كلما يقرأ أحدنا قصة النبي الكريم موسى مع الرجل الغامض الذي وصفه القرآن بالعبد الذي {آتينه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما} (الكهف :65) والذي ظهر في مشهد واحد من مشاهد حياة موسى عليه السلام فجأة، ثم اختفى بعد ذلك، كلما وجد أن علم الإنسان محدود جداً مهما تعمق وتبحّر في العلوم..

هذا كليم الله موسى – عليه السلام – المعزز بالوحي، والمفترض أنه لم يكن أحد أعلم منه في تلك الفترة من حياته، يسأله سائل من قومه، بعد أن خطب في حشد كبير من بني إسرائيل يوماً: هل هناك من هو أعلم منك يا موسى؟ فأجاب من فوره: لا، وهو بالطبع قال ذلك لأنه لم يكن يعتقد أن أحداً في تلك الفترة غيره له صلة بالسماء، يأتيه الوحي مثله ليعرف ما لا يعرفه بقية البشر، فكانت بالتالي تلك إجابته.

بسبب ذلك الموقف، يبدأ مشهد غريب في عالم البشر. موقفٌ لم ولن يتكرر. فقد أوحى الله إلى موسى أن هناك من هو أعلم منك. فتعجب كليم الله من ذلك، فسأل الله أن يدله على ذاك الذي هو أعلم منه. فكان هو الخضر – عليه السلام – الذي اتفق المفسرون على أنه كان نبياً أو ولياً من أولياء الصالحين أو في تلكم المنزلة ما بين النبي والولي، وليس هذا مهماً بقدر أهمية أنه كان يعلم علماً ليس يعلمه أحد إلا الله.

أعطاه الله علماً لحكمة يراها سبحانه. ولعل المشهد المعروف أو القصة المعروفة بينه وبين موسى – عليهما السلام – التي نقرأها كل جمعة في سورة الكهف، ربما كانت رسالة للعالمين، على أن علم الإنس والجن، لا شيء بجانب علم الله، مهما علا وارتقى وتعمق العلم الإنسي أو الجني على حد سواء. هذه نقطة أولى.

ماذا عند الخضر ؟  

النقطة الثانية في القصة، أن الخَضِر ظهر في المشهد مع كليم الله موسى – عليهما السلام – وعنده علم محدد ليس عند موسى ولا أحد من البشر. بمعنى آخر، كان الخَضِر يمثل القَدَر المتحرك كما يقول البعض، أو القدر الخفي – كما يقول الشيخ سلمان العودة – الذي كان ” يفسر ما وراء الأحداث من الحكم والأسرار الربانية، بما يجعل قارئ الحدث يتلمّس أبعاداً غير مرئية لما يجري في الكون من المحن والمصائب وقتل الأطفال وتسلط الظالمين، إنه السؤال عن الشر الواقع في حياة البشر، والذي طالما كان سبباً في شك الناس وتساؤلهم عما وراء الحدث “.

كلنا يتألم لمصيبة أو كارثة أو فاجعة إذا نزلت به أو بأحد من أهله أو أحبابه أو آخرين يهتم لأمرهم. وربما يتساءل أحياناً – إذ استسلم لوساوس النفس والشيطان – وخاصة إن كانت الفاجعة مؤلمة وساحقة، يتساءل عن سر حدوثها، أو الحكمة من ورائها، وأين الرحمة في فاجعةٍ يموت فيها أطفال أبرياء مثلاً، أو يتم نهب وغصب حقوق فقراء ومساكين فتنتهي بنهايات كارثية، أو يتم أكل أموال يتامى لا حول لهم ولا قوة، لينشأ أحدهم حين يبلغ الرشد وهو مفلس فقير يتسول عند هذا وذاك، وما ذلك إلا لظلم وقع عليه من أكلة أموال الناس بالباطل، لم يردعهم دين ولا قانون ولا أخلاق ولا مبادئ.

تأتي قصة الخَضِر مع موسى – عليهما السلام – لتضع تلكم النقاط على الحروف، من أجل أن تطمئن قلوب متقلبة، ونفوس قلقة حائرة، ويهدأ متشككون في إيمانهم وعقائدهم، ويتعرف الناس أكثر فأكثر على أنه ما من حدث في هذا العالم، إلا والخير كامن فيه. قد يظهر من فوره، أو بعد حين من الدهر طويل.

المساكين أصحاب السفينة  

هل كان أصحاب السفينة المساكين على علم بأن جزاء المعروف الذي أسدوه للخضر وموسى وفتاه، بحملهم في السفينة دون مقابل، هو قيام الخَضِر بإحداث عيوب في سفينتهم الوحيدة؟ هل كانوا على علم بملك ظالم قد يستولي على سفينتهم إن أراد، دون أن يتجرأ أحد بالاعتراض أو طلب الثمن؟ بالطبع لا، لم يكن في علمهم البشري ولا حتى موسى عليه السلام، وهو النبي الذي يوحى إليه، أي دراية بذلك العلم.

