من بين التحديات التي تضغط بثقلها على ساحتنا الفكرية والاجتماعية، لاسيما عند الشباب، تحدي الإلحاد؛ الذي بات له مروّجون وجهود ومؤسسات تقف خلفه وتدعمه؛ ولهذا من المهم أن نلتفت لذلك ونضعه موضع التساؤل والدراسة؛ وهو ما نقوم به في هذا الحوار مع أحد أبرز المهتمين بمناقشة ظاهرة الإلحاد وتفنيد مقولاته، وهو المفكر المصري الدكتور عمرو شريف، أستاذ ورئيس أقسام الجراحة العامة الأسبق بكلية الطب، جامعة عين شمس.

  • – لا يوجد اكتشاف علمي واحد ينفي الوجود الإلهي
  • – الملحد يُخرِّج من العلم إلحادًا بينما المؤمن يخرج منه إيمانًا
  • – الإسلام خاتم الرسالات لأنه يسلِّم الإنسانَ للعقل والعلم
  • – لكل من عالَمَيْ الغيب والشهادة طبيعته وقوانينه
  • – أي اكتشاف علمي يمكن توظيفه في سياق الإيمان أو الإلحاد

د. عمرو شريف مهتم بفحص مسألة العلاقة بين العلم والفلسفة والدين؛ وتناول ما يتصل بها من حقائق وما يكتنفها من ادعاءات. وقد صدرت له عدة كتب مهمة في ذلك؛ منها: “المعلوماتية- برهان الربوبية الأكبر”. “الإلحاد مشكلة نفسية”. “حادي العقول”. “رحلة عقل”. “كيف بدأ الخلق”. “ثم صار المخ عقلاً”. “كأنك تراه- إنك بالواد المقدس”. “الوجود رسالة توحيد”. ترجمة ونقد كتاب: “لغز الوعي” لسوزان بلاكمور. ترجمة كتاب: “الطب المصري القديم” (مع د. عادل وديع فلسطين).. فإلى الحوار:

لو بدأنا بتعريف المقصود من “الإلحاد”.. ماذا نقول؟

الإلحاد مصطلح له معنى قرآني ومعنى قاموسي ومعنى اصطلاحي. إذا بدأنا بالمعنى القرآني فسنجد أن الإلحاد ورد في مواضع من القرآن الكريم، ليس من بينها ما هو بمعنى الكفر. فمن ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} (الأعراف: 180)؛ أي في أسماء الله. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: 103)؛ أي في اللسان أو النطق.

ونستطيع أن نأخذ المعنى القاموسي للإلحاد مما ورد في القرآن الكريم، فيكون بمعنى الميل؛ أي الميل عن الجادة. أما المعنى الاصطلاحي للإلحاد فهو إنكار الوجود الإلهي. وهنا نشير إلى أن كفار مكة لم يكونوا ينكرون وجود الله عز وجل، بل كانوا يعترفون بالوجود الإلهي: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف: 87)، ومع ذلك سماهم القرآن الكريم كفارًا وكافرين.

وإنكار الوجود الإلهي يُقصد به في القرآن، ما ورد على لسان الكافرين: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (الجاثية: 24)، أي الدهريين؛ الذين شعارهم: إنْ هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر!

وهناك مصطلح مرتبط بالإلحاد وهو “مصطلح الربوبيين”، وهو ينطبق على أهل مكة أيام بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فهم كما أشرنا لا ينكرون وجود الخالق، ولكن تكمن مشكلتهم في إنكارهم التواصل بين السماء والأرض. وهذا أيضًا مثل ما ذهب إليه أرسطو، من أن “المحرك الأول” لا يليق به أن ينشغل بمخلوقاته، وإنما ينشغل بذاته؛ مثل “صانع الساعة”؛ صنعها ووضع فيها قوانينها ثم تركها تعمل! فعلى رأيهم ليس للإله دور في “القيومية”: إدارة الوجود؛ فالربوبيون يؤمنون بإله ولا يؤمنون بالديانات، وبالتكليف، وبالبعث بعد الموت.

