يعود إلينا شهر رمضان الكريم بعد أسابيع قليلة، ليشرق هلاله في القلوب قبل أن يتلألأ في السماء، وتغمر نفحاته الإيمانية النفوس طمأنينة ورجاء. إنه رمضان الكريم درّة العام وواسطة العقد بين الشهور، يعود إلينا من جديد، بعد غياب لعدة أشهر، ليكتب على أبواب بيوتنا “رمضان يجمعنا”، حاملا معه الخير والألفة والأنس والتراحم والتآخي، ومبشرا بالوحدة والتجمع والترابط بين المسلمين. فهل حقا “رمضان يجمعنا” وكيف؟

أولا كيف لا يعود رمضان ليجمعنا، وهو الشهر الذي تشرع فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النيران ،وتصفّد الشياطين ومردة الجان. قال رسول الله :”إذا كان أوَّلُ ليلةٍ مِن شهرِ رمضانَ صُفِّدتِ الشَّياطينُ مَرَدةُ الجنِّ وغُلِّقت أبوابُ النَّارِ فلم يُفتَحْ منها بابٌ وفُتِّحت أبوابُ الجنَّةِ فلم يُغلَقْ منها بابٌ، ومنادٍ يُنادي: يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِرْ، وللهِ عُتَقاءُ مِن وذلك كلَّ ليلةٍ. رواه ابن حبان وحسنه الألباني.

هل “رمضان يجمعنا” حقا؟

شهر رمضان ليس شهرا عاديا كسائر شهور السنة، فهو شهر له خصوصية معينة وقداسة تظهر في إجلال المسلمين لهذا الشهر الكريم، الذي يمتلك مكانة خاصة في قلوب المسلمين، حتى أنه يقترن بشتى الألقاب والأوصاف التي يرى الصائمون أنها لا تقترن بشهر سواه. فهو شهر المحبة والبركة والتقوى والخير والإيمان وشهر التكافل والتراحم والتواصل..فقالوا رمضان كريم و قالوا رمضان يجمعنا، لإيمانهم العميق أنه شهر يجمع ولا يفرق، وهذه الأوصاف والألقاب ليست مجرد تسميات بقدر ما هي سلوكات اجتماعية وعادات وتقاليد، أصبحت جزء لا يتجزأ من طقوس هذا الشهر المبارك.

ولكن علام “رمضان يجمعنا” في هذا العصر؟ هل يجمعنا حقا على الأخوة والترابط العائلي، هل يجمعنا فقط حول مائدة واحدة، أم أنه يجمع قلوبنا حول الخير والرحمة؟ هل “جمع” رمضان يكون فقط حول البطون وشتى أنواع المأكولات والمشروبات أم أنه فرصة لا تعوض لألفة النفوس ومناجاة الأفئدة؟

رمضان يجمعنا كعادة سنوية

لا شك أن رمضان يجمعنا كعادة سنوية يأتي خلالها بالخير والبركة ويتزايد فيه الاهتمام بالثقافة الإسلامية والإحساس الديني والممارسات الدينية التي تتزايد خلال هذا الشهر بشكل ملحوظ. لكن للأسف يكاد يكون هذا الشهر مجرد عادة سنوية، أوتقليد ينتظره الناس ليغيروا من عاداتهم الاجتماعية في الأكل والشرب والعمل والنوم وو.. ذلك  أن الأفعال اللامسؤولة تطاولت على الشهر الكريم وحرمته، حتى تم إفراغ الصيام من مضمونه وجوهره، فكاد يتحول إلى مجرد إقلاع عن الأكل والشرب أو إضراب مؤقت عن الطعام. وفي زحمة هذه الأفكار التي تكالبت على الشهر المبارك أصبحت المشاعر الإسلامية السامية والأخلاق الحميدة في خبر كان، وتهاون الناس في إحقاق حقوق رمضان وفرطوا في حرمته واحترامه.

