الشرود الذهني ظاهرة انتشرت خاصة هذه الفترة مع كثرة الملـهيات و المشغلات ، و انتشار البرامج المختلفة، بالإضافة إلى كثرة الحركة و زحمة المدن ، لذا كان من  الأهمية بمكان الاعتناء بهذه الظاهرة ، تحليل أسبابها  ومعالجتها، و خاصة في تدبر القرآن الكريم الذي به الفوز في  الدنيا، و النجاة في  الآخرة،  فبه يزداد الإيمان و يسهل حفظ القرآن.

سوف نتعرف من خلال هذا المقال :

 أين يذهب عقلي ؟

ماذا يريد  ؟

و كيف استحضره  ؟

و نضع خطة سهلة  لكل من يريد حفظ القرآن مهما كانت مشاغله !

 1 ـ فضل التدبر وموانعه

2ـ الشرود الذهني و علاجه

3ـ وضع خطة و وقت لحفظ القرآن .

القرآن لا تنقضي عجائبه

بداية نرجو من كل واحد أن  يكتب وضعه الحالي مع التدبر،  هل يعيش المعاني  ؟

 أم يشرد ذهنه ؟ وهل شرود عادي أم  مزمن ؟

 فموضوعنا هذا من أشرف المواضيع على الإطلاق ، لأنه يتعلق بكلام الله عز و جل ، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ، نزل به جبريل فكان أفضل الملائكة و نزل به  على محمد صلى الله عليه و سلم فكان أفضل الأنبياء، و نزل على هذه الأمة فصارت أفضل الأمم ، و أنت إن كنت من أهل القرآن العاملين به كنت من  أفضل الناس ! إن شاء الله تعالى .

فاللهم وفقنا  لتلاوته حق تلاوته و أشغلنا به على الوجه الذي يرضيك عنا، و اجعلنا من أهله، و جنبنا الفتن ما ظهر منها و ما بطن.

فضل التدبر

هنيئا لمن تدبر القرآن و حفظه و عمل به، و علمه، اللهم اجعلنا منهم . عَنْ عُثْمَانَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: “خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ”.  (صحيح البخاري).

قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].

في هذه الآية بين الله عز و جل  أن المقصد من إنزال القرآن هو التدبر ، و التدبر يؤدي إلى العمل .

 قال الحسن البصري: “والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل و قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أم على قلوب أقفالها ..} [النساء:82].

قال ابن كثير: “يقول الله تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ…}

وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة:121]. روى أيضا ابن كثير عن ابن مسعود قال: “والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله”.

وقال الشوكاني: “يتلونه: يعملون بما فيه ولا يكون العمل به كما قلنا  إلا بعد العلم والتدبر.

و أورد ابن القيم في كتابه مدراج السالكين كلاما يكتب بماء الذهب  ينبغي أن نتأمله  كلمة كلمة قال :( ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها ، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاتٍه وأفعالَه وما يحبه وما يبغضه  ، وصراطه الموصل إليه ، و قواطع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار و مراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً فيصير في شأن والناس في شأن آخر ….  إلى أن يقول تقدمَ الركبُ، وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيلَ الرحيلَ) انتهى كلامه . ( مدارج السالكين 1/451)

فتدبر القرآن إن رمت الهدى فالعلم في تدبر القرآن

فالله سبحانه و تعالى  أمرنا  بتدبر القرآن و تكفل لنا بحفظه  ، فانشغلنا بحفظه و تركنا تدبره  إلا من رحم الله  ، فعلينا   أن نجمع بين الحفظ و التدبر ، فكثرة التدبر هي التي  ترسخ الحفظ  ، و تسهل العمل ،  كما فعل الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، و الشرود الذهني أرَق الكثيرين ، خاصة  في هذا الزمن  الذي كثرت فيه المشاغل و المشوشات، و انتشرت فيه  الوسائل و الملهيات  ، فكان ضروري جدا وضع علاج له ، و خاصة في القرآن الكريم ، و قد وفقني الله تعالى  في الاعتناء  بهذا الموضوع  من سنوات  ، فقدمت فيه دورات تدريبية، كثيرة بحمد الله و نفع الله به كثيرا من الناس.

