الرقمية أصبحت أكثر اندماجا في الحياة اليومية للإنسان، وهو ما يفرض على علماء الاجتماع فهما مغايرا لتأثيراتها المجتمعية، والبحث عن معايير جديدة للعلاقة بين الرقمية والمجتمع، فهناك تحديات رقمية تفرض حضورها، في ظل اقتحام الرقمية للفضاءات العامة والخاصة، وصارت إشكالاتها حول الحرية والرقابة أكثر إلحاحا، وعلى الجانب الآخر يذهب آخرون أن الرقمية استنسخت الأشكال التقليدية والشبكات الاجتماعية على وسائطها ووسائلها، ومن ثم تعززت الحواجز والمواقع الثقافية السائدة، وأن الآمال التي انتعتشت في تحقيق الرقمية تحررا من هذه الأطر تلاشت إلى حد كبير وأمام هذه الرؤى المتنوعة تأتي المادة الثرية لكتاب “علم الاجتماع الرقمي” الصادر عن عالم المعرفة بالكويت في يوليو 2021 في 327 صفحة.

تناول الكتاب رؤى علماء الاجتماع لإشكاليات تأسيس علم اجتماع الرقمي ، من خلال  مناقشة خمس قضايا كبرى (العلاقات، والفضاءات، والبنى، استخدام الوسائط، والممارسات) للتأكيد على الحاجة لعلم اجتماع يتجاوز مفهوم الثنائية والتضاد بين الافتراضي والواقع عند النظر للعلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع والثقافة.

تأثيرات الرقمية

يؤكد البروفيسور “روجر سيلفرستون ” Roger Silverstone أن “تعرض معظم الأفراد لمحتوى وسائل الإعلام بأشكال مختلفة على نطاق شبه عالمي يؤثر بنحو خفي في جزء كبير من الأفعال الاجتماعية والمعتقدات ويقيدها” والحقيقة أن تعرض غالبية البشر للرقمية لساعات طويلة، تتسم بالديمومة، لا شك أنه سيؤثر في علاقاتهم ورؤاهم وشخصياتهم.

وقد طرح الكتاب مسألة تأثير الرقمية على العلاقات الجنسية، وانقسمت الآراء في هذا الشأن، بين من يرى أن الرقمية قللت من خطر الاعتداءات الجنسية، وبين آراء أخرى تذهب أن الرقمية أفضت إلى انتشار الإباحية على نطاق واسع، وأصبح البشر أمام ظاهرة الجنس الإليكتروني، فالكثير بات قادرا على التخفي على الانترنت والقيام بأفعال فاضحة، في ظل الخصوصية التي تميز الرقمية، لكن الأخطر هو أن الرقمية تحولت لساحة لترويج البغاء، وأصبح الكثير قادرا على الوصول لتلك المواقع، وهو ينذر بتفشي الانفلات الأخلاقي، خاصة بعدما اختفت “ثقافة غرفة المعيشة” حيث يجتمع أفراد الأسرة حول التلفاز، لتحل مكانها “ثقافة غرفة النوم” مع انعزال كل فرد مع هاتفه الذكي، الذي لا ينفتح إلا له فقط، وهو ما أعاق قدرة الأسرة على تحقيق الرقابة والضبط لأفرادها، فأضافت الرقمية أعباء جديدة على الأسرة والمجتمع تهدد تماسك منظومة القيم.

وعرض الكتاب لرؤى متنوعة حول تأثير الرقمية على المساواة بين الجنسين، فالبعض ذهب أن الرقمية ستكون وسيلة للتغلب على عدم المساواة بين الجنسين، لكن آخرون ذهبوا أن الرقمية أكدت الطابع الذكوري المتأصل في التقنية، والحقيقة أن ذلك الانقسام هو أزمة في المجتمعات الحديثة ذات الهوس بالمساواة بين الجنسين، والتي تنظر إلى الفرد وليس الأسرة كارتكاز تأسيسي للمجتمع، وهو ما يضع المرأة في مواجهة دائمة مع الرجل، وفي مواجهة أعنف مع دورها الفطري في المجتمع، كذلك أثرت الرقمية على أدوار الأبوة والأمومة داخل الأسرة، فالهاتف الذكي أخذ جزءا كبيرا من وقت واهتمام الوالدين بأولادهم، وتسبب هذا الغياب في أزمات نفسية واجتماعية في الأسرة.