ومن تكاثر هذه الطبائع الدخيلة على مجتمعنا الإسلامي، أصبح لمقولة رمضان يجمعنا معنى آخر، وهدف آخر، ونتيجة أخرى.. وتحول فعل الجمع من جمع القلوب والأخلاق الحسنة إلى الجمع حول حلقات إذاعية وبرامج تليفزيونية ومسلسلات ومسابقات وما إلى ذلك من أعمال درامية وإعلامية يتم إنجازها لبثها خصيصا خلال شهر رمضان، وهي في معضمها – إن لم نقل كلها – غير منضبطة ولا متوازنة ولا تليق إلى حد بعيد بالشهر الكريم ولا تتوافق مع مكانته وحرمته.

وليس غريبا أن كثيرا من هذه الأعمال لا تمت إلى الذات العربية والإسلامية بصلة، لأنها لا تسمو إلى أي مستوى ثقافي وأخلاقي يليق بالشهر الكريم، وبدل أن تكون عامل جمع، رغم عدم ليقاتها، أصبحت عامل نفور وتفرقة، لما تتضمنه من تضليل للعقول وخدش للحياء، حتى أنها لا تصلح للعرض في غير رمضان، لشدة ما فيها من انحراف ومجون وألفاظ خارجة ومشاهد غير لائقة.

رغم كل شيء..لا زال رمضان يجمعنا

على الرغم من كل ما يتحمله الشهر الكريم من تجاوزات في حقه وانتهاكات لحرمته، لا زال رمضان يجمعنا على قدسيته التي تعززها تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وتؤكد عليها نصوصه وشروحه، فلا يزال الشهر الكريم يحظى بمكانته المثلى بين الشهور. يستقبله المسلمون وهم يتوسمون فيه الخير ويبتغون الأجر والمغفرة والثواب من الله، في كل باب من أبواب الفضائل، فيتصالح المتخاصمون، ويتوافق المتنافرون، ويتطايب المتجافون، ويتجاوز فيه المحق طوعا عن المحقوق، ويغفر فيه أصحاب المظالم عن المذنبيين، ويسامح الناس بعضهم بعضا إكراما واحتفاء بالشهر الفضيل، فرمضان يجمعنا فعلا لأنه فرصة تتاح مرة كل سنة للمجتمع بأطيافه وطبقاته كافة لأن ينهى خلافاته ويتجاوز مشاكله فلا مشاحنة ولا منازعة ولا خصام، فتتصافى القلوب وتتصافح الأيدي وتشرق الوجوه بالابتسامة وتعمر بيوت الخلق بالمودة والتراحم والود والانسجام.

رمضان هو، رغم كل شيء، شهر العبادة والصوم والقيام وينبغي أن يجمعنا على ائتلاف القلوب والمحبة .وكما يجمعنا على مائدة الإفطار والسحور واجتماع الأسرة وتآلفها، فإنه يجمعنا على صلاة الجماعة والتراويح في المساجد، ويجمعنا على تلاوة القرآن وتدارسه وتدبره .

عودة الروح الرمضانية

ولعل أبرز ما يظهر من قرب حلول شهر رمضان، الإحساس بروحه تسمو فوق كل البيوت، عندما يستعد الناس للتنافس في بذل الخير وتقديم الإفطار للصائمين. والاجتماع على حب الله والرسول والصحابة وتدارس القرآن والسيرة النبوية . وليس الاجتماع على سهر الليالي أمام ما تبثه القنوات الفضائية، أو بين أروقة المقاهي، ما يسبب تضييع الواجبات الشرعية.

رمضان يجمعنا مع نفحات الإيمان والخشوع والتضرع إلى الله والتأمين على الدعاء والخشية والبكاء. وهو الشهر الذي يجعلنا نستشعر حكمة الصوم وثمراته الدينية والنفسية والصحية، فإذا عطشنا نتذكر الظمآن وإذا جعنا نتذكر البائس الفقير الذي يجوع كل أيام العام.

رمضان يجمعنا دائما على التقوى وهجر المعاصي والمشاحنات امتثالا للوصية النبوية : “وإن سابه أحد فليقل إني صائم. ورمضان يجمعنا مع القرآن وبالقرآن وعلى القرآن، فهو شهر نزول القرآن، وفي ليلة مباركة هي ليلة القدر، وهو شهر يشفع في المؤمن، فيقول رمضان: أظمأت نهاره، ويقول القرآن: أسهرت ليله فيشفعان فيه . وهو شهر الغفران ومن صامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. وهو شهر الصيام والقيام والإخلاص والإيمان والتدرج لله عز وجل.