موانع التدبر

عدم فهم المعاني : من ضمن من دربتهم أيضا و عالجوا الشرود الذهني  عجم لا يعرفون اللغة العربية، نطلب من الواحد منهم قراءة القرآن،  فيقرأ ويحسن التجويد ، و القرآن له و قع خاص على القلب بغض النظر عن فهمه، فيحصل عندهم التدبر بالمحبة و التعظيم، ثم نطلب منه  يقرأ الترجمة ، فيعش المعنى ، ثم يعود ويقرأ الآية مرة أخرى و هكذا ،  و الله يعطيهم ثمرة الاستفادة ! و للتدبر موانع غير الشرود أيضا .

الذنوب: ذكر ابن قدامة في كتابه منهاج القاصدين فقال : من موانع تدبر القرآن أن يكون القارئ مصرا على ذنب ، أو متصفا بكبر ، أو مبتلى بهوى مطاع  ، فإن ذلك سبب ظلمة القلب و صدئه ، فالقلب مثل المرآة و الشهوات مثل الصدأ ،  و معاني القرآن ،  مثل الصور التي تتراءى في المرآة , و الرياضة للقلب بإماطة الشهوات ، مثل الجلاء للمرآة . فيجب أن نتدارك أنفسنا بالتوبة والرجوع إلى الله، فالله قسم الناس إلى قسمين لا ثالث لهما قال تعالى : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }.

وسوسة الشيطان : يوسوس الشيطان لقارئ القرآن و يلبس عليه حتى لا يحضر قلبه أثناء التلاوة و هو عدو يجري من ابن آدم  مجرى الدم ، فماذا يفعل لدفعه ؟

أحد السلف كان يمشي مع طلابه فقال لهم ، إذا مررتم بغنم و فيها كلب هجم عليكم ، ماذا تفعلون ؟ قالوا  : ندفعه ، قال: يهجم عليكم مرة أخرى ، قالوا ندفعه !

 قال : إذا يطول بكم الحال ، فقالوا له: ماذا نفعل  ؟ 

قال: استعيذوا بصاحبه يدفعه عنكم .

قال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّـهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } سورة النحل

كيف نبد أ ؟

لكي نصل إلى  مستوى التغيير الفعلي ، لا بد أن نطبق كل هذه المفاهيم الوارد، حيث نحول المعلومات إلى مهارات ونكتسب مهارة التدبر :

  1. نقرأ من فضائل التدبر حتى نرغب فيه 
  2. ابدأ بأول خطوة  نقرأ ما تيسر بتدبر ، و الشيء إذا تكرر تقرر .
  3. أُعلم الناس و أدعوهم لهذه الصفة
  4. استعن بالله و أدعوه أن يرزقني حقيقة التدبر .

و المهارة إذا  ترسخت و تعودت عليها صارت صفة ملازمة  لك .

الشرود الذهني 

هو نوع من فقد الإحساس بالزمان و المكان فيضعف التركيز  فيحدث تشتت، فيقع انفصام بين ما نقرأه  أو نسمعه، و ما نفكر فيه إما بسبب القلق النفسي أو ما يسمى بأحلام اليقظة، ويمكن التغلب عليه لأن الله لا يأمر إلا بالمستطاع، و قد أمر بالتدبر.

أين يذهب عقلك ؟

للإجابة على السؤال هناك من سيقول عقلي ذهب إلى البيت، وبعضهم إلى الشغل،  وثالث يفكر في أمر من أمور الدنيا وهكذا ، بحصر الإجابات تقريبا ، نجد أن العقول تذهب إلى واحد من ثلاث :

  • إلى شيء نحبه
  • أو شيء  نكرهه  
  • أو آخر حدث كان معي  

لاحظوا  هل يوجد مجال آخر ؟ ممكن ، و لكن هذا الغالب  ، العقل لا يستطيع  أن يركز على شيئين في نفس اللحظة  !  إذا فكر في  هذا  الشيء  ،، يفقد التركيز على  ما سواه .

النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة.” (رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود).

لاحظوا معي أن النظرة الاولى لك، لأن القلب لم يحضر و هو مناط التكليف  ، أما الثانية فعليك لأنه حضر.

كلُّ  الحوادثِ  مبدأُها من النظر ومُعظَمُ النارِ مِنْ مُستَصْغرِ الشَرِرِ
كْم نظرةٍ فعلتْ في قلب صاحبها فِعْلَ السهامِ بلا قوسٍ ولا وتـرِ
والمرءُ ما دامَ ذا عينٍ يُقَـلِبُها في أَعينِ الغِيد موقوفٌ على خَطرِ
يَسرُّ مُقلَتَهُ ما ضرَّ مُهجَـتَهُ لا مرحباً بسرورِ عادَ بالضررِ

الغيد : جمع غادة الفتاة اللينة الناعمة

تمرين : اقرأ أي سورة و لاحظ إلى أين يذهب عقلك ؟

من المؤكد حضورة في مرة وغيابه في مرة أخرى ، حتى أن بعضهم  يغيب طويلا ، فيمكن أن تنتهي الصلاة الجهرية و ما عرف ماذا قرأ الإمام! 

ومن طريف القصص حول حضور الذهن ، قال أب لولده : اذهب إلى المسجد و ادع لي المصلين  لعشاء صنعته لهم ،  فلم يأت إلا بخمسة أشخاص ! فغضب الوالد على ولده، و قال أقول لك تأتني بمن صلى في المسجد ، تأتني  بخمسة فقط ! فقال : يا أبتي لم يصل إلا هؤلاء ، فاستغرب الوالد و قال ماذا تقول ؟  ، فقال : يا أبتي وقفت على طريقهم و كل واحد أسأله : ماذا قرأ الإمام فيقول لا أدري ! إلا هؤلاء الخمسة،  فأتيتك بهم . ولا يكتب لابن آدم من صلاته إلا ما عقل! 

السؤال التالي : ماهي مجالات الشرود الذهني و أسبابه،  وكيف نتخلص منه؟ 

كيف نستحضر القلب ؟

العقل إذا لم تشغله  في الموضوع  الذي أنت فيه أشغلك في مواضيع أخرى  فهو لا يتوقف عن التفكير و البحث ،   فنحن عادة لما نقرأ  أو نستمع  نرتبط  بشكل الكلمة أو بالصوت و لا نستحضر المعنى ، فهنا  لا نعط للعقل حاجته  فيصير عنده فراغ  كبير،  فهو تلقائيا يقوم بسد  الفراغ! فتدخل إليك الأفكار ، تماما مثل ظاهرة “الضغط الاسموزي”   لمن درس ذلك  حيث  الانتقال من الأعلى تركيزا إلى الأقل تركيزا  ، فتتوارد الأفكار و تدخل الصور على القلب فتجده فارغا فينشغل فيها  و يبقى الحاضر الغائب ، فيتجول في تلك  الأفكار  و المعاني ، فيحدث انفصام بين ما نقرأه أو نسمعه و ما نفكر فيه !

نشغل القلب في معاني القرآن

قال تعالى : {  إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِیدࣱ } (ق:37)  أي حاضر .و هذا هو مراد الله منا.

 قال ابن القيم عن تدبر القرآن الكريم “هو تحديق ناظر القلب إلى معانيه وجمع الفكر على تدبره وتعلقه وهو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر”.فكأن للقلب كامرة تحدق في المعاني !

 نفكر في كل كلمة بعد ما نعرف معناها حتى أعطيها تصور في عقلي صحيحة ، إلا ذات الله العلية ، فلا تحيط به الأفكار ،{ ليس كمثله شيء و هو السميع البصير ، لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } الأنعام :103

سؤال آخر إذا واجهتنا كلمة  لا نعرف  معناها  ماذا نفعل ؟ و هل الإعراض عن تدبرها هو الحل ؟

لا ، بل نتوقف و ننظر معناها الصحيح .. و هذا هو  الفرق بين التدبر و القراءة التصويرية . فننظر إلى الأحداث و نتابعها في الواقع، و كأننا موجودين نشاهد و نسمع و نشعر.

