سُنّة طيبة بدأ بها رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام ومن بعده، أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.. وتمثلت في فعل طلب الصفح والعفو من الناس قبل أن ينتقل أحدهم إلى الرفيق الأعلى، وهم في سدة الحكم. وفي ذلك إشارة إلى أنه لا أحد من البشر معصوم من الخطأ.
وعلى رغم أن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وقد عصمه الله من الخطأ، إلا أنه حرص على تطبيق شرع الله على نفسه قبل غيره، ليبين لمن بعده من أمته، أنه لا أحد فوق شرع الله. وقد سار على نهجه وسنّته، الخلفاء الراشدون من بعده.

في حديث شبه طويل عن الفضل بن العباس قال: جاءني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرجت إليه فوجدته موعوكاً قد عصب رأسه. قال: خذ بيدي يا فضل. فأخذت بيده حتى انتهى إلى المنبر، فجلس عليه وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: “يا أيها الناس، إني قد دنا مني حقوق من بين أظهركم؛ فمن كنتُ جلدتُ له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه. ألا ومن كنتُ قد شتمتُ له عرضاً، فهذا عرضي فليستقد منه. ومن كنتُ أخذتُ له مالاً فهذا مالي فليستقد منه، لا يقولن رجل: إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله. ألا وإن الشحناء ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إليّ من أخذ حقاً إن كان له، أو حللني، فلقيت الله وأنا طيب النفس، ألا وإني لا أرى ذلك مُغنياً عني حتى أقوم فيكم مراراً “.

الناس سواسية أمام القانون

حقيقة يعرفها القاصي والداني، لكن مع تلك المعرفة، لا يقع فعلُ التساوي بين الناس أمام هذا القانون في كثير من أقطار العالم، سواء كان قانوناً إلهياً متمثلاً في أحكام الشريعة الإسلامية، أم قانوناً وضعياً من صنع البشر أنفسهم، حيث تجد الاستثناءات في كل مكان. فما يمكن أن يتعرض له شخص أخطأ في أمر ما من عقوبة، قد لا يكون بالمثل مع شخص آخر ارتكب الخطأ ذاته، إما لوجاهته، أو مكانته، أو ماله، أو غير ذلك من أسباب.

القصة المشهورة في التاريخ لآخر ملوك الغساسنة، جبلة بن الأيهم، ومن بعد أن أسلم، كتب إلى الخليفة عمر يستأذنه في القدوم عليه، فرحب به وأدنى مجلسه. ثم خرج في موسم الحج مع عمر. فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطأ على إزاره رجل فقير من بني فزارة، فالتفت إليه جبلة غاضباً فلطمه وهشم أنفه. فغضب الفزاري واشتكاه إلى عمر، فبعث اليه وسأله: ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف فهشمت أنفه؟

قال جبلة: لستُ ممن ينكر، أو يكتم شيئاً. أنا أدَّبتُ الفتى. أدركتُ حقي بيدي. قال عمر: أيُّ حقّ يا ابن أيهم؟ يريد أن يقول عمر لجبلة بأن مثل هذه المفاهيم لا محل لها عنده، بل هي عند غيره، حيث يُقهر المستضعف ويُظلم.. أما عندي فلا. هي جاهلية وأزحناها من حياتنا يا جبلة، والكل سواسية أمام شرع الله أو القانون الإلهي. ويبدو أن حديث الفاروق لم يعجب جبلة، بل طلب منه الفاروق أن يدع الرجل الضعيف أو المعتدى عليه، أن يقتص منه حسب قانون العين بالعين والسن بالسن.

قال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين؟ هو سوقة وأنا صاحب تاج. إنني عندك أقوى وأعز. أنا مرتد إذا أكرهتني. قال عمر: “عالم نبنيه، كل صدع فيه بشبا السيف يداوى، وأعـز الناس بالعبد بالصعلوك، تساوى”. لم يستوعب جبلة ما كان يعنيه عمر. لم يفهم أن الإسلام ساوى بين الناس، وأنه لا فرق بينهم إلا بالتقوى، ولم يفهم أن الارتداد عن الدين يستوجب حداً شرعياً.. فطلب جبلة من عمر أن يمهله إلى الغد، حتى إذا انتصف الليل، هرب نحو القسطنطينية حيث هرقل الروم، مرتداً عن دينه. حتى إذا أصبح الناس وطلب الفاروق جبلة، علم أنه فر، لكنه لم يهتم به، حتى وإن كان ملكاً من ملوك العرب، وبارتداده قد يرتد ألوف معه.

الدولة العادلة والدولة الظالمة

لم يقم الفاروق عمر لمثل تلك الاعتبارات التي ذكرها الملك الغساني أي وزن، فارتداد رجل عن الإسلام أهونُ عنده بكثير من التهاون في تطبيق مبدأ عظيم من مبادئه، وهو المساواة بين الناس، وإقامة العدل بينهم. خسارة فرد لا يمكن أن تُقاس بخسارة مبدأ. وعدلٌ قائم خير من عطاء دائم.

إنه بمقاييس اليوم والمفاهيم المدنية الديمقراطية، سيعتبر البعض فعل الفاروق، عملاً سياسياً قصير النظر، إذ كان بالإمكان لملمة الأمر وتطييب خاطر فرد ضعيف لا وزن له في الأمة، مقابل مصالح كثيرة متوقعة من وجود شخص عظيم وملك من ملوك العرب ضمن الأمة المسلمة. لكن ثبات عمر على موقفه وعلى سنّة حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وشدته في الاقتصاص للمظلوم من ظالمه، رسّخ معنى أن يعيش الناس أحراراً آمنين مطمئنين، لا يَظلمون ولا يُظلمون.

مما جاء أيضاً في هذا السياق، ما قال به شيخ الإسلام ابن تيمية في إحدى فتاواه: “الجزاء في الدنيا متفق عليه أهل الأرض، فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: “الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة”.

وفي السياق ذاته، ذكر ابن كثير في حوادث سنة 615 هجرية، أن المعظّم، حاكم دمشق أيام الخلافة العباسية، أعاد القيان والخمور والمغنيات وغير ذلك من الفواحش والمنكرات التي كان أبوه العادل قد أبطلها، بحيث إنه لم يكن أحد يتجاسر أن ينقل ملء كف خمر إلى دمشق إلا بالحيلة الخفية، فجزى الله العادل خيراً ولا جزى المعظم خيراً على ما فعل. واعتذر المعظم في ذلك بأنه إنما صنع هذا المنكر لقلة الأموال على الجند واحتياجهم إلى النفقات في قتال الفرنج”.

ثم علق ابن كثير على ذلك فقال: “وهذا من جهله وقلة دينه وعدم معرفته بالأمور؛ فإن هذا الصنيع يديل عليهم الأعداء وينصرهم عليهم، ويتمكن منهم الداء ويثبط الجند عن القتال، فيولون بسببه الأدبار، وهذا مما يدمر ويخرب الديار ويديل الدول، كما في الأثر: إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني”.

مما سبق كله، يتبين لنا أن الرسول الكريم ومن بعده خلفائه الكرام، أثبتوا أنه لا ذات مصونة أمام القضاء أو الشرع. فلا ذات مصونة إلا الذات الإلهية. وغير ذلك، فالكل أمام الشرع سواء. لا يوجد أي سبب يدعو للتفاضل بين الناس في مسألة العدالة. لا منصب، ولا مال، ولا جاه، ولا حسب أو نسب.