والملاحدة في بلادنا العربية لجأوا إلى موقف الربوبية بعد أن تم التصدي للموجة الإلحادية، وأصبحت الأدلة على الوجود الإلهي لا تُدحَض؛ فوجدوا المفر من ذلك في أن يعترفوا بالوجود الإلهي مع إنكار التكليفات. وبهذا يحقق الملحد ما يريد؛ وهو أن يعيش حياته دون تكليف، ودون أن يحمل همَّ البعث والجزاء والعقاب!

الإلحاد.. ظاهرة عقلية أم نفسية؟

هذا السؤال يتطلب أن نستعرض أسباب الإلحاد. وفي محاضراتي أشبِّه الإلحاد بـ”جبل ثلج” غائر في المحيط.. الجزء الظاهر من الجيل يقارب 10- 20% من الجبل، وهذه هي “الأسباب العقلية” الظاهرة التي يعلنها الملحد؛ كأن يتذرع بنظرية التطور، أو بما يزعمه من تعارض النص الديني مع حقائق العلم، أو أن يقول إذا كان الله خلق الخلق فمن خلق الله.. فهذه أسباب عقلية، وهي تشغل الجزء الأصغر من أسباب الإلحاد .

أما الجزء الأهم فهو الغائر تحت سطح الماء؛ وهو يتكون من عدة شرائح؛ أولها ما يقابلنا قرب السطح، وهي “الأسباب الشخصية”، ثم في العمق “الأسباب النفسية”، أما ماء المحيط فهو يمثل “الأسباب الاجتماعية”.

في الأسباب الشخصية، نجد أن “بول فيتز”- أستاذ الطب النفسي بجامعة نيويورك، وله نظريات في العوامل النفسية للإلحاد- يقول: “عندما تخصصت في الطب النفسي، كان معظم العاملين في هذا المجال من أساتذتي ملحدين، فكان ينبغي أن أجاريهم وأستخدم المصطلحات الإلحادية”! فهذا نموذج للأسباب الشخصية؛ ومثل هذا، الشاب الذي يريد أن يعيش متحررًا من القيود والتحذيرات الدينية، مخالفًا لها؛ فيلجأ للإلحاد كي يتخلص منها.

وهنا، نجد أن “السبب الشخصي” يدركه الملحد، بخلاف “السبب النفسي” الذي يكون أعمق من الشخصي، ولا يدركه الملحد.. على النحو الذي قررته نظرية “التقصير الأبوي” لـ”بول فيتز”، والتي يرى فيها أن علاقة الطفل بأبيه إذا كانت سيئة، فهذا يجعل الطفل يكره “السلطة” الممثلة في الأب.. ومن ثم، عندما يكبر فإنه يكره السلطة الممثلة في السماء.. وهناك نظرية أخرى خاصة بالعلاقة مع الأم؛ فإذا كانت علاقة الطفل بأمه علاقة غير جيدة فإنه يلجأ لأحد أمرين؛ إما أن يزهد في رحمة الأم، ومن ثم رحمة السماء.. وإما أن يتبنى ردَّ فعلٍ عكسيًّا، أي يبحث عن الرحمة في أن يتدين تدينًا شديدًا متعصبًا متطرفًا.

د.عمرو شريف رفقة الزميل السنوسي محمد السنوسي

ولهذا أنا أربط الأمرين معًا بالقول: إذا كات الأسماء الإلهية فيها أسماء الجمال مثل الرحمن والغفور والودود.. وأسماء الجلال مثل المنتقم والعزيز والجبار.. فالجمال يتمثل في الأم، والجلال يتمثل في الأب.. وعند حدوث خلل في أي من هذين الأمرين (الأم والأب)، فإن صورة الألوهية عند الطفل تهتز بشدة. وقد لاحظ “بول فيتز” أيضًا أن معظم رموز “الاستنارة”؛ مثل فرويد، ونيتشه… كانت لديهم دوافع نفسية للإلحاد!! فالدوافع النفسية هي أقوى الدوافع.

