“لا تدرب الطفل على التعلم بالقوة أو القسوة؛ ولكن وجههم إليها بما يضحك عقولهم، حتى تتمكن من اكتشاف العزم الغريب لعبقرية كل منهم بدقة أفضل”[i] تعليم النشء في السن المبكرة، ليست عملية سهلة أو بسيطة سواء للطفل والمربي” ، ولكنها تحتاج إلى مهارة وعلم ومعرفة وتدريب، خاصة إذا كانت الغايات المرجوة كبيرة، وتشير الأبحاث الحديثة في التربية أن أفضل وسيلة للدفاع عن الأخلاق هي أن يتمثلها الأشخاص في سلوكهم، فالطفل إذا تحولت تصوراته الكبرى عن الكون والإنسان والحياة والزمن إلى سلوك مُعاش في حياته، فإن حجم التناقضات ينخفض بين ما يبطنه وبين سوكه.

التربية ليست حشوا للمعلومات في ذهن الطفل، ولكنتها تهدف إلى إكسابه مهارات اجتماعية، وعاطفة قوية، وتصورات واضحة، يستطيع من خلالها مواجهة التحديات القادمة، وكذلك تمنحه تلك التربيةُ القدرةَ على فهمها والتغلب عليها، مع إكسابه الانضباط الانفعالي، والتحكم في مشاعره، وهذه المكتسبات السلوكية لابد أن تغرس في أعماق الطفل مبكرا، وأن يمارسها ويحياها وينشأ عليها، لتكون جزءا من تكوينه النفسي والوجداني والسلوكي، وإذا نجحت التربية في تحقيق هذا الهدف، ربما تحول الطفل ليكون مُلهما لغيره، وكما يقول الأديب البرايلي الشهير “باولو كويليو” :” يمكن للطفل أن يعلم شخصًا بالغًا ثلاثة أشياء: أن يكون سعيدًا بدون سبب، وأن يكون مشغولًا دائمًا بشيء ما،  وأن يعرف كيف يطلب بكل قوته ما يشاء”.

وحول هذه الغايات يأتي إصدار سلسلة “وجدان للطفل المربي” الصادرة عام 2022، عن مركز الوجدان الحضاري، التابع لوزارة الثقافة القطرية، في ثمانية أجزاء وهي:”أنا إنسان” و”أنا محب للتعلم “و “أنا أحب الطبيعة” و”أحب النشاط والعمل” و”أحترم وقتي وأنظمه” و” أحب ربي وأفعل الخير” و” العائلة والوطن” “يجمعنا عالم واحد”، وهي سلسة أشرف على إصدارها المفكر القطري الدكتور “جاسم سلطان،” و”خالد المعاضيد”، وشارك في تأليفها نخبة من عدة تخصصات تربوية وفكرية وفنية، تكاملت فيها الكلمة مع الصورة لتحقق متعة للطفل في التعلم، وتوجد تحفيزا للتلقى بلا ملل،  لتتحول القراء إلى حالة يألفها الطفل وجدانيا، وتغطي السلسة احتياجات واهتمامات الطفل في المرحلة العمرية الأولى من 4:6  سنوات، أو مرحلة ما قبل المدرسة، تلك السنوات التي ترسم المستقبل للفرد، وتغرس في نفسه التصورات الكبرى عن الإنسان والكون والحياة والوطن.

توازن التربية

التعليم يهدف إلى إحداث تأثيرات طويلة المدى، وإذا بدأ التعليم مبكرا منذ الطفولة، فإن تغيرات كبرى ستحدث في المجتمع، فالتعليم المبكر قادر على غرس العادات النافعة، خاصة القراءة، وتحقيق التوازن في تنشئة الطفل، بين الجانب التعليمي والاجتماعي والعاطفي يساهم في الصحة العقلية والنفسية، ويُمكن الطفل من تنمية وعيه، وإدارة مشاعره وضبطها، ومواجهة التحديات، وتحسين السلوك، فتحدث تغيرات في تفكير الطفل فينتقل من التفكير السفلي أو ما الدماغ البدائي، أو ما يسمى بـ “دماغ الزواحف” reptile brain القائم على الأفكار النمطية التلقائية، كالبحث عن الطعام، إلى مجال آخر أكثر إنسانية وتفاعلا مع الكون والإنسان، وهذه التربية تعزز الصحة بمفهوها الشامل.

