بلغت الحضارة العربية أوج نضجها وازدهارها خلال الفترة ما بين القرن الثالث والخامس، ومن يتصفح المصنفات التي وضعها المسلمون خلال هذه الحقبة يدرك أنهم طرقوا أبواب العلوم والمعارف كافة، وأن ألوان التصنيف لديهم تنوعت وانفتحت على الموروث الإنساني والحضاري للأمم المجاورة، ومن ذلك مصنفاتهم حول خصائص الأمم والأقوام ككتب المسالك والأقاليم، أو مصنفاتهم في تاريخ العلوم عند الأمم ومن أمثلتها كتاب (طبقات الأمم) لصاعد الأندلسي وهو أحد المؤلفات الفريدة في بابه.

صاعد الأندلسي وكتابه طبقات الأمم

هو أبو القاسم صاعد بن أحمد الأندلسي، ولد في المرية سنة 420ه لأسرة ذات فضل وعلم فقد كان أبوه قاضيا وفقيها، نال تعليمه الأولي في قرطبة حتى إذا بلغ الثامنة عشر من عمره رحل إلى طليطلة التي كانت في ذلك العصر مركزا للحياة الفكرية، واتصل بعلماء عصره وفي مقدمتهم ابن حزم وتتلمذ على يديه وروى عنه، عرف بالنجابة وحسن التحصيل واستطاع الجمع بين العلوم العقلية كالفلك والرياضيات والعلوم النقلية كالحديث والفقه، وذاع صيته لدى أهل العلم والفضل فعينه المأمون بن يحيى قاضيا على طليطلة ومكث في منصبه حتى وفاته عام 462ه، وشاع عنه أنه يقضي بالوثائق والصكوك المخطوطة ويعدها شهادة مخالفا بذلك جل الفقهاء الرافضين للعمل بها، ولذا وصفه ابن بشكوال بأنه “من أهل المعرفة والذكاء، والرواية، والدراية”.

ترك صاعد جملة مؤلفات جلها مفقود ذكر صاحب كشف الظنون بعضها كما أشار صاحبنا إلى بعضها الآخر في كتابه طبقات الأمم، أما ما ذكره بنفسه فكتاب (مقالات أهل الملل والنحل) وكتاب (إصلاح حركات النجوم) وكتاب (جوامع أخبار الأمم من العرب والعجم) الذي ذكره كذلك حاجي خليفة بذات الاسم، كما ذكر له كتابا آخر هو (صوان الحكم في طبقات الحكماء) (1). وتكشف مصنفاته عن أن اهتماماته المعرفية شملت: التاريخ والفلك والملل والنحل وتاريخ العلوم.

يحتل المصنف الوحيد الباقي لصاعد الأندلسي مكانه في المكتبة التراثية فهو واحد من أوائل المصنفات التي تناولت تاريخ العلوم، وكان محط اهتمام الدارسين فاعتنى به: غازيري، وكارل بروكلمان، ومارتن بلنسير، وهنري بلاشير الذي أعد لمصنفه ترجمة ضمن دائرة المعارف الإسلامية كما ترجم كتابه إلى الفرنسية، كما التفت إليه الأب لويس شيخو الذي قام بتحقيق الكتاب ونشره مسلسلا لأول مرة باللغة العربية في مجلة المشرق عام 1911م، ثم نشره على هيئة كتاب في العام التالي، ثم توالت تحقيقاته ونشراته بعد ذلك.

يلقي هذا الاهتمام الضوء على منزلة الكتاب العلمية: فهو من جهة يؤرخ للعلوم في الأمم والحضارات القديمة والمعاصرة له، ويلقي الضوء على إسهاماتها في بناء صرح المعرفة العلمية، ويؤرخ من جهة أخرى للعلم والعلماء في عصره متناولا تاريخ العلوم عند العرب في المشرق وفي المغرب (بلاد الأندلس)، وهو يقوم بذلك متحررا من أي تعصب ديني أو عرقي فنراه يؤرخ للعلوم عند اليهود، ويثني على فلاسفة اليونان الذين أرسوا قواعد الفلسفة والمنطق العقلي، ويرجح أحكام العقل حين يقبل بعض الروايات ويرفض الأخرى استنادا إلى أدلة عقلية ومنطقية، ويبرهن على أهمية الكتاب أن عددا من المصادر اللاحقة اقتفت أثره كما هو الحال لدى ابن العبري في (تأريخ مختصر الدول) الذي اتبع منهجه في تقسيم الأمم إلى أمم عنيت بالعلم وأمم لم تعن به، وابن أصيبعة في (طبقات الأطباء) حيث نقل عنه ترجماته لعدد من الأطباء.

