اليابان، بلادٌ جميلةٌ لكن بعيدةٌ جداً، أعرف عنها في حداثة سني أنها بلادٌ مزدحمة، مبتلاة بالزلازل، ترد منها مصنوعاتٌ متينةٌ جيدة، أسعارها فوق أسعار الصيني ودون أسعار الألماني. وأعرف أن عاصمتها “طوكيو”، وأنها هزمت شر هزيمة في الحرب العالمية الثانية بعدما أسقط عليها الأمريكان قنبلتين نوويتين.

 

وهذا يعني أني كنت أعرف عن اليابان أقل بكثير مما يعرفه أي طفل كان في بيته تلفاز، وكان يتابع أفلام “الأنمي” اليابانية، فيتعرف من خلالها إلى لكنة اليابانيين وطعامهم وبعض أعرافهم وعاداتهم وأسمائهم المتداولة وغير ذلك. كان السبب بسيطاً، لم يكن في بيتنا تلفاز أصلاً.

كنت في المرحلة المتوسطة لما التقطت أول خيط أوصلني إلى طوكيو، عبر صفحات الكتب بطبيعة الحال، كان ذلك في كتاب “صحوة الرجل المريض، السلطان عبدالحميد الثاني والخلافة الإسلامية” للدكتور موفق بني المرجة، وذكر فيه مؤلفه، رحمه الله، أن السلطان عبدالحميد أرسل سفينة إلى اليابان، لكنها تحطمت في البحر وغرق من كان فيها من الدعاة ورجال الدولة.

لم تصل السفينة، لكني وصلت مَجازاً، وبعد ذلك بسنوات كثيرة قرأت “الرحلة اليابانية” لعلي الجرجاني، الصحفي والداعية المصري الذي ذهب في  مطلع القرن العشرين إلى طوكيو لحضور مؤتمر دعا إليه امبراطور اليابان “الميكادو” من أجل عرض ومناقشة أصول الأديان كي يختار الإمبراطور على ضوء المؤتمر ديناً رسمياً لليابان يدين به الشعب كله، وأخذ علي الجرجاني ينادي العلماء المصريين من منبر صحيفته “الإرشاد” كي يذهبوا ويتحدثوا عن الإسلام في اليابان لعل حديثهم يثمر خيراً في تلك البلاد القصية.

وبعد رحلة طويلة وصل الجرجاني إلى طوكيو؛ فإذا هي مدينةٌ يبلغ سكانها مليوناً وثلاثة أرباع المليون، فيها تجارة نشطة، وشوارع منتظمة، ومدنية فتية.

وقد اكترى الجرجاني مع عدد من رفاقه منزلاً، وفتحوا أبوابه ليدعو الناس إلى الإسلام، وأسلم على أيديهم عدد من اليابانيين يقدرون باثني عشر ألف رجل على حد حكايته.

أما المؤتمر فقد أدى فيه العلماء المسلمون أداءً جيداً، ولقي حديثهم ومنطقهم استحسان الإمبراطور، لكنه لم يجرؤ على إعلان الإسلام ديانةً رسمية لليابانيين.

وقد تجول الجرجاني في طوكيو، ووثق بعض مشاهداته فيها، ومن أكثر ما لفت انتباهي في تلك المشاهدات: “أن البوليس إذا وجد غريباً يشتري بعض الأشياء يراقب حركاته وسكناته في حالة الشراء، ويعرف مقدار المشترى إن كان بالوزن أو الكيل أو غير ذلك، ويصرف مقدار الثمن ثم يعد النقود التي مع المشتري وهكذا”.

وطالعت رحلة أخرى إلى اليابان للأمير المصري محمد علي، شقيق خديوي مصر، وانطوت مشاهداته على لمحات غير متوقعة.. فقد كانت صورة اليابانيين التي رسمها محمد علي بقلمه مختلفة تماما عن صورة اليابانيين الموجودة في ذهني، صورة الشعب الودود المهذب النظيف، فقد رأى الجنود اليابانيين في القطار “لا يكترثون بأي شيء، خالعين نعالهم، وبعضهم نائم على بعض، ومنهم من يبصق أو يمخط أو يتثاءب، أو يفعل غير ذلك من الأمور التي نعدها معيبة محقرة”.

وفي ذلك الحين، قبل قرن من الآن، كانت “الركشة” واحدة من وسائل النقل العام المعتمدة في طوكيو، وهي عربة صغيرة بعجلتين يجرها رجل. ويقول الأمير عن اليابانيين: “وبالنسبة لحداثة عهد مدنيتهم؛ ليس في متاحفهم أشياء كثيرة ولا نفائس مهمة”.