أما تأثير الرقمية على الروابط الشخصية خاصة الصداقة، فقد أحدثت تغيرات كبرى ومتنوعة، فالروابط الإنسانسة ازدادت هشاشة، كما أن العلاقات التقليدية في الصداقة انتقلت من الواقع إلى العالم الافتراضي، لكن يبقى عمق التواصل الإنساني هو الشيء المفقود، فالرقمية تتميز بقدرة الفرد على اختيار المجتمع الذي يعيش فيه، والمجتمع الرقمي يمكن صفه بأنه “مجتمع اختياري”، لذا يبحث الأشخاص عمن يحققون لهم الدعم والراحة.

وعلى الجانب الاقتصادي يرى البعض أن الرقمية هي نتاج للرأسمالية الساعية لتشييد مجتمع الترفيه والاستهلاك، لذا تعزز هذان الأمران في المجتمع من خلال الانترنت، فطُمست الحدود الفاصلة بين الرأسمالية والرقمية، وأصبح المجتمع أثر عرضة للتفكك مع الرقمية، وتقارب المال مع المعلومات للتأسيس لنوع من اللامساواة الواسعة، ويبرز في الرقمية قضية اللامساواة في امتلاك المعلومات والسيطرة عليها، فالمعلومة مصدر للقوة، وأمام حالة اللاتكافيء في امتلاك المعلومات تبرز اللامساواة في المجال الرقمي، وتعيد إنتاج أنماط اللامساواة القديمة، إلى جانب اللامساواة التي برزت مع الرقمية، وهو ما يعمق الأزمات داخل المجتمع الواحد، وبين المجتمعات المتنوعة.

وهناك من يرى أن توظيف المعلومات جزء لا يتجزأ من الرأسمالية، ومن ثم لم تخلق الرقمية فضاء يمكن من خلاله ممارسة الديمقراطية، بعد خصخصة المعلومة وتسليعها، إذ باتت المعلومة مصدرا للحصول على المال، فنشأ نهم من الشركات للحصول على المعلومات عن الأشخاص وبيعها لشركات أخرى تستخدمها في التسويق، وقد انعكس ذلك على خصوصية الأفراد داخل المجتمع التي باتت نهبا، وأصبح الفرد شبه عار معلوماتيا في ظل تضاؤل خصوصياته.

الرقمية والحرب

من الموضوعات التي طرحها الكتاب تأثير الرقمية على الحرب مفهوما ومعالجة لأخبارها، فالرقمية أضعفت مفهوم المراسل الحربي، وأضعفت سيطرة المؤسسة الرسمية على الخبر، وبات في استطاعة الجنود أن يبثوا يومياتهم ومواقفهم أثناء الحرب مباشرة، دون أن تتحكم الجهات الرقابة في حكايات الحرب قبل نشرها، أما عن تأثير ذلك على المجتمع، فقد تأثرت الرواية الرسمية عن الحرب العادلة بشدة، أو ما يمكن وصفه بتسويق مبررات الحرب، الذي لم يعد خاضعا للرواية الرسمية فقط.

ومن ناحية أخرى فإن بث أحداث الحرب أوجد أدلة إدانة لا يمكن إخفاؤها، خاصة مع تجاوزات الجيوش في الميادين، ويؤكد الكتاب “أن شن حرب فاضلة تعني بذل قصارى الجهد لإخفاء ضحايا العنف الذي يُرتكب” ومن ثم كان هناك استغلال للرقمية لإظهار أخلاقيات القتال، وتحقيق التعبئة السياسية للحرب.

وعلى الجانب الآخر فإن كثرة مشاهدة عنف الحروب أوجد حالة من التبلد في المشاعر مع رؤية الدماء والأشلاء، فالغالبية تشاهد على الانترنت آثار الحرب وضحاياها بتبلد، وكأنها تشاهد ألعاب فيديو، لكن الأدهى هو أن الرقمية أوجدت هوسا لمشاهدة عنف الحروب ومآسيها، وأصبح الشخص يسعى لمتابعتها، والغريب أنها باتت سلعة تُجنى من ورائها الأموال.