معالم المنهج لدى صاعد الأندلسي

استنادا إلى هذا فإننا نخالف الأستاذ بلاشير فيما ذهب إليه من أن أهمية الكتاب تنحصر في بعض أجزاء متعلقة باليهود والإغريق والعرب، وأن أسلوبه يتمتع بالاختصار، وأن صاحبه لم يضمنه شرح للمنهج المتبع فيه كما يدعي (2)، لكننا ندعي في المقابل أن عدم التنصيص على المنهج لا يعني بالضرورة خلوه عنه، وإنما يعني أن مؤلفه لم يتوقف أمام التنظير وخاض غمار التطبيق مباشرة، ولعل هذا ما يفسر لنا خلو الكتاب من مقدمة أو خاتمة، ويمكن الإشارة إلى معالم المنهج لديه في النقاط التالية:

  • يؤرخ صاعد لكل أمة مستخدما كيفية واحدة لا يشذ عنها فهو يستهل بذكر موقعها الجغرافي وحدودها، ثم يتبعه بذكر المنعطفات التاريخية التي مرت بها، ثم يشير إلى معتقداتها الدينية ثم يفصل في ذكر العلوم التي اشتهرت بها ويختم بذكر تراجم قد تطول أو تقصر لعلمائها المبرزين.
  • مصادر الكتاب ومادته العلمية مستمدة من: السماع والمشافهة وهي المعلومات التي سمعها صاعد من معاصريه وقد جاءت عنده في الكتاب بلفظ “أخبرني”..، والمكاتبة وهي أن يكتب إلى من يظن أن لديه معرفة أوثق بالموضوع طالبا إما طلبا لترجمة أو لتفصيلات معينة، وقد أشار إليها بلفظ “كتب إلي”، والكتب والمدونات وقد رجع إلى عدد كبير منها (3)، وذكر بعضها من مثل: الاكليل للهمداني، والمعارف لابن قتيبة(4).
  • يمتلك صاعد مقدرة تصنيفية عالية، فهو يشيد بحثه على افتراض قوامه أن الأمم كافة تنقسم إلى طبقتين، طبقة لها عناية بالعلم وصدرت عنها العلوم والمعارف وهي ثماني أمم، وطبقة ليس عناية بالعلم فلم يؤثر عنها حكمة ولم ينقل عنها فكرة، وهو كذلك يصنف العلماء في مراتب ويضع كل عالم في مرتبته. 
  • يمتلك صاعد بالمثل القدرة على التحليل والترجيح، فنراه في مواضع عدة يقبل خبر أو رواية ويرد آخر، وهو يقوم بتفسير الظواهر والحوادث ولا يكتفي بذكرها ومن ذلك قوله “ولبعد الهند عن بلادنا واعتراض الممالك بيننا وبينهم قلت عندنا تآليفهم فلم تصل إلينا إلا أطراف علومهم”.
  • لا يتورع صاعد عن استعمال النقد، ومن ذلك أنه بعد أن أثنى على شيخه ابن حزم لم يتردد في نقد كتابه (التقريب لحدود المنطق) واصفا إياه بأنه “كثير الغلط بين السقط.
  • يتمتع أسلوبه الكتابي باليسر والسلاسة فهو لا يستخدم ألفاظا ملغزة وعبارات مسجوعة، وإنما يستخدم ألفاظا شائعة يسوقها في جمل موجزة ذات دلالة مباشرة على المعنى المقصود، ورغم هذا فإن الكتاب لا يخلو من بعض الشواهد الشعرية.  

بنية الكتاب ومحتوياته

ينقسم كتاب طبقات الأمم إلى أربعة أبواب، ولا ندري هل هذا التقسيم من وضع مؤلفه أم من وضع الأب لويس شيخو محققه، لكنه يفتتح بعبارة افتتاحية موجزة نصها: “أعلم أن جميع الناس في مشارق الأرض ومغاربها وجنوبها وشمالها وإن كانوا نوعا واحدا يتمايزون بثلاثة أشياء: بالأخلاق والصور [العوائد] واللغات”، وفيها إشارة إلى وحدة الأصل الإنساني.