أما “العوامل الاجتماعية” للإلحاد فتتمثل في الظروف الاجتماعية والتفاوت الكبير بين الطبقات؛ مما يجعل الشاب ممزقًا ويصاب بالضغوط ويكون فريسة سهلة لأي انحراف، مثل الإلحاد.

في كتابكم (وَهْم الإلحاد) أشرتم إلى وجود “أنماط” للإلحاد في العالم الغربي والشرقي.. نريد التوضيح.

الموجة الحالية للإلحاد في بلادنا العربية هي امتداد للموجة الإلحادية المعاصرة التي بدأت في الغرب من عام 2006م؛ ففي هذا العام رأينا كتبًا كثيرة تظهر عن الإلحاد، وشاهدنا مؤتمرات عالمية وفعاليات تنعقد وتتساءل: ماذا بعد الدين؟ وتقرر أن ما بعد الدين هو العلم، وأن الدين كان مرحلة في تاريخ البشرية.

فالنظرة السريعة تبين أن الإلحاد عندنا هو امتداد لهذه الموجة الغربية.. وهذا صحيح.. لكن مع ملاحظة أن الدوافع تختلف هنا وهناك؛ فالعوامل النفسية للإلحاد في بلادنا أكثر، بينما الأسباب العقلية في المجتمعات الغربية أكثر.. لأن الغرب لا يعاني من هذه العوامل النفسية كثيرًا؛ بمعنى أن من يريد أن يتحرر من قيود الدين فالطريق أمامه سهل مفتوح وليس عليه ضغوط؛ أما عندنا فمن يريد أن يتحرر من ذلك فإنه يعاني ويجد صعوبات، فيلجأ للإلحاد.

وهل صحيح أن ثمة مؤسسات تسعى لنشر الإلحاد؟

أنا لست من أنصار “نظرية المؤامرة”، ولكن إذا وُجدت المؤامرة وأنكرناها فقد شاركنا فيها! وبالنسبة لانتشار الإلحاد، نعم، بصمات المؤامرة ظاهرة. وهي تبدو في ظاهرها أنها ضد الأديان كلها، ولكن في المقام الأول هي مؤامرة ضد الإسلام.

وهذا كلام لا نُلقيه على عواهنه، بل له مبرراته. “ريتشارد دوكينز”- زعيم الإلحاد أو “نبي الإلحاد” في الغرب- له تصريح خطير جدًّا بعد أحداث 11 سبتمبر في أمريكا؛ قال فيه: “أعتقد أن المسيحية هي آخر القلاع للدفاع ضد شر أسوأ منها”؛ يقصد الإسلام!!

ومن خلال خبراتي الشخصية وحواراتي المباشرة مع الشباب، اعترف لي كثير منهم بأن هناك جهات تمدهم بالشبهات في مختلف التخصصات؛ فهناك من يتخصص في دراسة القرآن، وآخرون في السنة، وهكذا..

وإذا كنا نتحدث عن قناعة الفكر المادي بصدق مواقفه، فمن الطبيعي أن يبذل هذا الفكرُ الجهدَ وينفق المال ويقيم المؤسسات؛ من أجل أن يروج لمفاهيمه.. فهذا عمل متناغم مع قضيته! لكن يبقى السؤال عن دورنا نحن، وعن الجهود التي تُبذل في مقابل ذلك.

كتابات كثيرة تتحدث عن “الإلحاد” وخطره على الشباب.. هل صار الإلحاد ظاهرة؟

سبق أن فكرت في هذا الأمر، ولم أجد إجابة موضوعية عن: متى نعتبر الإلحاد ظاهرة؟ فليست لدينا دراسات توضح مثلاً أنه لو زاد الأمر عن عدد ما، فيمكن أن نعده ظاهرة.