ولكن الأمير محمد علي رأى في طوكيو مدينة جميلة، فيها حدائق وغابات، وبنيان محلي جميل، وقصور مهيبة، وإن كانت الوزارات والمرافق الحكومية مبنية على الطراز الأوروبي الذي لا يرقى في رأيه إلى مرتبة العمارة اليابانية.

أما الصناعات اليابانية في تلك الأيام فقد كانت “النحاس وصياغة الفضة والأشغال الحريرية ونسجها وخياطتها بأشكال لطيفة، وسن الفيل، ومراوح الورق والحرير، والرسم بالألوان المختلفة…”. وأين تلك الصناعات اليابانية من صناعات اليابان في أيامنا هذه؟!

ومؤخراً، طالعتُ رحلة الصحفي المصري يوسف القعيد إلى اليابان “مفاكهة الخلان في رحلة اليابان” في عام ١٩٩٣، كانت يومياتٍ باردة، لم تضف إليّ شيئاً ذا بال، وكأن اليابان الحديثة تأبى أن تتجلى لي على صفحات الكتب بشكل مشرق ومشوق.

فلنعد إذن إلى التاريخ! إلى كتاب “اليابان في القرن الثامن عشر” الذي ألّفه لويس بيريز، وترجمه عابد إسماعيل. وهو كتاب لذيذ وفريد.. يقول مؤلفه إنه يهدف من ورائه إلى هدفين: أولهما: “إعطاء صوت للرجل والمرأة العاديين في اليابان خلال القرن الثامن عشر” مسهما بذلك في تحرير التاريخ من سيطرة الملوك والزعماء. وثانيهما: “وصف اليابان في أكثر أحوالها عادية وطبيعية، أي دراسة اليابان قبل أن تصير حديثةً، أو بشكل أدق “غربية”.

أمضيت وقتاً ماتعاً في قراءة هذا الكتاب.. وخرجت منه ببعض الملاحظات التي يسعدني أن أشاركها هنا بقدر ما تسعف مساحة هذا المقال.

في ذلك العهد كان اسم طوكيو “إيدو”، وقد غدت عاصمة اليابان بدل العاصمة القديمة “كيوتو”، وكانت أكبر مدينة في العالم وقتها بتعداد سكاني يتجاوز مليون نفساً، وكانت اليابان تعيش عزلةً مطبقةً، لا يدخلها أحد، ولا يغادرها أحد، لا من اليابانيين ولا من غيرهم!

وكان الناس في “إيدو” يعيشون تحت سيطرة حكومةٍ حازمة، وفق تقسيم طبقي حاد تتسع فيه الهوة بين كل طبقتين باستمرار. كان الإمبراطور مقدساً، وتليه طبقة المعاونين والمستشارين، ثم الساموراي “المحاربون” الذين يسكنون في قلاع حصينة، وحولها يعي باقي المواطنين من أهل الحرف والصنعات المختلفة، في “مقاطعات” تشكل لبنات في جدار المدينة.

وكان أهل “إيدو” في تلك الأيام يدينون بمزيج من “البوذية” و”الشينتوية”، وتعاليم “كونفوشيوس”، مع كثير من الممارسات الخرافية كالسحر والضرب في الرمل والعرافة والكهانة وغير ذلك.

وكانوا يأكلون الطعام في بيوتهم، وعلى مدى قرون طوال لم يكن الطعام في اليابان كلها متاحاً خارج المنزل أبداً، إلا إذا استثنينا المعابد التي كانت تقدم الطعام لمن يؤمها من الناس في المناسبات الدينية والجنائز، لكن طوكيو، التي كانت “إيدو” طرأت في طرقاتها الرئيسة الفنادق والمطاعم لخدمة رجال “الساموراي” والتجار المحليين وسعاة البريد.

أود أن أسترسل أكثر في الاقتباس من كتاب “اليابان في القرن الثامن عشر”، لكن مساحة المقال لا تتسع لأكثر من هذا، إذ لا تزال للقارئ الكريم في ذمتي إلماحة إلى رواية لذيذة جرت فصولها في طوكيو، تلك هي “ملذات طوكيو” لدوريان سوكيغاوا.

وهي رواية تنقلك بسرعة إلى طوكيو، بالتحديد إلى متجر لبيع فطائر “دوراياكي” في شارع أشجار الكرز بالقرب من محطة قطار ما في طوكيو، للرواية بطلان: صانع الفطائر، وعجوز في السابعة والستين تقدمت لتعمل في عجن الفطائر.

وبمرور الوقت، يجد القارئ نفسه أسيراً بحق لتلك الرواية، لحبكتها السهلة الممتنعة، وأبعادها العميقة التي تلمس أكثر من وتر حساس، على صعيد الوجدان الفردي والسلوك المجتمعي.

 

أرجو أن تكون هذه الجولة الورقية في طوكيو نافعة، أو ماتعة، أو الاثنتين معاً !