  • الباب الأول: وحمل عنوان (الأمم القديمة) وهو باب قصير نسبيا لا يزيد عن أربعة صفحات في طبعة شيخو، ويتحدث فيه عن أن الناس قبل افتراقهم في القبائل واللغات كانوا أمما سبعة هي: الفرس والكلدان، واليونان، والقبط، والترك، والهند، والصين، تحدث عنها جميعا وذكر موطنها وحدودها الجغرافية ومساكنها واللغة المستخدمة فيها.
  • الباب الثاني: وهو بعنوان (اختلاف الأمم وطبقاتها بالأشغال) ويذهب فيه إلى أن “الأمم على كثرة فرقهم وتخالف مذهبهم على طبقتين: فطبقة عنيت بالعلم فظهرت منها ضروب العلوم وصدرت عنها فنون المعارف، وطبقة لم تعن بالعلم … فأما الطبقة التي عنيت بالعلوم فثمانية أمم: الهند والفرس والكلدانيون والعبرانيون واليونانيون والروم وأهل مصر والعرب، وأما الطبقة التي لم تعن بالعلوم فبقية الأمم” من الصين والترك والصقالبة والخزر والحبشة والنوبة والزنج.
  • الباب الثالث: وعنوانه (الأمم التي لم تعن بالعلوم) وهي الصين والترك والجلالقة أو البرابرة، وأما الصين فقد تحدث عنها صاعد من حيث السكان والمكان وذكر فضيلة أهلها التي برعوا فيها وهي إتقان الصنائع والمهن التصويرية، وأما أمة الترك فتحدث عن موقعها وسكانها ومكانتهم وعن الفضيلة التي تميزهم عن سائر الأمم وهي “معاناة الحروب ومعالجة آلاتها، فهم أحذق الناس بالفروسية وأبصرهم بالطعن والضرب والرماية”، وأما البرابرة فهم أهل “طغيان وجهل وعدوان وظلم”، وبطبيعة الحال فإن جل الدارسين لا يتفق مع صاعد في وضعه الترك وأهل الصين ضمن الأمم التي لم تعن بالعلوم، كما لا يتفق معه في نعت الجنوبين من أهل السودان والبرابرة بالجهالة والتوحش.
  • الباب الرابع: وحمل عنوان (الأمم التي عنيت بالعلم) ويشمل معظم صفحات الكتاب إذ يقع في ثمانين صفحة تقريبا، وهو يتناول العلوم لدى كل من: الهند والفرس والكلدان واليونان والروم ومصر وعند عرب المشرق وفي الأندلس واليهود (بني إسرائيل). وكما أسلفنا اتبع صاعد في حديثه عن كل أمة كيفية واحدة فهو يتحدث أولا عن موقعها ومناخها ثم الحوادث التاريخية الكبرى التي مرت بها ثم يعرج على ذكر الدين المتبع ثم يختتم بذكر علومها المشهورة ويترجم لأبرز علمائها.وعلى الرغم من هذا فإن صاعدا ربما أوجز كما فعل عند حديثه عن الهند معتذرا بندرة المعلومات التي تعود إلى بعد المسافات بين وطنه والهند وضعف الترجمات، وربما استفاض كما فعل في حديثه عن اليونان التي وصفها بأنها أمة عظيمة القدر، وذكر أن علماء اليونان يسمون فلاسفة وأن هؤلاء الفلاسفة “من أرفع الناس شأنا وأجل أهل العلم منزلة لما ظهر منهم من الاعتناء الصحيح بفنون الحكمة من العلوم الرياضية والمنطقية والمعارف الطبيعية والإلهية والسياسات المنزلية والمدنية” ثم ترجم ترجمات ضافية لخمسة منهم وهم: بندقلس، وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس. كما أفاض في الحديث عن العلم عند العرب وهو يتحدث عن مرحلتين في حياة العرب العلمية، مرحلة الجاهلية وهو لا يذكر من علومها سوى علوم اللغة والبيان وبعض مبادئ المعرفة بمطالع النجوم وأنواء الكواكب وأمطارها، وأما في العصر الإسلامي فإنهم في البداية اعتنوا كثيرا بالطب لحاجتهم إليه لمداواة جرحاهم في الفتوح، لكنهم منذ العصر العباسي أخذوا في الاعتناء بكافة العلوم حتى الفلسفية منها  “حتى كادت الدولة العباسية تضاهي الدولة الرومية أيام اكتمالها”، ويعرج صاعد كذلك على الحالة العلمية في الأندلس متتبعا مظاهرها المختلفة منذ الفتح الإسلامي حتى عصره، محصيا عددا كبيرا من العلماء في كل مجال.

ويختم صاعد كتابه بالقول “فهذا ما حضر في حفظه من تسمية علماء الأمم والتعريف بنبذ من تواليفهم وأخبارهم، والحمد لله وحده وصلى الله على من لا نبي بعده”.

وبالجملة يعكس كتاب طبقات الأمم إجلال الحضارة الإسلامية للعلم وإن تعددت مصادره وأجناسه، وانفتاحها على الحضارات الإنسانية على مر الزمان، واعتبارها العلم إرثا إنسانيا عاما.


 1- سهير محمد علي، صاعد الأندلسي وإحصاء العلوم والأمم، القاهرة: مجلة رسالة المشرق، مج 7، 1998، ص 664-665.

2- موجز دائرة المعارف الإسلامية، الشارقة: مركز الشارقة للإبداع، 1998، ج22، ص 915.2-

 3- أحصت له الأستاذة سهير محمد علي أكثر من مائة مرجع ذكرها في كتابه.

4- طارق أبو الوفا محمد، صاعد الأندلسي ومنهجه في كتابه (طبقات الأمم)، القاهرة: الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، ع 55، 2021، ص 68.