 و الآن ابدأوا  معي بحضور و توجه ،  و تحديق النظر  في المعاني  .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ*وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ } (الواقعة : 27 -31)

كأنك تشاهد و تشعر بهذا الجمال مياه  و ظلال وارفة.

{ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ } (الواقعة 32 – 40) . الآن  انتقل بكم المشهد إلى وضع مغاير تماما .

{ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} ( الواقعة : 41 – 44)

تصور معي هذا الحال  ثم عد  إلى الدنيا  ،  وتتذكر كيف كانت حياتهم .

{ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ } ( الواقعة : 45 – 48)

 هل فعلا تذكرت كلامهم ؟

{ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ } ( الواقعة : 49 – 51)

ثم ترجع  إلى  الآخرة :

{ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ * نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ } ( الواقعة : 52 – 57) و هكذا .

عن حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه- قال: صليت مع النبي ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المئة، ثم مضى ،  فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا ، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد ثم قام طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد، فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من قيامه. صحيح مسلم.

فهذا تطبيق عملي ، من النبي إذا لم يحصل التدبر ، القلب  لا يصله شيء ، و لا يتأثر .

أفلا يتدبرون القرآن أم  على قلوب أقفالها !

فلا بد أن يكون التدبر هو المقصد و ليس  مجرد القراءة ، و لا بد أن نخصص  وقتا لذلك .

كل واحد ينبغي أن يجلس لحاله مع المصحف، و يتتبع هذه الخطوات عمليا ،  فينظر في المعاني حتى يخشع ،  و يتأثر،  سنلاحظ  أن الإيمان يزداد بسرعة و الحفظ  يتضاعف  ، كلما تأنيت في القراءة  و تدبرت قوي الحفظ  ، و كلما  أسرعت في القراءة  ضعف الحفظ ، و تشتت الذهن . 

ننتقل الآن إلى و ضع خطة  لتدبر و حفظ القرآن الكريم  .

وضع خطة ووقت للحفظ و تدبر القرآن الكريم

خذ من صحتك و فراغك

و من ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر

 قال : النبي صلى الله عليه وسلم : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة ، و الفراغ !

نعم الصحة و الفراغ  هما رأس مالنا .

  • – خذ ورقة و قلم  و اكتب كم عندك من الوقت ، حتى و لو عندك مشاغل ، انظر الفراغات  ، قبل الفجر ،  بعد الصبح إلى الإشراق  ، بعد العصر ، بعد العشاء  ، ستجد الكثير،  و الكثير ، و أنسب أوقات الحفظ  وقت السحر .

قال تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا }  قال ابن كثير عند هذه الآية: (والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان) ،  زد على ذلك أن الله يجعل التأثير في دعوته و تعليمه  فيصل إلى  قلوب الناس

و كما قال : الإمام بن جماعة : (فأجود الأوقات للحفظ الأسحار ، وأجودها للبحث الإبكار ، وللتأليف وسط النهار ، وللمراجعة والمطالعة الليل ).

  •  خصص وقتا  ثابتا كل يوم  ،  فتكون الزيادة عليه ربحا لك ،  كلما وجدت فرصة  خاصة أوقات الراحة ، و بعد النوم مباشرة هذا وقت ثمين ،  لأن العقل  أثناء النوم يضع الأحزان مع بعض و الأفراح مع بعض و يرتب نفسه ، فهو الآن جاهز للحفظ ،  طبعا تجنب وقت الشبع  ، فالبطنة تذهب الفطنة ،  فالذاكرة  مسترخية  ، والجهاز العصبي  مشغول في هضم الطعام  ،  و كذلك نتجنب  و قت  الإرهاق  و نحوَ ذلك .

