دنياه وآخرته، والدعاء في هذا المحل قبل السلام من أنفع الدعاء. وقد سئل النبي- صلى الله عليه وسلم – أي الدعاء أسمع؟ فقال: “جوف الليل، وأدبار الصلوات المكتوبة”. ودبر الصلاة: جزؤها الأخير. وقد يراد بدبرها ما بعد انقضائها بقرينة تدل عليه، كقوله: “يُسبحون الله ويحمدونه ويكبرونه دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين”، فهنا دبرها بعد الفراغ منها.

المقام الخامس عشر: تذوق ختام الصلاة بالتسليم

ثم ختمت الصلاة بالتسليم، وجُعل تحليلًا لها يخرج به المصلي منها كما يخرج بتحليل الحج منه، وجعل هذا التحليل دعاء الإمام لمن وراءه بالسلامة التي هي أصل الخير وأساسه، فشرع لمن وراءه أن يتحلل بمثل ما تحلل به الإمام. وفي ذلك دعاء له وللمصلين معه بالسلام، ثم شرع ذلك لكل مصل، وإن كان منفردًا فلا أحسن من هذا التحليل للصلاة، كما أنه لا أحسن من كون التكبير تحريمًا لها. وهذا التحليل المتضمن الإحسان إلى إخوانه المؤمنين. فافتتحت بالإخلاص، وختمت بالإحسان”.

وفي ختام هذه الرحلة؛ أسأل الله الرحمن الرحيم أن يرزقنا الخشوع في الصلاة وذوقها وأن يجعلنا من المفلحين. كما أسأله أن يرضى عنا وعن الإمام ابن القيم ويجزيه خيرًا على هذه الفوائد الذوقية الراقية، وأن يجزي الدكتور عَادل عبد الشكُور الزرقي الذي دلنا على هذه الفوائد بجمعها في كتيب صغير الحجم عظيم الفائدة بعنوان “ذَوْقُ الصَّلَاة عِنْد ابْن الْقيم رَحمَه الله”، والذي قال في مقدمته: “فهذا فصل نفيس في جزء لطيف، تكلم فيه ابن القيم الجوزية رحمه الله عن صفة الصلاة في مواضع من كتبه، بطريقة مبتكرة، لم يسبق إليها فيما أعلم. حيث تكلَّم عن لُبَّ الصلاة ومخها، وهو الخشوع من التكبير إلى التسليم، فأتى فيه بكل عجيب ومفيد… ولما كان هذا الفصل على نفاسته مغمورًا بين تلك الصفحات، كان من المفيد جداً إفراده ليعمَّ نفعه المسلمين كافة”.

والكتيب متوفر على الشبكة العنكبوتية وفي المكتبة الشاملة، وقد نقلت هذه الفوائد منه بتصرف، ولا سيما في الترتيب والعناوين، أملًا في زيادة إبراز الفوائد الذوقية وتيسير الاستفادة منها.

 والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.