وهناك دراسات أُجريت حول ذلك؛ أي رصد انتشار الإلحاد؛ منها دراسات “مركز جلوب” في دبي.. لكنها كانت قاصرة للغاية، واعتمدت عددًا محددًا من العينات- ألف شاب من كل دولة- بغض النظر عن الفارق الكبير بين عدد سكان هذه الدول! فهل يمكن أن نأخذ عينة واحدة من الصين مثلاً ومن دولة أخرى لا يتجاوز عدد سكانها ثلاثة ملايين! فالعينة ليست ممثلة.. وبالتالي تكون النتائج غير دقيقة، وإذا قلنا إن الإلحاد ينتشر في دولة ما بنسبة 5%، بناءً على مثل هذه الدراسات، فهذه نتيجة غير دقيقة بالمرة، وتعاني من خلل منهجي!

ومع هذا، فأستطيع أن أقول من خلال تجربتي الشخصية إن عدد من ألتقي بهم من شباب الملاحدة، في زيادة.. وعدد من يدخلون على الصفحات الإلكترونية المعروفة المروجة للإلحاد، في زيادة! وأصبح الأمر أكثر انتشارًا، حتى وإن خفت الكلام عن الإلحاد في الإعلام.. فهناك فرق بين الوجود الفعلي لأي ظاهرة، وبين حضورها في الإعلام وفي النقاش العام.

وهل يمكن القول إن الشباب هم الشريحة الأكثر استهدافًا للإلحاد؟ ولماذا يبدو فريسة سهلة؟

نعم، الشباب هم الأكثر استهدافًا لموجة الإلحاد؛ لِمَا تتصف به مرحلة الشباب، لاسيما في المراهقة، من “التمرد”، والرغبة في إثبات الذات، والتحرر من القيود، والتمرد على الثوابت العائلية والمجتمعية.

وهذا يعيدنا لأنماط الإلحاد التي أشرنا إليها؛ لنلاحظ أن “التمرد” سبب نفسي يوجد في مجتمعاتنا أكثر من الغرب؛ وذلك لوجود القيود الأسرية والعائلية عندنا.. بخلاف الغرب؛ الذي تحرر منها، ومن ثم لا يوجد عنده مبرر للتمرد كسبب نفسي.

وهل لدينا مؤسسات لرصد انتشار الإلحاد؟

لا شك أن الجهود المبذولة لرصد الإلحاد والتصدي له، جهود ضعيفة لا تكافئ الجهد المطلوب.. لكنني أشير في هذا المقام إلى ما يبذله الأزهر الشريف من جهود طيبة ومشكورة، وخاصة في المركز العالمي للفتوى الإلكترونية؛ فهم يعقدون دورات لتوعية الدعاة وتدريبهم على كيفية مناقشة الملحدين والتصدي لشبهاتهم وتحصين الشباب منهم، ويستعينون بي فيما يخص الشبهات العلمية؛ لأن الإلحاد له شبهات دينية وأخرى علمية.. فهذا جهد طيب، ما زلنا بحاجة للكثير مثله.

وقد التقيت الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، أكثر من مرة، وتحدثنا عن ضرورة تحصين شبابنا من الإلحاد.. وعقد الأزهر مؤتمرًا حول هذا الأمر.. وفي شهر مايو الماضي، شاركت في مؤتمر بسلطنة عمان عن الإلحاد، مع عدد من المفكرين والمهتمين بهذا الملف.

إذن، كيف يمكن التصدي للإلحاد؟

ينبغي أن ندرك أن الجهود الفكرية وحدها قاصرة عن أن تقوم بالمطلوب في التصدي للإلحاد؛ لأن الإلحاد ليس مجرد رد فعل ضد الدين، بل هو ظاهرة شديدة التفرع والتوغل في المجتمع.. فمثلاً، أُجريت دراسة عن الإلحاد في ماليزيا في فترة الستينيات، فكانت النسبة 5%، ثم أجريت دراسة أخرى عام 2010، فكانت النتيجة صفرًا؛ بما يعني أن ماليزيا حينما كانت تعاني ظروفًا اجتماعية واقتصادية صعبة، كانت بيئة سهلة للإلحاد؛ وحين تحولت إلى “نمر آسيوي” تغير الوضع.

فالشاب الذي يعاني ضغوطات الحياة، ويكون عاجزًا عن إثبات ذاته وتلبية احتياجاته ويرى إعلانات في الشوارع عن المسكن الفاخر بملايين الجنيهات.. سيكون فريسة للإلحاد، ويقع فيه لكن ليس من باب الجانب العقلي والفكري.

ولهذا، فالجهود الفكرية المبذولة للتصدي للإلحاد، لا يكون لها جدوى هنا، ولا يمكنها التصدي له على هذا المستوى. التصدي للإلحاد ينبغي أن يكون على جميع المستويات: الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والتربوية.. وفي الجانب الإعلامي، لا بد أن نناقش أسباب الإلحاد ونرد عليها بكل حرية وعقلانية؛ حتى لا نبدو أننا نهرب من المشكلة أو نعجز عن الرد عليها ونكتفي بدور المهاجِم فقط بلا حجة وبرهان.

كما أطالب بتجديد الخطاب الديني والفكر الديني، وبما يناسب الشباب؛ حتى نستطيع التواصل والتفاهم معهم.. بجانب الاهتمام بمناهج التعليم؛ التي تقدم المعرفة الصحيحة وتجيب للشباب عن تساؤلاتهم بوضوح وإقناع.

العلم.. مع الإيمان أم الإلحاد؟

الإجابة عن هذا السؤال تحتاج لطرح بعض الخلفيات.. فنقول: “الإلحاد الحديث”- ونقصد به الذي بدأ من القرن السادس عشر مع الثورات العلمية؛ بينما “الإلحاد المعاصر” هو الإلحاد الحالي- نشأ في إطار العوامل النفسية؛ فعندما قامت الثورات العلمية كانت الكنيسة مسيطرة على الساحة، وكان تفسير كل الظواهر يتم من خلال “تفسير غائي ديني”؛ أي إرجاع الظواهر مثل الزلازل والأمراض إلى غضب الإله وانتقامه، دون البحث عن السبب المباشر، وهو السبب الذي يهتم به العلم.. نعم، ليس هناك ما يمنع من “التفسير الغائي”، لكن العلم يهتم بـ”التفسير الآلي”.

وعندما طرح العلم “التفسيرَ الآلي” في الثورات العلمية، وتمسك رجال الكنيسة بـ”التفسير الغائي” واضطهدوا العلماء؛ ظهر الصراع بين العلم والكنيسة.. والذي أثبت موقفه وثبت أقدامه هنا، هو العلم؛ الذي حقق إنجازات كثيرة، وأحدث طفرات تكنولوجية ننعم بها في حياتنا.. فحصل استبدال “إله العلم” بـ”إله السماء”؛ وهذه علاقة نفيسة وليست علاقة علمية؛ لأنه لا يوجد اكتشاف علمي واحد ينفي الوجود الإلهي.. فمثلاً، لو قلنا الشمس تدور حول الأرض كما قال بطليموس، أو الأرض تدور حول الشمس كما قال كوبرنيكوس؛ فلا فرق في الحالتين من حيث احتياج الأرض والشمس للخالق سبحانه.. فليس هناك اكتشاف علمي يطرح حجة ضد الوجود الإلهي.. وإنما هناك حاجز نفسي، بسبب الثقة الكبيرة في العلم، واستبدال العلم بالإله.

وفي ظل هذا المناخ، جاءت محاولات رسم المنهج العلمي، ومن أهم العناصر التي وُضعت في هذا المنهج عدمُ القبول بأي “تفسيرات ميتافيزيقية” في العلم.. وهذا حقيقي وصواب؛ لأن المسلم وغيره إذا دخلوا المعمل فإن الخطوات المتبعة لدى كل منهما خطواتٌ واحدة، يفرضها المنهج العلمي الذي لا تتغير خطواته وآلياته بسبب تغير المعتقد لمن يُجري البحث العلمي.. لكن ما يتغير هو تفسير النتيجة العلمية، وتوظيفها في سياق دعم الإيمان أو الإلحاد.. أي أن ما يتغير هو “فلسفة العلم”، وليس “المنهج العلمي”.. و”فلسفة العلم” هي المعنية بالجانب الغائي من العلم، وليس بالجانب الآلي.

وعلينا أن نعرف أن الاقتصار على التفسيرات الغائية الدينية، يؤدي إلى توقف العلم؛ لأنه طبقًا لذلك: كل أمر يعود إلى المشيئة الإلهية، وتنتهي المسألة في تبسيط مخل.. بينما الحقيقة أن الله سبحانه أجرى الكون على سُنن وأسباب، وأمرنا بالتعامل مع ذلك اكتشافًا وتسخيرًا. وقد قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} (ق: 9)؛ فقوله {فَأَنبَتْنَا بِهِ} يعني أنه أسند الإنبات إلى السبب المباشر، وهو الماء.. لكن البعض يكتفي بالأسباب ولا يَصْعَد بالنظر لأعلى، أي إلى المسبِّب وخالق الأسباب سبحانه.

ولهذا، في إجابة التساؤل حول العلم؛ هل هو مع الدين أم الإلحاد؛ نقول بأن العلم في حد ذاته- أي في المستوى الحرفي الآلي- لا علاقة له بالإيمان أو الإلحاد.. لأنه يتكلم في الآليات لا الغايات.. يهتم بالسبب الأول للظاهرة، ولا يتكلم في السبب الأعلى.. هو يتحدث مثلاً عن الزمان والمكان وعلاقة الإنسان بالأرض، أي الجاذبية.. لكن مهمة الإنسان هي أن يصعد إلى السبب الأعلى، الخالق سبحانه، ويتساءل: من أين جاء الزمان والمكان والجاذبية.. وهنا، يكون العلم مدخلاً للإيمان، بدلاً من الاكتفاء بالسبب المباشر وتوظيف العلم في الترويج للإلحاد.

ولهذا، ثمة فرق كبير بين “المنهج المادي”، أي الاهتمام بالمادة؛ وهذا منهج علمي.. وبين “الفلسفة المادية”، وهي ليست من العلم في شيء، بل توظِّف العلمَ لمصلحة الإلحاد. فالعلم لا يتناول الغيب، لكنه لا ينكره. وهنا يحدث الخلط! فعندما يقال للطلاب: المنهج العلمي منهج مادي يهتم بالمادة داخل المعمل، يفهم البعض خطأً أن هذا يعني القولَ بـ”الفلسفة المادية”، أي إنكار الإله! بينما المقصود أن الغيب- بما فيه من الوجود الإلهي- لا يخضع للمادة؛ أي لا يخضع للمنهج العلمي الآلي المختبري.

فالتفكير العلمي يقف عند الآليات، لكن هناك مستوى أعلى- وهو الغائيات- ويجب أن نصعد إليه ولا نقتصر على المستوى الآلي المادي الإجرائي.. أي توظيف “فلسفة العلم” في الإيمان وليس ضد الإيمان.. فالملحد يُخرِّج من العلم إلحادًا، بينما المؤمن يخرّج من العلم إيمانًا.. فالمسألة لا تتعلق بالمنهج العلمي وحده، وإنما باستثماره وتوظيفه.

وفي القرآن الكريم نلاحظ مصداق ذلك، حينما يجعل الله تعالى آيات الأنفس والآفاق هي الشاهد على أن الدين حق؛ وذلك في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: 53). ودائما أقول: العلم “فرس الرهان”؛ من يراهن عليه يكسب! وللأسف، المتدينون تقاعسوا في الرهان، بينما الملاحدة بادروا إلى الرهان على العلم واعتبروه فرسهم.. ونحن أخذنا موقفًا دفاعيًّا.

لقد تفرد الإسلام عن الديانات السابقة بأن جعل للإنسان كتابين؛ كتاب الله المقروء (القرآن الكريم)، وكتاب الله المنظور (الكون).. وإذا كان كتاب الوحي قد انقطع بوفاة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كتاب الكون يتجلَّى يومًا بعد يوم، كما أشار لذلك المفكر جودت سعيد.. ولهذا كان الإسلام خاتم الرسالات السماوية؛ لأنه يسلِّم الإنسانَ للعقل والعلم، وبالتالي لا حاجة لمجيء دين بعده يصحح للناس، وإنما يأتي مصلحون ومجدِّدون، كما أخبرنا بذلك الحديث النبوي المعروف.

وماذا عن الجدل بشأن “نظرية التطور”، أو ما تقولون به من “التطور الموجَّه”.. وعلاقة ذلك بالإيمان والإلحاد؟

نعود إلى ما قلناه عما جرى في بدايات الثورات العلمية في القرن السادس عشر الميلادي؛ فالفكر المادي مع اكتشافات كوبرنيكوس وجاليليو ونيوتن- وهي اكتشافات فيزيائية- أصبح يُفسَّر كلَّ شيء بالآليات؛ فسقط- عندهم- مفهوم الألوهية والغيب بالنسبة لـ(عالَم الفيزياء).. وظل الفكر المادي في شبق إلى مثل هذا الإنجاز في (عالَم البيولوجيا)، حتى يفسر كلَّ شيء تفسيرًا ماديًّا ويلغي الاحتياج إلى الإله! أي إلى طَرْحِ آليات جديدة، لا يحتاج معها إلى القول بالوجود الإلهي.. حتى جاء دارون بنظرية التطور.. فنظرية التطور لم تطرح الفكر المادي، وإنما الفكر المادي كان موجودًا ومنتظرًا القول بآلية جديدة كما حدث في الفيزياء.

إذن، جاء دارون بآلية جديدة في تعدد وتنوع الكائنات، آلية لا تستند للقول بالخَلْق المباشر- أي أن كل كائن خلقه الله كما هو على هيئته- وإنما حدث تطور عن خلية واحدة أُولى حتى وصلنا إلى الإنسان، وعَبْر آلية الانتخاب الطبيعي. وهنا، تلقف الماديون ما جاء به دارون، للقول بنفي الوجود الإلهي، والاقتصار على السبب المباشر للخلق.. وللعلم، لم يكن دارون ملحدًا وإنما كان مؤمنًا، وهو لم يقل إن الإنسان أصله قرد، كما يزعم مهاجمو نظرية التطور.

ولما ظهر دارون بكتابه (أصل الأنواع) عام 1859م، هاجمته الكنيسة، واعتبروا أنه أسقط دور الإله في الخلق.. بينما كانت الأمور عندنا هادئة، حتى إن الشيخ حسين الجسر- والد الشيخ نديم الجسر صاحب (قصة الإيمان بين العلم والفلسفة والقرآن)- قال: سواء ثبت التطور أو لم يثبت، فإنه يتماشى مع المفهوم الديني؛ لأن الإله هو الخالق في كلتا الحالتين، أي سواء قلنا إنه خلق خَلْقًا خاصًّا أو خلقًا تطوريًّا- وهو ما أسميه “التطور الموجَّه”، أي ليس عشوائيًّا- فإن الإله هو الخالق في الحالتين.

ولهذا قال فرانسيس كولينز، رئيس مشروع الجينوم: “مَن الذي يَحْجر على الإله أن يستخدم آلية التطور”! فالخلق مجرد آلية، سواء كان بالخلق المباشر أو بالخلق المتطور.. فالقول بالتطور- أو “التطوير”، إذا شئنا الدقة، كما قال د. مصطفى محمود- لا يعني نَفْيَ الوجود الإلهي، أي الخالق سبحانه.

ومن هنا، جاء الوهم بأن نظرية التطور تدعو للإلحاد، وحدث الصراع في عالم البيولوجيا كما حدث في عالم الفيزياء. ولهذا قال دوكينز، زعيم الملاحدة: “لقد قدَّم لنا دارون ما نبحث عنه في عالم البيولوجيا”. أي قدم الآليات وأسقط الخالق! مع أن دارون نفسه كان مؤمنًا كما أشرنا من قبل، وكان مؤمنًا بأن الخلية الأُولى التي بدأ مها التطور، لا بد لها من خالق.. لكن بادر الملاحدة وتمسَّحوا في دارون، ونسبوه إليهم.. ونحن استسهلنا القول برفض نظرية التطور!

نعم، لا شك أن ثمة تعارضًا ظاهريًّا بين آيات الخلق في القرآن الكريم وبين نظرية التطور.. لكن علينا أن نبذل الجهود لإزالة هذا التعارض، لا أن نكذِّب حقائق العلم، ونجعل أبناءنا الذين يدرسون العلم في صراع نفسي بين ما يدرسون وما يؤمنون به، فيندفع بعضهم للإلحاد!

وفي هذا الصدد، علينا أن نعرف أن لكل من عالَمَيْ الغيب والشهادة طبيعته وقوانينه، ولا يصح أن نُجري أحدهما على الآخر، ولا أن نفسِّر ما يقال في “عالم الغيب” طبقًا لما نعرفه في “عالم الشهادة”.. وأيًّا كانت طريقة خلق آدم وطبيعته، فما يهمنا في قصته هو العبرة منها؛ والتي تتمثل في أن الإنسان كائن ثنائي من روح وجسد، وأنني مكلف، وأن عدوي إبليس، وأن التوبة طريق الإنسان عند الخطأ.. ثم بعد ذلك، علينا أن نفوض الجانب الغيبي في القصة إلى علم الله تعالى. لكن ما يحدث هو أننا ننشعل بالتفاصيل، وتغيب عنا الحكمة من القصص القرآني!

وهذا هو موقفي الذي انتهيت إليه في “نموذجي المعرفي”؛ أي الإيمان بالغيب وتفويض علمه إلى الله تعالى، بعد أن كنت أسعى إلى تأويل الآيات، كما فعل علماء كثيرون من قبل.

في أول أكتوبر (2022م) أُعلن عن فوز العالم السويدي “سفانتي بابو”، بجائزة نوبل في “علم وظائف الأعضاء أو الطب”؛ وذكرت لجنة الجائزة أنه حقق المهمة التي تبدو مستحيلة، المتمثلة في فك الشفرة الجينية لأحد أقاربنا البشريين المنقرضين، “إنسان نياندرتال” أو “الإنسان البدائي”.. هل رأيتم هذا في سياق “العلم والإيمان”، أم “العلم والإلحاد”؟

الإجابة عن ذلك هي نفس ما قلناه عن المنهج العلمي الذي يهتم بالآليات، ويمكن توظيفه في سياق الإيمان أو الإلحاد.. فـ”بابو” مُنح “نوبل” لأنه طرح آلية جديدة استطاعت تحديد جينات كائنات انقرضت خاصة بالإنسان البدائي، من 30 ألف سنة، وأعاد تشكيل DNA  لهذا الإنسان.. فهذا اكتشاف علمي يمكن توظيفه، سواء في سياق الإلحاد والقول بعدم الحاجة للخلق الإلهي، وأن ما حدث كان بشكل تطوري صدفوي.. أو في سياق الإيمان من خلال معرفة أن هذه البِنْية الجينية تبلغ من الانبهار حدًّا لا يمكن تصوره- فضلاً عن عمل شيء مثله- ولا يمكن أن يكون ذلك عشوائيًّا؛ مما يجعلنا نوظف ذلك في صف الإيمان.. فالعلم يطرح آليات مجردة، وتظل هذه الآليات بحاجة للتساؤل: ومن خلق هذه الآليات؟

فأي اكتشاف علمي يمكن توظيفه في سياقَيْ الإيمان أو الإلحاد! لأن هذا التوظيف يتصل بـ”فلسفة العلم” وليس بـ”المنهج العلمي” المجرد. إن اكتشاف “بابو” اكتشاف مهم، وكبير جدًّا، وهو يؤيد التطور؛ الذي نؤمن بأنه “تطور موجَّه” من الله عز وجل، وليس أبدًا تطورًا عشوائيًّا.