في أي عمر تستطيع  حفظ القرآن الكريم.لا تضيع الفرص ، إذا كنت شابا، فالحفظ في الصغر كالنقش في الحجر  ،  و إذا كنت شيخا ، الصحابة جاءهم الإسلام و بعضهم كبار حفظوا القرآن ،  و الأمثلة كثيرة حتى من تجاوز السبعين ، فالحفظ  لا يتوقف ما دام العقل سليم ، فنحن يوميا نحفظ  الأشياء التي ليس لها أي قيمة ، و لو أردنا تدوينها  ،  لا نستطيع لكثرتها  فكيف لا نحفظ كلام الله ! فالأجور عظيمة .

بكل حرف عشر حسنات وتكون من أهل الله و خاصته. ولمن عنده الاستعداد  ليجعل أول أمره نية حفظ القرآن هدفا في حياته ، سيربح  إذا حفظ ، و إن مات  قبل ذلك ، يكتب عند الله من الحفاظ ، فابدأ  الآن .

هدفي أحفظ القرآن

في الحقيقة أغلب الناس يستطيعون تحقيق متطلباتهم و لكن يمنعهم غياب الهدف ، فالعقل إذا كان أمامه هدف يوجه و يركز ثم يعيد التوجيه و التركيز،  حتى يصل إلى ذلك الهدف و إذا لم يوجد لديه هدف  فإن طاقته تتبدد ، كيف انطباعك لو أن شخصا مر عليك ، قلت له يا فلان أين ذاهب قال لك :  لا أدري ؟! لا شك أنه انطباع سيء !

نحتاج إلى وضع هدف . و الهدف يحتاج إلى خطة .

لو قررت الذهاب إلى مكة المكرمة للعمرة، هذا هدف و لكن التجهيزات و طريقة الوصول  تحتاج إلى  خطة .

ممكن الكثير منكم سمع  بحفظ القرآن في شهرين  ، نعم يمكن ذلك.  تكرار آية واحدة عدة مرات ، ثم التي بعدها ، ثم التي بعدها حتى يختم أو يكرر الصفحة ، و يضغط على عقله لفترة  معينة، و لكن الحفظ يحتاج إلى تأني و تدبر  حتى ترسخ المعاني، و يتشربها  العقل ، و يقرأ أيضا بتجويد يعطي الحروف حقها و مستحقها .

 قال بن الجزري :

الأخذ بالتجويد حتم لا زم من لم يجود القرآن آثـــــم لأنه بـــــــه الإله أنـــــــــــزلا و هكذا منــــــه إلينا وصـــــلا

صفحة  تكررها في  لحظات قليلة  !!

 أين نحن من قراءة النبي صلى الله عليه و سلم  !

ورتل القرآن ترتيلا

سُئِلَ أنَسٌ كيفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالَ: كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}  ، يَمُدُّ ببِسْمِ اللَّهِ، ويَمُدُّ بالرَّحْمَنِ، ويَمُدُّ بالرَّحِيمِ.

فقد أَمره  الله فقال :و رتل القرآن ترتيلا، وقال : (و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا . )على مكث : أي على  تؤدة.

و قال : و لا تحرك به لسانك لتعجل به . فلا تنظر كم قرأت  ؟  و لكن كيف قرأت .

قام النبي – صلى الله عليه و آله  و سلم – بآية حتى أصبح يرددها والآية { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } . رواه الحاكم في المستدرك .

نريد أن يأخذ الانسان الأمر بجدية واستعداد وعزم وصبر في جميع الظروف حتى يتحقق له حفظ القرآن .

اللهم اجعلنا من أهل القرآن العاملين ، و أشغلنا به على الوجه الذي يرضيك عنا ، حتى نلقاك و أنت عنا راض ، قولوا آمين .

خطة الحفظ

هذه الخطة  يسرها الله تعالى أن تكون سهلة ، تصلح للجميع، و لو كانت لديه مشاغل كثيرة !