لكن في العلم الذي اختص الله الخَضِر به، أن تلك العيوب في السفينة بمثابة الخير الكامن في الشر الظاهري المتمثل في ذلك الإتلاف المتعمد للسفينة، فالملك لن يستولي على سفن ذات عيوب، وبذلك سينجو المساكين بسفينتهم، وحينها سيذكرون الخَضِر بكل خير، بل وسيدعون له أنه بفعلته تلك غير المفهومة لهم وقتها، نجوا ونجت سفينتهم ومصدر رزقهم من ذاك الملك الظالم. ولذلك حين تساءل موسى عليه السلام وأنكر عمل الخَضِر، لم يكن رد فعله سوى تذكيره بالاتفاق المبدئي، وهو ألا يعلق أو يعترض على أي فعل يقوم به الخَضِر.

قتل طفل بريء  

تتعمق القصة أكثر، وتزداد حيرة موسى – عليه السلام – وهو يرى الخَضِر وقد أزهق روح بريئة دون ذنب ! فكيف يقتل طفلاً ليس بينه أو أحد من أهله، عداوة مع الخَضِر؟ كيف يمكن تفسير هذا الجُرم؟ كيف سيعش والدا الطفل وهم يرون غريباً جاء من أقصى المدينة، ويقتل ولدهم دون ذنب أو جريرة؟ أسئلة منطقية بلا إجابات شافية. ولو أن والدي الطفل وكذلك موسى – عليه السلام – عندهم من العلم الذي عند الخَضِر، لما تساءلا بالطبع.

ولعل من المناسب هاهنا أن نتذكر قوله تعالى : { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } (البقرة : 216) لنستوعب المسائل الفاجعة المؤلمة، المكروهة غالباً من كل إنسان. نعم هذا ما يحدث في واقعنا البشري. نكره أشياء أو أحداث تقع لنا في لحظتها وساعتها بسبب قصور علمنا ومحدوديته. ولكن بعد حين من الدهر، طال أم قصر، سنتذكر ما كرهناه، لنجد أنفسنا نشكر الله ونحمده أن ذاك الأمر الذي حدث وكرهناه، أمسى خيراً لنا.. أليس هذا ما يحدث كثيراً لنا؟

أما الذي جرى مع والدي الطفل، وعلى رغم عدم وجود إجابة لسبب قتل الخضر لولدهما، والذي علمه موسى عليه السلام بعد ذلك، هو أن الله رزقهما بطفل آخر صار باراً بهما، وسعدا به أيما سعادة. فيما الطفل الأول الذي لو لم يقتله الخَضِر لكان شقياً عصياً عاقاً لهما، وربما تمنوا هلاكه، فكان الخير في إزهاق روحه قبل أن يبلغ ويرشد، وهذا ما كان في علم الخَضِر، الذي قدم لهم ذلك الخير وإن بدا لوالدي الطفل أنه شر.

الشاهد من القصة كلها، أنها ملهمة تدعو للتفكر والتأمل في أحداث الحياة، سواء العظيمة منها أو قليلة الشأن. فكلها تجري وفق مقادير مُحكمة. نرى اليوم أمراً نحسبه وفق تقديراتنا البشرية أنه كارثة، وإن مآلاتها ونتائجها ستكون فواجع ومصائب. لكننا بعد حين من الدهر نجده عكس ذلك تماماً.

نعم قد تقع مآس وكوراث نتألم منها ونفجع، لكنها تهيئة لأجواء من الخير أكبر وأشمل. والمسألة تحتاج لصبر وعدم تعجل، على عكس ما كان من أمر موسى مع الخَضِر عليهما السلام، فإن استعجال موسى وعدم صبره على أحداث، هي صعبة على الفهم والمنطق البشري، عجّل بانتهاء الاتفاق الذي كان بينه وبين الخضر، وإلا لعلمنا ووجدنا العجائب، كما قال بذلك النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم:” يرحمُ اللَّه موسى، لوددنا لو صَبَرَ حتى يقص علينا من أمرهما “.  

كلما جالت في خاطرك أسئلة أو تساؤلات موسى واستنكرت أو رفضت أحداثاً في حياتك، فلتكن على يقين تام بأن هناك تفسيرات وإجابات كإجابات الخَضِر لموسى، قد تدركها وربما لا تدركها. وأنه لا شيء في هذا الكون يقع صدفة، إنما وفق مشيئة إلهية ولحكمة يراها سبحانه، وفيها دون أدنى شك، من الخير الكثير الكثير، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. والسبب كما بينه القرآن {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } ( الإسراء: 85)، وإن قلة العلم دافع للتساؤلات، التي قد تكون بعضها بحثاً عن الاطمئنان، فيما أخرى للتضجرات والتذمرات والعياذ بالله. فاللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ويقينا.