وتشير الدراسات أن لأطفال عندما يشعرون بالأمان فإن ثقتهم بالنفس تزداد ويُظهرون سلوكا أفضل وتتعزز ذاكرتهم، ويستمتعون بالتعلم، فينغمسون في العملية التعليمية بحافز نفسي لاكتساب معلومات ومهارات جديدة، وإذا نجحت العملية التعليمية في غرس العاطفة، والتعاطف مع الآخرين، فإنها تتحول إلى مصدر دعم لقوة المجتمع، فمع تنوع مهارات الطفل تعزز قدرته على التواصل الإيجابي، فيحفز الطفل على التواصل الناضج مع الآخرين، لأن غاية العملية التعليمية منذ القدم هي إعداد الأطفال ليكونوا مواطنين مسؤولين ومنتجين ومهتمين بمجتمعهم.

وقد تميزت سسلسة “وجدان للطفل والمربي” بمراعاة التوازن في تربية الطفل وتنشئته، فالكتب تُوزان بين المعلومة وبين تحولها إلى سلوك وأخلاق، والأخلاق التي تناولتها الكتب الثمانية هي التي يحتاجها الطفل في تلك السنوات، وأبرزها الرحمة واحترام الآخرين، والصدق، والتواضع، ومساعدة المحتاجين، وهي أخلاق تكفل للطفل أن يندمج بإيجابية في المجتمع، وأن تنمو قيمه الإنسانية مع نموه العمري، وبالتالي تأخذ القيم حقها في أن تتشبع بها النفس في فترة زمنية طويلة، وأن تتحول إلى سلوك ينمو تدريجيا مع الطفل، بداء من مواقف صغيرة وصولا إلى التحديات الحياتية الكبرى التي تتطلب انضباطا أخلاقيا وقدرة على إدارة المشاعر والعواطف بلا انفلات.

وجاء التوازن في طرح مفهوم الوطنية والإنسانية والانفتاح على الآخر، فكان التوازن حاكما لهذه المفاهيم، إذ طرحت السلسلة الوطنية كنوع من الالتزام الإنساني المنفتح الواعي الساعي إلى تحقيق قيمة التعارف التي تحدث عنها القرآن الكريم، وصولا إلى تحقيق التعاون والبر والمودة، كما جاء التوازن واضحا في تحويل الأفكار المجردة إلى جوانب سلوكية من إدخار وعيادة للمرضى، وتبرع للمشاريع الخيرية، وغرس للإشجار، وحافظِ على البيئة، واندماج في المجتمع من خلال المشاركة في مناسباته المتنوعة، وتحقيق التوازن بين الصالح العام والنفع الخاص، لكن السلسلة لفتت انتباه الطفل من خلال القصة والصورة إلى أن الصلاح الشخصي مرتبط بتحقيق النفع الوطني والإنساني والمصلحة العامة.

وقد تميزت الكتب الثمانية بأن أمثلتها ومفرداتها منتزعة من البيئة التي يشاهدها الطفل، لذا لا يشعر الطفل بالغربة مع الحكايات ولا يتطرق إليه شعور أنها قادمة من عالم مختلف أو بعيد، وهذا ينبه الطفل إلى ما يشاهده في محيطه المتنوع، ليعيد تقييم سلوكه وتعديله بعد حوار مع النفس، لا إجبار فيها، ومن ثم تتشكل قناعات الطفل مبكرا من ذاته، ليعيد نسج ما يقرأه في سلوك وأخلاق.

اهتمت الكتب الثمانية بأن تعطي نصائحها للمربي، حول الأهداف السلوكية والمهارية التي يجب أن يتمتع بها الطفل في كل وحدة من الكتاب، فهي تقدم للمربي النصائح، مع إتاحة هامش من الحرية والإبداع للمربي لكي يحول قصص الكتاب إلى خيال في ذهن الطفل وإلى حالة سلوكية، من خلال تذكير المربي بأهمية الرحلة والخروج للأماكن المفتوحة لإكساب الطفل السلوكيات القويمة من خلال التجربة العملية، وليس من خلال المعلومة فقط.


[i]  مقولة منسوبة للفيلسوف أفلاطون