تحديد مدة معينة كل يوم لتثبيت الحفظ و المراجعة بقدر  محدد،  حتى لا تتراكم عليك المحفوظات. وهي خطة ويسيرة بإذن الله :

  • ستون شهرا يتم فيها اتقان الحفظ
  • لكل شهر ختمة  مع حفظ حزب واحد
  • لكل اسبوع ربع حزب ، يومان  للمراجعة فقط.
  • كل يوم  نصف صفحة .

التثبيت 

تكرر -يا من تريد حفظ القرآن – كل آية لوحدها لأنها أخف و أنشط للعقل و أسهل للحفظ ، فمثلا يمكن تكرراها و أنت في الطريق للمسجد أو العمل .. إلى آخره ، ثم  تتشجع فتأخذ التي بعدها و هكذا ،  بدل من قراءة صفحة فهي تأخذ  وقت ، و إذا لم تحفظ  بسرعة يأتيك إحباط  قد يؤثر على عزمك ، خاصة إذا كنت غير متفرغ  للحفظ.

مثال آخر: تخيل أنك تريد نقل حمولة تزن 30 كيلا لمكان آخر، إذا قسمتها إلى 6 حمولات وكل حمولة تزن 5 سيسهل عليك نقلها.

إذا انتهيت سيوضع المحفوظ في الذاكرة القصيرة ثم راجع نصف الصفحة هذا حتى تتقنه و يدخل الذاكرة الطويلة ،

هذا التكرار هو أقوى المهارات ، ولكن  احذر أن يكون عن غفلة  أو فيه أخطاء ،  لازم من التصحيح  على متقن للقرآن ،  فتكن القراءة سليمة و مجودة و عن تدبر .

المراجعة

  • في يومك و ليلتك :  صل بنصف الصفحة الذي حفظته بأمس.
  • في اسبوعك راجع ما حفظته في الأسبوع الماضي .
  • في شهرك راجع ما حفظته في الشهر الماضي ، و هكذا …..
  • وفي ختمتك الحزب الذي أتقنته  لا تقرأه إلا عن ظهر قلب .
  • المراجعة مفتوحة في أوقات الفراغ  و أمامك يومين في كل أسبوع .

الوقت

كل شخص يعرف المناسب له ضمن برنامجه اليومي .ولكن أقترح حسب تجربتي من الأنسب تخصيص وقت من صلاة  الصبح إلى الإشراق  و عشر دقائق عند كل صلاة.

وقد يمكن تقول  أنها طويـلة  خمس سنوات  ، ما هـذا ؟   بل لشهور و أنت  أمخلص القرآن . !!

، فتضغط نفسك أسبوع .. اسبوعين  ، بعدين تتعب و تترك ،

سجل ذلك التاريخ ، ستمر عليك خمس سنوات أو أكثر و أنت تراوح مكانك  ، لا قدر الله ، بل قد يولد الولد و يحفظ القرآن و أنت لم تحفظ بعد،  نعم الشيطان ، لا  يتركك على الطريق الصحيح ، إما افراط أو تفريط .

هذه الخطة  بإذن الله تعالى  : لو تعزم عليها و تنفذها  تحفظ القرآن الكريم بسهولة ، و دون أي تعب .

لقد قدمنا فضل التدبر و موانعه، وكيف نتخلص منها  و وضعنا خطة سهلة  ، فلنبدأ  الآن  بداية جديدة  و عزم قوي مهما مررتم بنجارب فشلت سابقا.، غالبا يكون سببها (طريقة احفظ و انسى  ) ، أي عندما يتراكم المحفوظ  ويترك، و  يأخذ حفظ جديد فينسى الأول، و هكذا يقدم رجل و يؤخر أخرى ، فيفوت عليه الزمن.

و كذلك فيه غفلة أيضا و ملل، و لكن صدقني لو تدبرت القرآن تمر عليك الساعات  و أن  لا تريد أن تترك القراءة  ،

وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ أَوْثَقُ شَافِعٍ وَأَغْنى غَنَاءٍ وَاهِبًا مُتَفَضِّلاَ
وَخَيْرُ جَلِيسٍ لاَ يُمَلُّ حَدِيثُهُ وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلاً